نهايات مؤسفة

الأربعاء 2022/06/01
لوحة: عادل داود

1- نهاية بـُوك سعيــد، وانصباب دمه:

تدور أحداث هذه النهايات مع بدايات الربع الأخير من القرن السادس عشر المسيحي، عندما احتلت جيوش التُرك العصماليين فزانَ لأول مرة، ثم تخلف فيها أحد انكشارية الديوان حاكماً، قيل اسمه مـامي، هذا ما يبدو.

وصل الجند المنهكون النهمون بلدة سبها أولاً، فأثاروا الرعبَ في نفوس الفزازنة البسطاء، وقضوا على سلطانتهم الجميلة خَوذ، حيث أحرقوها حية، مع ما كانت تتمتع به من أخلاق عالية، أما سِيك (علي الرغايلي) شيخ ركب الوطنيين الأحرار الذين أوصلوا الجند إليها، وتركوهم لنهايات مظلمة فاحت رائحتها بعد سنين خمس، فقد ذوى ذكره، أو مات ميتة شنيعة مثل موتة القفقازي (بونسيد) المؤسفة، أو مصير (بوك سعيد) المأساوي، ضمن من ماتوا أو اختفوا، وإليكم بعض التفاصيل:

بوك سعيد، شويشين أسود من شواشنة خـوذ، أمسك به جند الترك على رأس من أمسكوا في الوجبة الأولى من المَسك، حققوا معه وقرّروه بشأن الخزنة، وهو يحلف ويتقشْمط، فلم يجدوا عنده شيئاً، فتشوا أمتعته وقراره فوجدوا بين ما وجدوه: مقرونة زوّازي وأربعة أبّاليص، يستعملها مزماراً في بعض الأماسي للترويح عن نفسه تحت نخلة تاليس.

أمسك جندي عصمالي غاضب ببالوص منها عندما كان ينكّت أمتعته الرثة أو كما تقول جدتي قْرار العازة، بحثاً عن الخزنة، جرّبه فزوّى وأخرج صوتاً في غير وقته، فضرب البالوص بمزماره على رأس بوك سعيد فزوّى هو الآخر، أي صرخ، كان التركي في عجلة من أمره، لذلك لم يتمكن إلا من ردسه على فم كبده، ثم وهو خارج، أعطاه كفين فقط نسميها رياحيات، ودفل عليه، ثم مضى يبحث وينكّت.

كانت ميتة بوك سعيد ميتة شنيعة، فقد خلّف ثلاثة أطفال ذكور، أصغرهم بلا ختان، وأكبرهم صبي في الثانية عشرة، مضى وتركهم وراءه يتصايحون مثل طيور الدما، كانت فزان آنذاك في أسوأ أيامها.

أحد الشيوخ وقد أنهى وضوءه من إبريق قلاّل مشلوم أمام جامع سيدي عبدالله الناعمي، بمنطقة الجديد الشارف، ثم جلس على نطع غزال يستقطر ماء وضوئه على الرمل، ويصف الحال التي آل إليها هؤلاء الأطفال اليتامى:

            • أسمعني يا حاج سالم، هالذريرية تقزّنوا قزنة حمير، لا ترويم، لا حْضانة.

كان حياة والدهم – رحمة الله عليه – مخلصاً لسيدته، يدافع عنها ويرعى الخراف والمعيز في بستان السانية وينش الدجاج العربي، إش إش، حتى لا يعبث بالغرس، أو يقف فوق اليقطينة الكبيرة التي نسميها بكيوة، ينقرها ويؤذّن، ثم ينزل إلى جداول النعناع يستعرض مناقبه فيها.

يقوم بوك سعيد منذ الفجر الأول يجبد، ويسقي النخل، يوبّره في مواسمه، ثم يعتني بفسائله، ويجني ثمره، ويطرد العابثين من الصبيان الذين يقذفون الغمق بالطوب قبل نضجه، فيسّاقط عليهم الغمق والصيص فيتصايحون لانتهابه من أيدي بعضهم البعض، فيسمع الصياح والزازا، ويجري وراءهم يقسم ويتحلّف، ثم يلوي رأسه راجعاً، إما مستندماً إذا كانت أول مرة لهم، أو مستقبحاً تربيتهم إذا كرّروها، فيهرش براريم شعره الأجعد القصير، ويعدّل طاقيته أماماً وخلفاً، فيقطر العرق من جبهته حتى أنفه، فيمسحه بذراعٍ أسود خالٍ من الشعر، ثم يعود إلى عمله.

 في بعض المرات كان يصعد نخلة التاليس يراقبهم أين ذهبوا، وفي الوقت نفسه يستكشف بستان السانية بالشبر، يجول فيها بنظره الحاد رغم آثار العمش الذي لم يرحل منذ أن عرفه هؤلاء الصبية وعزّروه مشنعين:

            • يا لعمش، يا معمّش، تيت تيت.

لوحة: عادل داود
لوحة: عادل داود

يبتلع الإهانة الصغيرة، ويمسحها كما مسح العرق ويتجول في جداول وأسطر البصل، ثم يعرج على اليقطينات وقد انتفخت كبطون الحوامل، متذكراً مرة من المرات وقد قدمت خوذ وهي حامل، ربما كانت في شهرها التاسع، فقد كانت بطنها كاليقطينة منتفخة بإحدى بنيّاتها، تجولت في السانية واشتهت جرو بكيوة، كانت البكيوة كبيرة، سمى باسم الله وقطفها، ثم أخذها بين يديه، وسيدته بقربه تمشي ببطء حامل، كان مشهداً متناسقاً، يبدو وكأنهما نسختان متطابقتان، هي متكومة البطن وتضع يديها حول بطنها، وهو متكوم اليقطينة يضعها أمام بطنه ويمضمها بيديه، تذكر ذلك الموقف، فأخذ يتمتم مادحاً سيدته خوذ بهذه الأغنية التي كانت متداولة:

أم البصلّ سطرْ في سطرْ.:. وأم البكيــوَة الكبيـــرة

وغرغاز في سانة القصر.:. يا وَخيْ ما اكبر نفيره

كان رحمه الله يفعل كل ذلك عن طيب خاطر وبإخلاص، إرضاءً لسيدته، ففي رضاها رضى لنفسه.

يقول عنه بعض الناس إنه مِلحاح ونقراز، يلح كثيراً على استرداد حقوقها عند الآخرين، وينقرز مهدداً المماطلين بأن يصل الأمر إلى مسامع خوذ، والناس توقيراً لها، وفي خيالهم يجمح فرس جَمالها، وتتهادى جِمال أدبها الرصين، ويقولون في سرهم: – إلا هَذي.

 كان صوته جلياً واضحاً حاداً ذا رنين صافٍ مثل رنين القرش الجديد، حروف كلامه صافية نقية، كأنها كتبت بقصبة مبرية، لو قُيّض أن سمعها خطاط مثل ابن مُقلة لكتبها بخط سماه البوسعيدي، لأنه لا خط يليق بها إلا هذا، الأمر الذي جعل لحجته وضوحاً، فقد كان – رحمه الله – لا يعرف الألاعيب والتروكوات، حتى قيل في التخلص من إلحاحه وعدم مجاملته:

            • الفكّة من سعيد، عيد.

 أما قصة الفكاك منه فهي كالآتي:

بعد أن ضربه الجند بالعصا وقرّروه، ولم يجدوا عنده سوى سقط المتاع الذي نسميه التِشتِش، ربطوا في رقبته رشا طويل، قبل أن يُصعِدوه قهراً نخلة التاليس حتى نهايتها، كان السوط يصلي ظهره، وهو يصرخ ويزقي بصوت صافي العويل كالجدي الأسود الملتاع، وكانت النخلة طويلة ومنحنية عند منتصفها، كمقطع نصفي من ثعبان يتلوّى.

أما صغاره – اليتامى فيما بعد – فكان ثلاثتهم تحت النخلة مع الناس ينظرون إلى المتعلّي في السماء، يتباكون بلا حدود، وهو يبكي لبكائهم، تنزل دمعاته ثلاثاً ثلاثا من علِ نخلة التاليس تقجّ كحبات مطر أسود.

عندما استوى بوك سعيد تماما فوق أعالي التاليسة، تجشأ تقريعته الشهيرة وكانت بنكهة عيش وخميرة، حتى طفحت فوق حلقه، كانت جشأة في غير وقتها ولا موضوعها، وكانت قدماه حافيتين يشرشر الدم منهما، حاسر الرأس، فقد وقعت تلك الطاقية الشهيرة مصفرّة الحافة من العرق والتراب والأهوال التي شهدتها ذلك اليوم، كان أيضاً قشف الهيأة، متهنتش، متهذرب، جال ببصره، فرأى بستانه، السانية التي يسميها الناس سانية خوذ تحت مرمى دموعه، فتجولت عيناه العمشوان فيها، وتذكر أنه نسي أن يعشّي الحمارة، يحش لها نبات القضب، ويأخذه إليها في غُمره، فيلقيه أمامها، تُبطبط الحمارة أذنيها فرحاً وامتناناً لِبُوها سعيد، كأنها تصفق له شاكرة، ثم تمضي تأكل القضب وتلفلف عشاءها، فيربت على عنقها المنسدل إلى الأرض وهو يدعو الله في سره أن يحفظها من زوّار السوء.

فكّر أيضاً فيمن يجبد بعده من الأفجار، فيسقي النخل، يوبّره في مواسمه، ثم يعتني بفسائله، ويجني ثمره، ويطرد العابثين من الصبيان الذين يقذفون الغمق بالطوب قبل نضجه. فيسّاقط عليهم ويتصارعون لانتهابه من أيدي بعضهم البعض، قال لنفسه من يسمع الزازا يا سعيد، ومن يجري وراء هؤلاء الملاعين الصغار يقسم ويتحلّف، ثم يلوي عنقه راجعاً مدبراً، إما مستندماً إذا كانت أول مرة لهم، أو مستقبحاً تربيتهم إذا كرروها، ومن يهرش براريم شعره الأجعد القصير، ويعدّل طاقيته أماماً وخلفاً، فيقطر العرق من جبهته حتى أنفه، فيمسحه بذراعه الأسود الخالي من الشعر، ثم يعود إلى عمله، من يا سعيد يصعد نخلة التاليس يراقبهم أين ذهبوا، وفي الوقت نفسه يستكشف السانية بالشبر، يجول فيها بنظره الحاد رغم آثار العمش الذي لم يرحل منذ أن عرفه هؤلاء الصبية، وعزّروه مشنعين.

من يا سعيد غيرك يبتلع الإهانة الصغيرة، ويمسحها كما مسح العرق، ويتجول في جداول وأسطر البصل، أو هو يرى اليقطينات وقد انتفخت كبطون الحوامل، فيتمتم مادحاً سيدته خوذ، ومن يصعد نخلة التاليس يراقب هؤلاء الصبية الطيبين – الذين يتباكون الآن جميعاً أسفل النخلة – يراقبهم أين ذهبت شيطنتهم.

أراد بوك سعيد – يا سالم – أن يفكر في كل المواضيع التي سيتركها دون إتمام، ولكنّ أحداً ما انتشله من تفاكير حيرته، فجذب الحبل بقوة، فهَوَى.

في الطريق إلى الأرض، قالوا إنه قال بيتاً من الشعر، البعض قال لم يقله، فهو لم يقرض الشعر في حياته، ولم يكن شاعراً، كان جباداً ابن جباد، أُختلف فيما بعد في تفاصيل الموضوع، إلا أن الكثيرين أجمعوا على أنهم سمعوا هذا البيت:

شقا الوقت ما اتمّاش لين يتمّك.:. وما تتركه لين التراب يغُمّك

على كُلّك يا حال، قال هذا البيت وهو هاوٍ من عُلاه يِلوي، فدُقت عنقه، وغَمّه تراب فزان ورملها الناعم، وسال دمه الأسود في الرمل كالبترول.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.