هدوء وتسامح: عن اشاعة اسمها "الدين الإبراهيمي"

الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: قيس السندي

في عام 1996، أعدّت بي بي سي برنامجا عن اكتشاف أثري إشكالي. في موقع حفريات لبناء في القدس، عثر العمال في جبّ على ثلاثة توابيت حجرية. استدعوا خبراء من هيئة الآثار الإسرائيلية. ما ميز هذا الاكتشاف الأثري هو الأسماء المنحوتة على التوابيت: يوسف، مريم، ويسوع. تكتّم الإسرائيليون على الأمر لسنوات، ثم التقطه منتج لبي بي سي ليعدّ برنامجا عن المسيح. كان محور البرنامج أن هذا تابوت ليسوع، أي مات ودفن في مقبرة دفن فيها أبوه وأمه. انتشرت الحكاية يومها في تحد لمعتقدات هي أساس الديانة المسيحية: العذاب والخلاص والصلب والموت ثم القيامة.

حمل مراسل إحدى الصحف الموضوع إلى رئيس أساقفة كانتربيري جورج كاري. رئيس الأساقفة في الكنيسة الأنغليكانية هو الشخص الثاني في تراتبية الكنيسة بعد الملك/الملكة رئيس/رئيسة الكنيسة، والشخصية الأولى دينيا. سأله المراسل: هذا الاكتشاف يطيح بكل المعتقد الديني. ردّ كاري كان رصينا وواثقا: إذا تقصد يسوع المسيح الإنسان فهذا لا تعليق لديّ عليه، لأن المسيح اليوم هو فكرة لا علاقة لها بجسد وتابوت؛ وإذا كنت تقصد الكنيسة التي قامت على أساس الفكرة، فهي مؤسسة راسخة الآن وتجاوزت معطيات التأسيس. ردّ إنجليزي هادئ على قضية إشكالية. لكن الهدوء الأهم كان هدوء الإيمان. الكنائس الغربية تعلمت دروسها جيدا من أخطاء الماضي والمبالغات وصكوك الغفران والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش. الإيمان أوّلا الآن.

طوي الأمر بعد عرض البرنامج، واستمر المؤمنون بالذهاب إلى قداس الأحد.

في نوفمبر 2021، ألقى شيخ الأزهر أحمد الطيب كلمة في احتفال “بيت العائلة المصرية”. لسبب ما، يعتقد الطيب أن هناك مؤامرة عالمية لتأسيس شيء اسمه “الدين الإبراهيمي”. الشيخ الطيب من مؤسسي “البيت الإبراهيمي”، وهو مشروع ثقافي يهدف إلى تثبيت عرى التسامح بين الأديان في عالم ينزف من الحروب الدينية الطائفية. ومنذ أوّل يوم تأسس المشروع في أبوظبي، كان التخطيط المعماري لمؤسسة “البيت الإبراهيمي” واضحا: ثلاثة أبنية منفصلة ترمز إلى الديانات الإبراهيمية الثلاث. لسبب مّا اختلط الأمر على مشيخة الأزهر، بين اتفاقات السلام التي سميت “اتفاقات إبراهام” وجمعت دولا خليجية مع إسرائيل في إطار سبقتهم إليه مصر منذ عقود في اتفاقية كامب ديفيد والأردن في اتفاقية وادي عربة، وبين إشاعة مهما حاولت تتبع أصلها إعلاميا، لن تجد أن أحدا تحدث بها قبل الطيب.

لا نعرف من ابتكر فكرة أو مسمّى “الدين الإبراهيمي”. لكن تعليق شيخ الأزهر عليها ووصفها بـ”أضغاث أحلام”، جعلها تبدو وكأنها حقيقة. هذا القلق الذي عبّر عنه الطيب ما لبث أن انتقل إلى البابا تواضروس الثاني بابا أقباط مصر. علّق على إشاعة “الدين الإبراهيمي” بأنها فكرة مرفوضة تماما وغير مقبولة. ردّان متوتران من أهم مرجعيتين على إشاعة. وهي إشاعة ضعيفة لا تستقيم مع أيّ منطق، ولا تقارن بلقى أثرية مثلا. في بلد مثل مصر، حيث قتل متشددون إسلاميون أقباطا في هجمات على كنائس وأحياء سكنية في قرى في أكثر من مناسبة، كان الرد الأمثل، حتى لو وجدت هذه الإشاعة أصلا، هو الإهمال. إرساء التسامح يحتاج هدوءا في الردود يعكس الإيمان الذي هو لبنة الديانات الأساسية.

مطلق الإشاعة المغرضة أو مشروع الفتنة هذا، لم يسأل نفسه أسئلة أساسية. هل يوجد عاقل يمكن أن يتخيل أن أحدا يمكن أن يفكر باستحداث دين جامع بين الإسلام والمسيحية واليهودية. ليس لديّ معرفة بانشقاقات الديانة اليهودية، لكن نظرة سريعة على انشقاقات الإسلام والمسيحية الداخلية تكفي للرد على منطق استحداث الدين الجامع.

في الإسلام بدأ الانشقاق مبكرا جدا، في القرن الأول من البعثة، ولا يزال قائما بعد أن صار يحمل مسمى المذاهب والطوائف. في داخل كل مذهب وطائفة، هناك المزيد من التشظي. لا أحد صار يجازف بالحديث عن تقارب المذاهب الإسلامية في عالم عربي تتنازعه شعبوية دينية، وحروب لا أحد صار يحرص على إخفائها بمسميات غير طائفية. توحيد مذاهب الدين الإسلامي أولى من الحديث عن دين جديد.

في المسيحية، بدأ الانشقاق أو الانفصال مبكرا أيضا، وعلى مراحل امتدت لعشرة قرون: من الانشقاق المرقيوني عام 144، إلى “الانشقاق العظيم” للكنيسة بين شرقية أرثوذوكسية وغربية كاثوليكية عام 1054. ثم جاء الانشقاق الكبير الآخر من داخل الكنيسة الكاثوليكية الغربية في القرن السادس عشر، وتأسست البروتستانتية، ثم نشأت كنائس متفرعة يختلط فيها الديني مع السياسي مع الجغرافي. هل من الوارد اليوم الحديث عن توحيد كنائس المسيحية المختلفة، لنصل إلى الحديث عن دين جديد.

المؤسسات الدينية الكبرى تحتاج إلى الهدوء في التعامل مع قضايا الأديان. تحتاج أن تكون مؤسسات ثقافية مثلما هي دينية. الكوارث التي تعصف بالشرق الأوسط لا تحتاج إلى منزلقات جديدة تقوم على اللامنطق والفتن. التسامح اللفظي الذي نسمعه على لسان رجال الدين يحتاج أن يكون حقيقيا راسخا على قاعدة ايمان متينة لا تهتز مع كل هبة إشاعة. لعلنا نتعلم من حكاية التوابيت الثلاثة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.