هضمت الوحي وقلتهُ كاملًا

الجمعة 2021/10/01
لوحة: فيصل لعيبي

‏لو رفع اليتامى صور أمهاتهم

‏‎في أحدِ أعيادِ الأمِ، رفع اليتامى صور أمهاتهم جهةَ اللهِ، وانتزعوا ظلَّ السماءِ الكئيب، غاضبينَ كانوا، لكن دمعة لم تسقط. هي ثورةُ الأمهاتِ سَمَّوها، مطالبينَ بالقصاصِ، كانت أعدادهم تتزايدُ، ففي هذا العالمِ تموت الأمهاتُ كثيرًا. كانوا يرغبون بنبيَّةٍ أمٍّ، بديانةِ ثديٍّ جديدةٍ، رافعين أصواتهم، والريحُ تشتدُ: أول الأيتامِ أنا.

‏‎من سيجيبُهم، ولسانُ الوحيِ مقطوعٌ؟ من سيجيبُ والسماءُ ألقتِ الخاتمَ منذُ زمنٍ؟ كانوا واثقينَ، بعض أطفالٍ يغنونَ عن الحليبِ، ويجهِّزون بئرًا، وكأنما المعجزاتُ لم تَمُتْ.

الراوي، كان على قمةِ حزنٍ، الوحيد الذي يبكي لمشهدِ القيامةِ هذا. يقول: فجأةً، رفع المتظاهرون، صورةً للمرأة نفسها، الآلافُ، جثموا على ركبهم، حتى الريحُ، على ركبتيها. أمٌّ واحدة، جعلت كلَّ اليتامى صامتين، هادئينَ.

هي الكثيرةُ، وكأنَّها ملاذاتٌ لا تنتهي، وفيها سحنةٌ من نورٍ.

بدأت السماءُ تنشقُّ، والحاضرون دفنوا رؤوسهم في الأرضِ. أسمع طبلًا، وهتافَ عظامٍ راجفةٍ، والأطفالُ كانوا وحدهم، شجعان القضيةِ، من رأوا وجههُ، وشاهدوا الآبارَ تتفجرُ بالحليبِ، والسماءَ تمطرُهم أمًّا أمًّا بحيث لم يبقَ رمقٌ يتيمٌ. آخ لو رفع اليتامى صور أمهاتهم.

 

إلى التسعة المقدسين

لوحة: فيصل لعيبي
لوحة: فيصل لعيبي

نطفةُ روحٍ تدخلُ ماكينةَ الحياةِ، تُصهرُ، تخلطُ بالطينِ، أيُّها الأصدقاءُ هكذا خلُقنا، في مصنعِ السماءِ، ماكينةٌ عملاقةٌ، تصنع الأجسادَ وترمي الرؤوس عليها. كان الملائكةُ يلقون بالبضاعةِ التالفة، قبل دخولها سوقَ الله. والأرضُ تاجرتُنا الكبيرةُ، لم تكفِها الثروةُ فاختارتنا عبيدًا.

كانت هناك، أجسادٌ بيضاء برؤوسٍ سوداء، رفضوها، ألقوها من على القدرِ إلى الحضيضِ، عبّادُ التناسقُ والتكرارِ، ما أشبهَ الملائكة بالروبوتات.

كان لا بد من خطأٍ، لا بدَّ من شحنةٍ، يسهو عنها العمالُ، فيُخلَقُ شاعرٌ، يسقط، على الساحل، ويختبر الحاناتِ جميعها، يجلس على ظلمةِ كرسيهِ، ويدرك جيدًا، أن من يهزُّ ساق راحتهِ، هو الموت ذاتهُ، لكنه بضحكةٍ سوداءَ، يكتب مسرحيةً وينامُ.

كان لا بدَّ أيضًا، من هروبِ صاحبة القلب المطحونِ، التي فلتت من قبضة الملاكِ، فقدت شعرها، وهبطت لكنها لم تسقط أبدًا، وعاقرتَ العنب المعتق، أجملُ احمرارٍ في الحياةِ، بعد الدمِّ، لتسيرَ هي، في نوباتها المظلمة، تمشي في بيتِ الرعبِ، عقلها المصون.

وتلك، التي أوقف شعرها الغجريُّ خط إنتاج البشرية، فحاولوا قطعهُ، لكنهم، جرحوا أيديهم، وهي نزلت، فتاة المظلةِ، داست على العشبِ اليابس بهدوءٍ، خُدشت، وصار هو ورقةَ الإنجيل المخطوفة.

وكان أيضًا، هاربٌ آخرُ، الغريبُ الذي قايض الملائكةَ، وقال دعوني: أمرُّ ناقصًا وسآتيكم بجميع المتمردين. عبرَ بالقانونِ، وهو يبتسمُ، قبل وجودهِ الفعلي، وقصيدتهُ في جيبهِ.

من يعتقدُ بأن ما حدثَ كان متعمدًا، وأن الوجود لم يخطئ، فهو لا يدرِكُ الشعرَ!

كيفَ تطوفُ المتصوفةُ، من أمام المقصلةِ؟ كيف تجتازُ خبراءَ الإيمان؟ كيف ظنوا بأنها اعتيادٌ؟ ومثل سابقيها، دخلت الأرض، ورسمتها، وكتبتها، وشكّلتها!

والعفريتُ المتسلسلُ، القُنبلةُ، سكرانًا، رفع إصبعهُ ومرَّ، حاملًا قلب الموت.

والنورُ كيف فرَّ من المصباحِ، في المشكاةِ، ونزل يصعق الأسئلة في حيرة الإنسانِ.

هل يدرون ما يجري؟ البليدون ذوو أجنحةِ القصديرِ، الراسبون دومًا، في امتحان التفرد.

وريتا كانت مسيحية! اسألوا المسيحَ، أو ابحثوا عن فلسطين. ريتا لم تحمل المسدس، كذب الشعراءُ، ولو صدقتُ أنا.

والفتاةُ، غنّت تعاويذها، فرقصوا مرغمينَ؛ شدّوا شعورهم، خائفين، حتّى العريقُ كاد ينتحر.

الإقطاعيُّ، ممثل المظلوميّةَ، مجيدُ لغاتِ العصر، ألم يروا امتلاءاته؟

صدقوني، إنهم أغبياءُ وينامون كثيرًا، عمالُ هذا الكون. وأنا لففتُ ما سر لي من العالم، منصتًا إلى هديرِ العين، محملقًا فيَّ، خاليًا من بداية، وبما أملك من عشق دمرتُها، رمادٌ رماد.

 

حانَ الكلامُ،

إذن حانَ الكلامُ، ها هي الشمسُ تعودُ، لتخترق القناني، راقبوا الضوء وهو يسكرُ، تلك إشارةٌ، وقبل أن أبدأ سأنتهي، لكن لا تصفقوا أبدًا، بل تابعوا ذبول السراب. حان وقتي لأكشفَ عن كنهِ، الزمن، القبلات، عن الذاكرة المختبئة في الشروخ. سأستدعي قرونًا ساحقة، سأمسح بيدي المجروحة مصباحَ الأرضِ، لتخرجَ الماردةُ الحسناءُ: ثلاثُ أمانٍ، لكم، ولي شرفُ التحديقِ، ولي الكشفُ، ولي أمارات الخيالِ. لن أكتفي بالثمالةِ، والنوم طفلٌ ضريرٌ، وأنا الكشّافُ، الذي لا ينامُ ولا يضحك. لي اسمٌ واحدٌ وحبيبةٌ مكثفة، شذرةٌ، توهمك بالبساطة، وهي زرعت في عينيها عشبة الخلود، سرَحت شعرَ ملاكٍ مطرودٍ، وأعادتهُ لأمهِ، وهي أيضًا حبيبتي. لأقولَ الآن ما لم تخبر بهِ الأوراقُ، ما خبأته الكتب المقدسة في الحروفِ، في النقاط، ما نسيهُ المترجم، والفقيهُ، ما فقده الوليُّ، وتلعثم بهِ الأنبياءُ.

ليست دائرة، الأرض جسدٌ ميّت، الأشجارُ أضلعٌ مكسورةٌ، الجبالُ أورامُ الضحية. لا تمشي، هي جثة في نعشها، إننا في الكفن، ويحملوننا إلى المقبرةِ، كل آلافِ السنينِ كانت طريقًا للموت، والذين يحفرون ذلك القبر العملاق، لا يعرفون شيئًا عن براغيثَ لطفاء، ولدوا داخل الجثة، وهذا الدود الذي يأكل لحمها توقف ليشاهد القصيدة، والجراح صارت كهوفًا نسكنها، وطوّرنا، بنينا فوقها التاريخ، تقاتلنا على دمها الأسودِ، ولا تعرفُ المجرةُ، ما يدورَ في العمقِ، لأن صرخاتنا لم تصل، الفضاءَ الأصم.

لأنتهي مجددًا، يجب أن أنبهَ، أننا لسنا وحدنا، الجِنُّ هنا، فتاتُ الروح القديمة، هم أساس هذهِ القضية. لكم حريّةُ التصديقِ والتنفيذِ، فيما أقول، لكن، بلّغوا أني هضمت هذا الوحي، وقلتهُ كاملًا، وأني اخترت على العلوِ الحبَّ، على النبوةِ العشقَ، أني فضلت الشَعر المبعثرَ على النظم، أني دختُ في جثةٍ أخرى، ودخلت في عينيها. ودخلت منجذبًا إلى الأشياءِ في عينيها. ورأيت عالمًا آخرَ، لا سيفَ يدخلهُ ولا مدفع، ولا طفلة الدودِ تأكل بقاياهُ ولا تحمله السحرة إلى الحتف. عالم العينين، لي شرفُ البقاءِ فيهِ. ها هنا، النهايةُ، لا تصفقوا، أبدًا، فقط شاهدوني كيفَ أخلقُ من جديدٍ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.