هيثم الزبيدي و10 سنوات من "الجديد"

منارة عربية لثقافة العقل النقدي
الأحد 2025/06/01
هيثم الزبيدي

فجعت الحياة الصحافية والثقافية برحيل هيثم الزبيدي مدير عام "مؤسسة العرب" وناشر "الجديد"، وفجعت شخصياً برحيل رفيق الرحلة الأصعب والسنوات العاصفة التي شهدت الزلازل والانتفاضات والحروب التي عصفت بالمجتمعات والجغرافيات والكيانات السياسية في ما اصطلح العرب على تسميته بـ"الربيع العربي".

لا يمكن الحديث عن تجربة مجلة "الجديد"، بمعزل عن الظروف التي ظهرت فيها، ولا عن هيثم الزبيدي بعيداً عن مجلة "الجديد"، التي بدت له ولي الفرصة الأكثر إثارة للعقل والطموح والخيال في نزوع الثقافة العربية نحو حاضر يتجاوز مخلفات الماضي وعقده المكبلة لطموحات الأجيال الجديدة وتطلعاتها المستقبلية، وذلك في ظل مشرق عربي طالت الزلازل والحرائق جل حواضره الصانعة للثقافة عبر العصور. إن نشأة مجلة "الجديد" والصداقة التي ربطتني بالراحل العزيز وثقت عراها التطلّعات المشتركة التي وقفت وراء ظهور المجلة إلى النور، وهو ما يحتم عليّ هنا استعادة محطة على الاقل من العلاقة مع هيثم الزبيدي عشية تأسيس المجلة.  

***

ما كان لمجلة "الجديد" التي ظهر عددها الأول مطلع العام 1015 أن ترى النور، لولا ذلك اللقاء الرائع الذي جمعني ذات مساء من ربيع العام 2012 بترتيب من بعض الأصدقاء بالراحل العزيز هيثم الزبيدي، وما كان للمجلة التي ستظهر إلى النور بعد ثلاث سنوات من ذلك اللقاء، أن تستمرّ في الصدور المنتظم شهرياً ولست سنوات، ومن ثمّ دورياً لأربع سنوات وقد مرّ على صدورها اليوم عقد كامل، لولا إيمان الراحل بأهمّية وجود مجلة ثقافية عربية جامعة في ظلّ عالم عربي ممزّق تواجه قواه المجتمعية الحية منظومة الاستبداد السياسيّ من جهة، ودعوات النكوص الاجتماعي نحو هاويات التخلّف والظلام. ولا بد من منبر فكري يقاتل الظلام.

***

في اللحظة الأولى التي عرضت فيها على هيثم الزبيدي فكرة تأسيس مجلة ثقافية عربية تربط المشرق بالمغرب والمنافي بالأوطان، التمعت عيناه بذلك البريق الحالم، وراح ينصت بتأنٍّ وحماس معاً للتصور الذي قدّمته للفكرة، والصيغة العملية لإنجازها.

لم يستغرق النقاش حول المشروع أكثر من ساعة واحدة، في جلسة لندنية لا تنسى، لنتشارك القناعة بأهمّية الفكرة ووجاهتها. كان هناك خياران، إما صدور شهريّ أو صدور فصليّ، ولم نتردّد في الأخذ بالخيار الأول، لإدراكنا ضعف تأثير الخيار الثاني، قياساً بما يمكن أن يتيحه المنبر الشهري من ديناميكية أكبر في نشر الإبداع وإتاحة الفرصة لتطوير نقاش حيّ ومتواصل في قضايا الثقافة العربية، وهي كثيرة، آخذين في اعتبارنا الفراغ الكبير الذي تركه احتجاب المجلات الثقافية في دنيا العرب.

***

خلال ذلك الاجتماع، سألني هيثم الزبيدي بمرح ساخر، وماذا سنسمّي المجلة، "الناقد"؟ بل "الجديد" قلت. والواقع أنني لم أكن فكرت ملياً من قبل، بهذا الاسم، فلم أكن لأتخيّل أن يمكن لناشر عربي مهما كان مؤمناً بالثقافة أن يوافق في تلك الفترة العاصفة من حياة العرب، والتي شهدت حرائق الجغرافيا، على الإقدام بالسرعة التي وجدتها عند هيثم الزبيدي، ومن دون أي تردّد، على مشروع "انتحاريّ" كهذا؟!

وضع هيثم الزبيدي الكلمة على محرّك البحث غوغل، ثم نظر إليّ وقال توجد مطبوعة اسمها "الجديد". قلت صحيح، لكنها بالإنكليزية، وتصدر في لوس أنجلوس. لا توجد مجلة عربية تصدر اليوم بهذا الاسم. وهكذا ولدت "الجديد". وفي غضون ثلاثة أشهر كانت المجلة وموقعها الإلكتروني قيد الصدور، وقد حمل عددها الأول عنواناً صارخاً: "الربيع الدامي- المثقفون والانتفاضات العربية" وشاركت في الكتابة على صفحات العدد نخبة من ألمع الكتاب والنقاد والمبدعين العرب مشرقا ومغرباً. وحمل المقال الأول لهيثم الزبيدي عنواناً ذا دلالة في خطة المجلة وتوجهاتها والأفق الذي رسمته لنفسها: "نحو مثقف جديد".

***

ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ مانيفستو المجلة الذي توافقنا عليه ونشر في عددها الأول ذهبت إحدى فقراته إلى التأكيد على أن "ما من اشتراط على الأقلام التي ندعوها إلى المساهمة في الكتابة على صفحات "الجديد"، بعد شرط الجودة والموضوعية، إلا شرط احترام الاختلاف والالتزام بالرسالة التنويرية.  فنحن نؤمن بحق الكاتب في التعبير عن آرائه من دون قيود، وبقدرة الأجيال الجديدة من القراء على تلقي الافكار الجديدة، لها الحق في الاطلاع، ولديها القدرة على الاختيار. هذه القيم والمعايير هي، في نظرنا، ضوء السبيل الذي ينبغي علينا أن نجترحه ليكون لنا، نحن المثقفين، دور حقيقي في إنارة الطريق، ودحر موجات الظلام التي تدفقت تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وأسر الحاضر في ماض متوهم، واختطاف حركة المجتمعات إلى سكونية قاتلة، عبر تسييد فكر نكوصي نرجسي مريض بذاته، ولا تاريخي، من حيث غفلته عن الزمن ومعاندته التغيير، يظهر مرة في صورة حاكم شمولي مستبد لغته الاستعباد والقتل، وأخرى في صورة مسخ خرج من عباءة المستبد يريد دمغ المجتمع بطابع ديني متطرّف، ولغته هو الآخر إخضاع الناس أو قتلهم.". 

رعى هيثم الزبيدي، بشجاعة وجرأة وأريحية، حرية الكاتب، وحرّية المحرر، وحرية رئيس التحرير في صناعة منبر عربي، سرعان ما التفت من حوله كوكبة كبيرة من الكتاب والنقاد والشعراء والفنانين، وأجمعت الحياة الثقافية العربية على فرادة تجربته ورأينا وجوب استمراره على النهج نفسه مهما كلف الثمن. أكتب افتتاحية المجلة ويكتب كلمتها الأخيرة، أحض الكتاب على رفع سقف التعبير، ، وينادي بضرورة ربط الثقافة بالعلم للخروج من هاوية التخلف، ملتزما في كتاباته بالكلمة النقدية، والرؤيا المتطلعة نحو المستقبل، في شتى القضايا التي شغلت اهتمامه، والمواضيع التي كتب فيها، فكان قلمه منسجماً كلّ الانسجام مع البيان التأسيسي للمجلة، أمينا لفكرتها، وحارساً لرسالتها في تطوير نقاش نقدي عربيّ شجاع حول مختلف قضايا الفكر والأدب والفن، إلى جانب العمل باستمرار لفسح المجال أمام الأقلام الجديدة لتتجاور نتاجاتها مع الأقلام الراسخة. فقد ذهبت واحدة من أهم فقرات البيان التأسيسي للمجلة إلى ضرورة نقد التفكير الأبوي والنزعات التسلطية في الثقافة والاجتماع العربيين.   

على مدار عقد كامل واصلت الحياة الثقافية العربية الاحتفاء بمجلة "الجديد"، وشارك في ملفاتها وموضوعاتها (الشائكة في مرات كثيرة) مئات الكتاب العرب من الأجيال المختلفة، وحرص القرّاء وأهل القلم، مشارقة ومغاربة، على اقتناء أعدادها، وقد رأوا فيها جسراً مكيناً بين جغرافيات الثقافة العربية في المهاجر والمنافي والأوطان، ومنبراً للأدب والفكر والفنّ رفع سقف حريته عالياً.

***

وصل هيثم الزبيدي إلى الصحافة على عجلة العلم، فهو درس الهندسة النووية، في الوقت الذي كان بلده العراق يشهد مطلع حصار لن ينتهي إلا بسقوط بغداد في يد الجيش الأميركي، ليُسَلَّم لاحقاً لإيران وميليشياتها، ليكملا على ما تبقى من العراق، وكان أول ما استهدفه الحكّام الجدد بالتوافق الضمنيّ مع اسرائيل هم طبقة المشتغلين بالعلم ومن بينهم علماء الذرة الذين لولا وقوع الاحتلال لكان هيثم الزبيدي انضمّ إلى جموعهم وكان واحداً منهم، فالإيرانيون الذين خاضوا في مواجهة العراق حرباً دامت سنوات سوف يتكفّلون باغتيال قائمة كبيرة من أبرز العلماء والأكاديميين العراقيين، ولم يبق أمام الزبيدي وأترابه ممن درسوا في جامعات المملكة المتحدة سوى البقاء في البلدان التي درسوا فيها، حتى لا يصيبهم ما أصاب أترابهم من أذى جسيم.

يخيل إليّ اليوم، وأنا أتفكّر بالعزيز الراحل أنه لجأ إلى مهنة الصحافة لكونها الميدان الذي سيتيح له التعبير عن مكنونات النفس، والمجاهرة بإبداء الموقف من الاحتلال والحكم الصنيع، والواقع الذي كرسه في العراق وترك ظلاله الكئيبة على المشرق العربي.

***

على مدار ربع قرن من العمل الصحافي نشط الزبيدي بقلمه في حقل الرأي والتحليل في قضايا العراق والمنطقة، وذلك في ثلاث محطّات أساسية من حياته المهنية. أولاً، من خلال صحيفة "العرب" في ظل مؤسّسها الراحل أحمد الصالحين الهوني، وثانياً من خلال تأسيسه الموقع الإلكتروني "ميدل إيست أون لاين" وثالثاً وأخيراً من خلال "مؤسسة العرب" في طورها الجديد، والتي أمكنه أن يجعل منها في ظل إدارته لها مظلة لثلاث مطبوعات ورقية هي: يومية "العرب" وأسبوعية "The Arab wekly" وشهرية "الجديد".

وعلى رغم أن الزبيدي عني أساساً بالصحافة السياسية، إلا أن اهتمامه بالثقافة وإيمانه بالمعرفة، كضرورة، في بناء المجتمعات، هو ما جعله إلى جانب تأسيس مجلة "الجديد" يفرد في صحيفة العرب من أربع إلى ست صفحات يومياً لشؤون الثقافة.

***

لا أقول لرفيق الرحلة وداعاً، فكلنا في الرحلة الأخيرة سواء، لكنني أرحّب به، بالطريقة التي أراد؛ شاهداً على ما أسماه في أحد مقالاته بـ "العصر الرابع" لم يكن ديدنه الحياد.

لندن في 28 أيار/مايو 2025

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.