يوميّات عالقة

وليد نظمي

الأحد

راسلني الشّاعر نوري الجرّاح يخبرني أن المجلة تعدّ ملفاً عن أدب اليوميّات. أسعدني أن عادت المجلة إلى الظّهور. أتذكّر أن أوّل مادّة نشرتها فيها كانت حواراً مع سلافوي جيجك. منذ ذلك الحين توطّدت صداقتي مع هذا الفيلسوف، أدردش معه في شؤون كتب حديثة وأخرى قديمة. بينما علاقتي مع نوري الجرّاح تعود إلى زمن أطول، رغم أنني لم ألتق به سوى مرّة واحدة، وعلى عجل. تعرّفت عليه بفضل كتابه «الفردوس الدّامي»، الذي يحكي عن الجزائر في التّسعينات، عندما كانت الرّقاب تقطع تحت خناجر الأصوليين. كاتبان اثنان زارا الجزائر وكتبا عن محنتها من الدّاخل: خوان غويتيسولو ونوري الجرّاح.

لم أتعوّد على كتابة يوميّات، مع ذلك سوف أجرّب تدوين الأسبوع الأخير من شهر فبراير.

الإثنين

8:15

عندما أعلق في زحمة المرور، أشغّل الرّاديو وأصغي إلى نشرات الأخبار. بما أن الأخبار تتشابه فيما بينها هذه الأيّام، فإنّها تخفّف من ضجري. ولا حديث سوى عن رجل واحد؛ عن دونالد ترامب. ترامب قال.. ترامب قرّر.. ترامب فعل.. وهذه المرّة تحدّث ترامب عن شأن يخصّ الجزائر. لمّح في خطاب له إلى الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، وكرّر اتّهامه لها بأنّها رجل متحوّل جنسياً. أتخيّل عزلة إيمان خليف وشعورها بالإهانة والعزلة، وهي التي تتعرّض إلى هجمات منذ تتويجها بالذّهب في الألعاب الأولمبية في باريس. التقيت بها قبل أن تصير نجمة. تقابلنا في الجزائر العاصمة وكانت فتاة لا تفارق لسانها روح دعابة. تضحك وتُضحك من يستمع إليها. ولدت وكبرت في بلدة فقيرة، تدرّبت وصبرت إلى أن بلغت سلم الميداليات، ثم انقلبت حياتها. بدل أن يتصدّر اسمها الأخبار، صارت الأقاويل تحوم فوق رأسها. لم تعد تكتفي بالنزال في حلبة، بل عليها منازلة من يشككون في هويتها الجندرية. علّمها الفقر مثلما علّمني الصّبر. كيف يمكنها إثبات أنّها امرأة وليست متحوّلة؟

تقارير اللجنة الطّبية، في الألعاب الأولمبية، لم ترض ترامب، وهذا الأخير لم يسبق له التّراجع عن آرائه!

8:25

عادت المركبات إلى سيرها، وتخلّصت من الزّحمة. أوقفت الرّاديو وأنا أفكر في نسوة أخريات مثل إيمان خليف. كلما بزغ نجمهن، تصدّى لهنّ رجل في إحباط معنوياتهنّ. إذا لم تصبهنّ ريح اتّهامات من الخارج، فسوف يتكفّل مواطنون لهنّ في الإساءة إليهنّ. هكذا هو الحال في بلدي، نحلم بنساء ناجحات، ثمّ سرعان ما ننقلب عليهنّ.

16:50

لقاء مع زملاء في مقهى. حديث في شؤون الحياة والعمل.

أحدهم يقول إن الصّحافة مهنة متاعب. هل توجد مهنة تخلو من متاعب؟

الثّلاثاء

11:00

ندوة مع طلبة الدكتوراه في الجامعة. حديث عن الأدب وتلقي الأدب.

18:30

تعلّمت الطّبخ منذ أن كنت طالباً في الجامعة. منذ الثّامنة عشرة من عمري، غادرت بيت أهلي. متعة الطّبخ لا تضاهيها سوى متعة الإصغاء إلى صوت فيروز. لا أدري لماذا يصرّ النّاس على ربط فيروز بفنجان قهوة أو بمنظر هطول مطر. خلق الله فيروز كي ترافقنا في لحظات الطّبخ، كي ترافقنا ونحن نقبل على الطّعام من أجل البقاء. نتقوّت بصوت فيروز مثلما نتقّوت بالأكل.

19:30

كيف تعلّمت الكتابة؟

ككلّ الأطفال، على كفّ يدي.

19:40

بعد العشاء انصرفت إلى مكتبي، وكالعادة كلّما رتبت المكتبة عادت فوضاها. أحتار من أولئك الذين ينشرون صور مكتباتهم في البيت، وهي مرتّبة كأن يداً لم تمسسها. إذا أردنا مرادفا آخر للفوضى، فإن مكتبتي تفي بالغرض. فهناك من يمتهن القراءة بينما أمتهن «إعادة القراءة». فالقراءة مرّة واحدة إنّما قراءة مغشوشة. لأن الكتب تقرأ مرّتين، على أقل تقدير. من يقرأ كتاباً مرّة واحدة فسوف يحفظ العنوان، وينسى ما جرى بين الصّفحات. من يقرأ الكتاب مرّتين فسوف ينسى العنوان، لكنه يتذكّر المضمون. لذلك أشعر بحرج إزاء أصدقاء، عندما أحدّثهم عن كتاب في تفاصيله، لكنني أنسى العنوان واسم المؤلّف.

22:15

قبل النّوم، أطالع أنطولوجيا شعريّة مترجمة من الإسبانيّة.

الأربعاء

11:15

أرسل مقالي الأسبوعي إلى الجريدة.

عشر سنوات انقضت من غير أن أنقطع عن نشر مقال رأي كلّ أسبوع.

ثماني عشرة سنة انقضت وأنا لا أزال في الصّحافة الثّقافية، بينما انصرف زملائي السّابقون إلى العمل في التّلفزيون.

الكاميرا خدعة. الكاتب يتحصّن بالعزلة.

13:10

تخيّلوا مهاجراً في بلاد أوروبية، يجري ترحيله إلى بلده الأمّ، وهذا الأخير يرفض استلامه، ثم يعود من حيث جاء، وعلى متن الطّائرة نفسها. لقد بات مرفوضاً من هنا وهناك. ذلك ما وقع مع مهاجر جزائري، بعدما وصل إلى مطار وهران على متن طائرة فرنسية، رفضت الشّرطة الجزائرية استلامه، وعاد من حيث جاء. فمنذ ستّة أشهر والعلاقة بين البلدين في تدهور. تصريحات صاخبة بين الطّرفين. تحوّلت برامج التّلفزيون في الجزائر إلى هجاء لفرنسا، وصار مسؤولون فرنسيون لا يتكلّمون سوى عن الجزائر. في الجزائر يوجد ما لا يقل عن 30 ألف مقيم يحملون الجنسية الفرنسية، بينما الجزائريون في فرنسا، يقدر عددهم بالملايين، كما أن اللغة الفرنسية لا تزال تحظى بمكانة أساسية، في الشارع الجزائري وفي الإعلام، تصدر الجريدة الرسمية بالفرنسية كذلك، والوثائق الشخصية مثل جواز السفر تكتب كذلك بالفرنسية، وعلى الرغم من الخلافات التاريخية بين البلدين، في الماضي، فإن العلاقة هذه المرّة بلغت حدّها الأقصى من التّوتر.

في خضم هذه الأزمة أتذكّر صيف 1998. عندما فازت فرنسا بكأس العالم فخرج جيراني يحتفلون. بل خرج جزائريون في أكثر من مكان في احتفال بهدفي زين الدّين زيدان. فالجزائري يعرف فرنسا أكثر مما يعرف الفرنسي الجزائر.

إلى أن تنقضي هذه الأزمة، فإن ذلك المهاجر لا يعرف مصيره. لا يعرف هل يظلّ في فرنسا من غير وثائق، أم أن الجزائر ستسمح له بالعودة إليها.

19:00

أطفال من حيّينا القديم، في بوسعادة، يريدون أن أرسل لهم ملابس جديدة. أدوّن مقاسات أحذيّتهم.

23:10

أتممت مطالعة الأنطولوجيا الشّعرية.

على رأي خوان رامون خيمينيث: الشّعر ديانة، وليس مجرّد كتابة.

الخميس

8:10

وصلتني كتب جديدة بالبريد.

17:45

أقتنص الوقت في ممارسة هوايتي: الرّكض. اقترح عليّ صديق أن أنخرط في نادي الجيم، لكنني أستبعد الفكرة. أحبذ الأمكنة المفتوحة، لا المغلقة. أفضل شمّ الهواء وسماع صخب من حولي. عقب العودة إلى البيت، أخذت دشاً. ثم وصلتني رسالة على الواتس آب من صديق مغربي. هو يحلم بزيارة تلمسان وأنا أحلم بزيارة مراكش. كم صارت أحلامنا صغيرة في هذه الأزمنة المتعثّرة!

أرسل لي رابط أغنية قديمة للشّاب خالد وسألني عن صاحب الكلمات. أبلغته أن الأغنية مستوحاة من قصيدة من الشّعر الشّعبي. في الماضي، كان المغنّون في الجزائر يتهافتون على الاقتباس من الشّعراء، ثم حلّ زمن صار فيه المغني هو من يؤدي العمل، هو من يكتب الكلمات وهو من يعزف. فمن الطّبيعي أن يقع هذا الانهيار المديد في الغناء. عندما انصرف المغنّون عن الشّعر، تحوّلت أصواتهم إلى نشاز. وأنا لم أعد أصغي إلى أغاني الرّاي الجديد، بل أفضل القديم.

19:25

وضعت ثيابي في الغسّالة، قبل أن تتّصل بي والدتي. وككلّ مرّة لا بدّ أن تشتكي من ارتفاع أسعار خضراوات ومواد أساسيّة أخرى، وككلّ مرّة لا بدّ أن أذكّرها أن العالم كلّه يموج في غلاء، لأسباب يطول شرحها. ثم سألتني عما أكتب هذه الأيّام، فهي لا تقرأ لي، بسبب حاجز اللغة، ولكن لا بدّ أن أفيدها بملخص. كذلك كان الحال مع والدي، فهو أيضاً لم يكن يقرأ لي. ولد وكبر في زمن الوجود الفرنسي، كان يكتب ويقرأ بالفرنسية فحسب. أنا وأبي كنّا نتكلّم لغتين مختلفتين. كذلك الحال مع جزائريين آخرين. الفلسفة والعلوم والآداب قامت على العربية، في يوم من الأيّام، ومن حقّ هذه اللغة أن تعود إلى مكانها، لاسيما في بلد مثل الجزائر، حيث العربية تعاني من أسوأ أيامها ولا تزال.

أمّي أرضعتني العربيّة من غير علم منها.

22:00

قبل النّوم، أطالع مسرحية لأوجين يونسكو.

الجمعة

16:50

صادفت في الطّريق قطّاً أسود، وتذكّرت صديقة لي، نصحتني أن أغيّر طريقي في حال صادفت قطّاً بذلك اللون. لكنني لم أتمثّل إلى نصيحتها، فهي تتطيّر من القطط السّوداء وأنا أستلطفها. هل يوجد حيوان ألطف من القطط؟ في بيتنا في بوسعادة، كنّا نربّي قبيلة قطط، تقتسم معنا الأكل والشّرب. أمّهم لون فروها أسود. كانت تضع صغارها ونرعاهم وعندما يكبرون ينصرفون. ثم تختفي أيّاما وتعود حبلى، ثم تضع صغاراً آخرين وهكذا دواليك. كم تبدو حياة القطط هانئة! أكثر استقراراً وأمناً من حياة البشر. تعلّمت من القطط التّريّث وعدم المجازفة. تعلّمت من حيوانات ما لم أتعلّمه من بشر. سبق أن ربّيت كلاباً وعصافير كناري، سلحفاة وقنفذا. لكن قلبي يميل إلى القطط. لا تخلو رواية لي من قطط. كيف ستصير حياة البشر في حال اختفى هذا الحيوان من الوجود؟

23:00

قبل أن أنام، طالعت حواراً قديماً أجري مع جاك دريدا.

السّبت

16:30

دخلت السوبرماركت بغرض اقتناء بهارات. ليست لي علاقة بالتّسوّق، عندما أقصد محلاً، سرعان ما أقتني حاجتي ثم أخرج مثل من يفرّ من لصّ. وكذلك فعلت هذه المرّة. اقتنيت حاجتي وانصرفت، وأنا أرى النّاس يقبلون على سلع، يقلّبونها كأنهم يخشون الفقر. الاستهلاك هو سيّد العالم الجديد. المواطن الصّالح هو مواطن مستهلك، هكذا ترسّخ في البال. إذا سألنا أحداً: ما هي أكثر برامج التلفزيون التي تشاهدها؟ سوف يردّ بإجابات متباينة: الأخبار، الرياضة، الدراما، برامج الترفيه.. إلخ. وكلها إجابات مستعجلة غير صائبة. لأن أكثر شيء نشاهده في التلفزيون، من غير أن ننتبه إلى ذلك، هو الومضات الإشهارية. لقد تخلّصت من التّلفاز منذ زمن، وأشاهد البرامج من الإنترنت. مع ذلك فهي لا تخلو من ومضات إشهارية كذلك. سواء على يوتيوب أو منصّات أخرى. بات من غير الممكن أن نتابع برنامجاً، مهما كان صنفه، دون أن تتخلله ومضات إعلانية.

نعيش في عالم تحاصره شركات الإعلانات. نحن الضّحية ولا نعلم.

17:15

صار النّاس يرتدون ملابس متشابهة فيما بينها. ماركات شركات نفسها تتكرّر. الاختلاف هو أن تتشبّه بغيرك، هذا ما نراه!

الأحد

9:30

وصلتني رسالة، في الإيميل، من صديقة ناشرة. أخبرتني عن مشاريعها القادمة، من روايات وكتب نقديّة سوف تصدر. اقترحت عليها إنشاء سلسلة تختصّ في أدب الطّفل. في صغري كان بوسعي أن أعثر على مسدّس رشاش أو قطع سلاح أخرى، لكن الكتاب كان نادراً. كانت البلاد تعيش العشرية السّوداء. كان الكتاب أثمن غرض في حياتي ولا يزال.

10:10

سيظلّ الكاتب مدهشاً إذا حافظ على طفولته ولم يبلغ سنّ الرّشد.

13:15

قيلولة.

في الماضي، كانت الحياة تُحسب ساعاتها بناء على وقت القيلولة، ثمّ صارت تحسب بناءً على مواقيت الدوام، وهذا الإسراف في العمل جعل الإنسان يهمل حقوقاً لم يتنازل عنها سابقوه، من بينها الحقّ في قيلولة.

14:30

جاري ينوي على سفر مع عائلته. ترك لي مفتاح بيته والتمس منّي الاعتناء بأسماك في الأكواريوم. تعلّمت صيد الأسماك لكنني لم أتعلّم تربيتها. أرشدني إلى وعاء يحتوي على طعامها، وامتثلت إلى رغبته. أسماك بألوان حمراء وذهبية تسرّ النّاظرين.

15:15

حصّة ريّاضة ثم استحمام.

17:20

أشاهد فيلما عن فرانز فانون. كلّ شيء كان جيّداً: الكادرات، الحوارات وكذا الكاستينغ. لكنه فيلم من غير روح. كان الممثّلون يطوفون في الشّاشة مثل أشباح. عاش فرانز فانون طبيباً نفسانيا، وهذا الفيلم أهمل البعد النّفسي في الشّخصيات.

20:45

شرعت في ترجمة مذكرات طبيب فرنسي، عاش في الجزائر مطلع القرن العشرين. يحكي عن الأمراض التي عانى منها النّاس وكذا عن مشاهداته في أزقة وأسواق.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.