يَقِظ

الثلاثاء 2022/11/01
لوحة: حمودة شنتوت

لقد استيقظتُ برغم أنني لم أنَم. إنني على هذه الحال منذ أشهر، تشرق الشمس ولا أعرف ما الذي حدث في الليل، أتثاءب وأتقلب في السرير ملفوفًا بجفنَيّ المتعبين، أحدّق في الجدار وفي الظلام وفي الظلال المتجمدة، عينايَ ملتصقتان في جثةٍ لعينة. أبدأ بالهلوسة ويختلط الخيال بالواقع والزيت بالماء، تخيلات غريبة رسمتها يد متوترة، لكلابٍ لا تشبه الكلاب تأكلُ نفسها ثم تأخذ رشفة عصير زبيب، أرى أمي من الأسفل وهي تدهسني بقبضتها في وعاء العجن ثم تبصق في العجين، كرسيًا تمارس الجنس مع الحائط بطريقةٍ ما، وقطط تخرج من مؤخرة امرأة نحيلة… والمزيد المزيد من الجنون.

أشعر بأنني أسقط فينتفض جسدي وتتسارع نبضات قلبي المتعرق، لأدرك بأن عيني كانتا مفتوحتين طيلة هذه الهلاوس. أفكر في أمي التي توفّيت قبل شهرين، لتلحق بأبي الذي فُقِدَ في حرب إيران، حسنًا لقد قالوا بأنهُ فُقِد، ولكن مرّ حوالي ثلاثين سنةً على ذلك، ولا أحد يعود بعد غياب لثلاثين سنة، وخاصّة الموتى.

إنني في السادسة والأربعين من عمري الآن، بلا أمٍ ولا أب، أخت واحدة تكرهني، طلاقٌ واحد، بنتٌ ميتة، لم أحظَ بعلاقةِ حبٍّ واحدة في حياتي، وجميع أصدقائي هم زملائي في العمل، لديّ كرش صغير أتبعه، ورأس أخذ يخلع رداءه الأسود بعد أربعينية أمي. وظيفتي في مبنى حيث هناك عشرات النسخ منّي، أعمل في البلدية منذ سنوات وإلى حد اليوم أتلكأ عندما يسألني أحدهم عن طبيعة عملي، وبصراحة لا أحد يسأل، وهذا هو الجانب الجيد والسيء في آنٍ واحد.

تغنّي فيروز “يسعِد صباحَك يا حِلو” للمرة الرابعة محاولةً إيقاظي، أو على الأقل تنتظر أن أريحها وأوقف المنبه. ضبطتُ هذه الأغنية الجميلة كمنبه كي أستيقظ كل يوم على صوت فيروز الرقيق فترتفع معنوياتي، ولكن كل ما حدث هو أنني كرهتُ الأغنية وكرهتُ صوت فيروز وفيروز نفسها، وكرهتُ الاستيقاظ صباحًا أكثر. ولكن ما باليد حيلة. أستيقظ وأنظر إلى وجهي في المرآة، من هذا؟ أهذا وجهي؟ ذلك الوجه العجوز المتورم المليء بالشعر لا يمكن أن يكون وجهي، تلكما العينين الحمراوين الغارقتَين في بركةٍ سوداء ليستا عيني الخضراوين برموشها الطويلة. أحاول أن أغسل وجهي عن وجهي، أن أخلع هذه الطبقة التي تغلف وجهي الحقيقي، ولكن لا الماء ولا الصابون ينفع.

يحدث اليوم ما حدث البارحة وما قبله، وما سيحدث غدًا. ذهبتُ إلى العمل في السابعة والربع بسيارة أبي البرازيلية البيضاء والتي لا أشير لها بـ”سيارتي” إلى حد اليوم، فترة العمل عبارة عن كابوسٍ بلا ملامح، كابوس طويل ولكن عندما ينتهي أشعر بأنه انتهى بغمضة عين. أحرص على أن أتناول الغداء في العمل، وبعد منتصف اليوم نتبادل الأحاديث المعتادة عن أسعار المواد الغذائية المرتفعة والحرارة المنخفضة، عن الجيل الجديد الذي يعمل في البلدية، أسعار صرف الدولار، الأمراض المزمنة، الصداع الذي يأكل رؤوسنا في نهاية كل يوم عمل، وبعدها يتناقص عددنا شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى أحد سواي. فأعود في الثانية ظهرًا كما أتيت.

أستلقي محاولًا تعويض ساعات الليل التي لم أنمها، كالعادة، ولكنني لا أتمكن من النوم أيضًا، كالعادة. منذ أربعة أشهر تقريبًا عادت مشاكل النوم السابقة لتداهم لياليّ، وبعد أن توفيت أمي أخذت ساعات النوم بالتقلص والانكماش، والأسبوع الفائت لم أنَم أكثر من ثماني ساعات كمجموع. لا شيء ينفع، قبل يومين، حاولتُ الاستمناء لمرّاتٍ متعددة كما كنت أفعل في شبابي، حتى أستهلك طاقتي تمامًا وأنام، ولكن جسدي لا يطاوعني، ولم أستطع حتى فعلها لمرة واحدة. جفناي يصدران صوتًا عندما أغلقهما وأفتحهما، أحيانًا أخاف من ظلّي أو من جسمٍ جامد، وعندما أصعد أو أنزل فدائمًا ما أتعثر أو لا أميّز الفرق بين الدرجة الواحدة والاثنتين، أو أشعر بأن الأرض تُسحب من تحت خطواتي، وفي الغالب أخطئ في التقاط الأشياء أو تقدير بعدها عنّي، عدا الغفوات الغريبة وأحلام اليقظة التي تراودني عندما أكون خلف المقوَد.

أتصبب عرقًا وأنا مستلقٍ بلا غطاء في المساء الربيعيّ. أقوم لأغتسل فأنظر في المرآة، وأرى رأس دبوس بدل بؤبؤ عيني، وعندما اقتربتُ من المرآة أكثر شعرتُ بالدوار ثم رأيت انعكاس أمي يقترب نحوي من الخلف، فأستدير مرعوبًا، لا أحد خلفي، لا أحد أمامي. ثم أخجل من حقيقة أنني ارتعبت من خيال أمي.

رسمة لحمودة شنتوت
رسمة لحمودة شنتوت

تمر أيام بلا نوم إلا لدقائق، وهنا بدأت الأوضاع تتهاوى في العمل أيضًا. أخذ الجميع ينزعج من خراقته وحماقاته وشروده، وخلال أيام معدودات أوقع ثلاثة أكواب شاي، وبندَي ورق لتتناثر الأوراق على الأرضية، تعثر لمرّاتٍ لا تُحصى، واصطدم بالمارّة حتى سمع جميع الشتائم العراقية القديمة والحديثة، ظن جميع من يعرفه بأنه حزين لفراق والدته، ولم يولوه اهتمامًا خاصًا، حتى تعرّض إلى حادث سير في تقاطع النبي يونس.

دخل في غيبوبة لساعات، وعندما استفاق منها، لم يشعر بأيّ ألم بسبب الحادث، بل أحس بإعياءٍ وتعبٍ شديد، ورغبة في النوم، كانت الغيبوبة بالنسبة إليه كالعطشان الذي يشرب من البحر. وبعدها لم يخرج من المستشفى، ليصبح دمية في يد الأطباء الذين لا يعرفون ما الذي أصابه.

مستشفى؟ لمَ أنا في المستشفى؟ أشعرُ بحكّة في عقلي، رياحٌ تهبّ في رأسي الفارغ. آآآآه المروحة السقفية تسقط!! يا إلهي.. ساعدوني، المروحة ستسقط وتقطعني إلى أشلاء.. أشعر بأنني تحت الماء، حتى أنا، لا أستطيع سماع نفسي. جسدي مخدر بالكامل، من هؤلاء الذين حولي… لماذا لا يصمتون، لماذا لا أفهم ما يقولونه. لا أشعر بشيء، إلا بعيني المتعبتين، أريد أن أنام فقط. أرجوكم.

وبعد أيام، ملّ الأطباء ونقلوه من الطوارئ، فلا طارئ في حالته. نقلوه إلى حجرةٍ خاصة، ونسوه هناك كزرِّ قميص ضائع في زاوية الكنبة. يزوره أحد أقاربه كل يوم، جيرانه، زملاؤه في العمل، ولكنه لم يكن واعيًا بما فيه الكفاية ليتعرف عليهم ويتحدث معهم، فنسوه هم كذلك. استيقظَ ذات يوم من شروده وهلاوسه، بينما الطبيب يقف محوقلًا بقربه، أخذ يتمتم: “الشُغل.. ملابسي.. شُغلي.. لازم أروح.. أمي.. أريد ملابسي.. يجب أن أذهب إلى العمل”.

“لا تفكر بالشغل الآن، عليكَ أن تتحسن، زملاؤك أخذوا لك إجازة مرضية” ردّ الدكتور الذي كان يفحصه ليعرف ما مرضه. بلا جدوى.

وبعد أن مرّت بضعة أسابيع. تركه النوم تمامًا، ودخل عالم صامت من أحلام اليقظة والهلاوس والذكريات المتداخلة. فقد قدرته على النطق، ولكنه ما زال يتكلم في رأسه.

من هذا الذي يتكلم بداخل رأسي.. أين عقلي.. أين أنا.. إلهي إلهي، لِمَ تخلّيتَ عنّي؟ أبي.. أمي.. أين ذهبتم.. متى ستعودون؟

فقد الأطباء الأمل، حاولوا إعطاءه حبوبًا منومة، فدخل في غيبوبة طويلة، لكنه لم ينَم. فتخلّوا عنه، وانتظروا بصبر تناسخ الأيام ودوران العقارب، صيفٌ فخريف ثم حلّ الشتاء. تحوّل جسده إلى غصنِ شجرة تين، يراه الأطباء أحيانًا يحرك فمه وكأنه يتكلم، أو يقوم بتمشيط شعره، يمشي في نومه ويتظاهر بأنه يغسل وجهه، يدور في الغرفة في دوائر، يصطدم في الحائط، يسقط رأسه ويغفو لثوانٍ ثم ينتفض كمن يغفو خلف المقوَد ويوقظه ضوء شاحنة. يدور ويدور، ثم يتعب ويستلقي مجددًا، يركز بنظرته الفارغة إلى المروحة السقفية التي نسيت كيف تعمل. وحيدًا في الغرفة، وحيدًا في رأسه.

فجرٌ بارد، ومؤذّن بصوته المنهك الخشن يقول: “الصلاةُ خيرٌ من النوم.. الصلاةُ خير من النوم…”. ثم صمت المؤذن، وصمتت الأصوات داخل رأسه، وأخذ العالم بالانطواء كورقة.

أخيرًا، سأنام.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.