استكمال جريمة الأب

الخميس 2016/09/01
تخطيط: فادي يازجي

فجأة ونحن نلملم القليل من متاعنا، كان على الطفل الذي كنته أن يودع فردوس طفولته ويمضي بعيدا خارج تلك الأرض التي لم يتعب يوما من الطواف الآسر على تخوم جهاتها الأربع سهلا وهضابا، فالحرب التي بدأت فجأة انتهت فجأة، بل انتهت قبل أن تبدأ لأن جنرال الهزيمة كان يعد لها أن تكون الأضحية على مذبح عرشه القادم.

لقد كنا جميعا نمضي في صبيحة 11/6 الثقيل كمن ينتزع أقدامه خارج تلك الأرض، التي لم يكن يخطر في بال أحد أنها ستضيع منا، وأن نكبة أخرى ستلحق بالأولى وتطوّح بكل أحلام التحرير والمستقبل.
لم تكن حربا، كانت ما يشبه الحرب، مئات الجنود كانوا يلتحفون العراء في السهول، التي كنا نعبرها بحثا عن ملجأ مسكونين بالرعب وهدير الطائرات القادم من السماء، حتى كان اليوم السادس الذي أنهى فيه جنود يهوه إعادة رسم جغرافيتهم، ويستووا في اليوم السابع على عرش انتصارهم.

كانت أياما مرعبة وشديدة القسوة، فقد كان علينا وحدنا أن نتحمل عبء هزيمة وذلّها على الرغم من أننا كنا ضحاياها، وهكذا وجدنا أنفسنا فجأة بلا أرض ولا وطن، وأنا بلا طفولة تذكر، حيث بتنا نعيش ذلّ البحث عن مأوى في وطن لم يعترف بمسؤوليته عن معاناتنا، كل ما استطاع أن يقوم هو اختراع تسمية جديدة «النازحون» أصبحت تطاردنا حيثما ذهبنا.

في المدرسة كما في الحي أو أيّ مكان آخر لم تعد أسماءنا تدل علينا، بل صارت مرتبطة بالحال التي بتنا عليها «النازحون»، ولذلك كان علينا أن نحس بتمايزنا عن السوريين الآخرين، كما يشعر السوريون الآخرون بتمايزهم عنا. لذلك كان علينا أن ندرك حالة النقصان التي أصبحنا نعيشها كجرح يصعب أن نشفى منه بعد أن كان علينا أن نبدأ من الصفر، وأن نتدرب على حياة البؤس والحنين والغربة.

وهكذا كان على الطفل الذي ترك هناك ما يشبه الطفولة، أن يكبر سريعا، وأن يربي شعوره بالنقصان، في وطن لم يعترف له بكامل المواطنية. كان هذا هو فجيعتي الأولى وانكساري الأول الذي لم أشف منه بعد، ما جعلني أربي في داخلي شعورا دائما بالغضب والتمرد، وأنا أشاهد والدتي، وهي تكفكف دموعها الحارة في نوبة طويلة من الحنين على مدار سنوات من الغربة.

كل هذا كان يشعرني بحجم الخسارة الفادحة، والنقصان الذي أصبح عليه وجودنا. لذلك كان عليّ في عالم كل ما فيه يوحي بالألم والخذلان أن أبدأ بطرح أسئلتي الأولى عن الوطن وفلسطين والهزيمة والثورة، لا سيما وأن الثورة الفلسطينية استطاعت في تلك الفترة أن ترمم شيئا من انكسارنا الكبير، وتعيد لنا بعض يقيننا على طريق استعادة كرامتنا المهدورة.

هذا الانقلاب المفاجئ في حياتي كان نقيضا كليا لصورة الصبي الذي تركته هناك، عاشق البراري والحرية والطبيعة والجمال، وكأنّ يتما حقيقيا أورثتني إياه هزيمة حزيران 1967، جعلني أعجب من نفسي كيف أضعت ذلك الطفل الذي لم يعرف أيّ معنى للطفولة.

هكذا عبرت أيام حياتي بين ضفتين اثنتين، ومعها عبرت أشياء كثيرة، وابتدأت أشياء أخرى، لا أدري معها كيف كنت أربّي الألم والشعور بالنقمة والغضب على الواقع، الذي ظل يراكم هزائمنا بأشكال كثيرة وعلى صعد كثيرة، ما جعلني أنخرط مبكرا في السياسة والكتابة، وأنا مسكون بهاجس الثورة والتغيير والتمرد على الواقع بكل أشكاله ورموزه السياسية والاجتماعية والثقافية، ولذلك كان طبيعيا أن تفاجئ تحولاتي المثيرة كل من خبر ذلك الطفل الشارد في الحقول الذي كنته.
مرة أخرى يكون على الابن أن يستكمل جريمة أبيه، ولكن هذه المرة على نحو أشد إيلاما وقسوة لأن معركته هذه المرة كانت مع السوريين، الذين ثاروا لأجل حريتهم، فكان المنفى الجديد استكمالا لتاريخ سلطة لم يعرف السوريون فيها سوى الهزائم والقتل والتشرد.
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.