وجه جميل

أعترف بأنني أحبها، وأنها علمتني معاني الحب التي دقت معانيه عن أن توصف .وحينما حملت حقيبتها وغادرت، انكفأت على نفسي، كأن شيئاً غالياً سُلب مني.
خطر في بالي صديق ودود، يكتم السر، هو الوحيد الذي أجد فيه ضالتي، إذ ما إن يراني حتى يسألني عنها وهو يضحك:
- ما أخبار الدكتورة؟
فأقول بلهفة وحزن:
- غادرت على خصام معي!
الهاتف مغلق، أين ذهبت يا صاحبي في يوم الشدة؟ بدت بغداد موحشةً بعدها، خاليةً من الناس .هي وجه جميل أحبه، وشهادة علمية أفخر بها، لكن غيرتي عليها تفسد كل شيء .وقد غادرت لحضور مؤتمر طبي عاجل من دون رضاي.
جعلت أدور بسيارتي من شارع إلى آخر من دون هدف .فكرت بكل أقاربي، بكل من أعرف، فبدوا لي مثل ظلال شاحبة، كرهت أشكالهم وأحاديثهم الساذجة كلها.
الزحام يرهقني، لكن بغداد مقفرة .وجهها الجميل غائب .أين أهل بغداد؟ بغداد خالية .أين مقاهيها الجميلة؟ أين أغاني التراث التي تشكو ظلم الحبيب وهجره؟ أين صخب الشوارع في الضحى وفرحها في المساء؟
فتحت المذياع، يا للكارثة، مازالت الأنباء تتحدث عن أمور لا يقبلها العقل ولا المنطق .ولا من يسمع مشكلتي أو يؤنس وحدتي .التناحر سمة العصر، لكنني أهيم بوجهها الجميل .مشكلتي الحب في زمن البغضاء والحقد والحرب.
لِمَ لم تعتذر؟ خوفي عليها يشعل حرائق مدمرةً في داخلي، عليها أن تستأصل هذا القلق المهلك، وأن تطفئ تلك النيران .هي نيران أعتى من نيران هذه الحرب العجيبة التي نفقد فيها الكثير .يمكن أن أفقدها في تلك الرحلة، يمكن أن يفلح أحدهم في سرقتها مني .يا إلهي، الأفكار السود تتسلل إلى رأسي وتحتله على نحو مريع.
وجهها الجميل غائب .هاتفها لا يرد، أعرف عنادها بعد أيّ خصام عابر .وبغداد تقف صامتةً محايدةً بوجه شاحب مريض .وأنا لا أجد مكاناً ترتاح إليه روحي في مدينة مقفرة .ماذا عن البيت؟ انقبض صدري، بدا سجناً سرياً موحشاً على أطراف بغداد.
فكرت بالمطعم الذي تناولنا فيه الغداء آخر مرة .هو الوحيد الذي ترتاح إليه روحي .كان مكاننا شاغراً .مكاننا الذي جلسنا فيه آخر مرة .جلست قبالتها .طلبت الأكلة التي تحبها لي ولها، سألني الرجل:
- معك أحد؟
هززت رأسي بالإيجاب، فقدم صحنين وقدحين وطعاماً يكفي لشخصين .وظل يتأملني، ثم أصغى إليّ بقلق بالغ، حين شرعت أتحدث إليها بصوت عال، معتذراً عن كل ما بدر مني، قلت لها بقلب جريح:
- اعذري غيرتي الزائدة فمبعثها الحب.
كانت تهزّ رأسها صامتةً، غير مقتنعة بما أقول، وكنت أسوق لها الدليل تلو الآخر على صدق مشاعري، ولما أرادت مقاطعتي كورت قبضتي وضربت بها حافة المنضدة بقوة، وقلت وصوتي يرتجف:
- لن تسافري بمفردك حتى لو كنت طبيبةً تحضرين مؤتمراً علمياً.
انتبه الزبائن إلى ما حدث، وهرع النادل ليسألني بإحراج شديد:
- ألم يعجبك الطعام سيدي؟ لم تأكل لقمةً واحدةً؟ ولم يأت أحد معك؟
قلت بانزعاج وأنا أهم بالمغادرة:
- أريد قائمة الحساب!
- لشخصين؟
- لشخصين.
هزّ الرجل كفه حائراً، وأخذ النقود مني بفتور، فأسرعت وسط ذهول الزبائن إلى الخارج، وتناهى إلى سمعي ما يقوله النادل للزبائن كمن يعتذر عن ذهول رجل تشاجر مع امرأة قبل أسبوع .قبل أسبوع؟ هل مرّ الأسبوع بسرعة وأنا تائه؟ يقيناً أنها تصل اليوم، وتعود كما تفعل كل مرة مبتسمة تقول بدلال واتزان «شلونك أيها اللئيم؟».
انطلقت بسيارتي متحرراً من كل قيد .واستغربت أشد الاستغراب أن الناس ملأت الشوارع على حين غرة، وارتفع في المدينة ضجيج لم أسمعه من قبل، بينما كان المذيع يتحدث بارتياح وبصوت جميل عن عودة مدن أخرى كانت ضائعة.