لماذا‭ ‬لم‭ ‬يزهر‭ ‬الربيع

الثلاثاء 2015/08/18
تخطيط: ساي سرحان

كما لا يمكن فصل التسمية عن الموقف، لا يمكن أيضا، في كثير من الحالات، فصل الموقف عن الرغبة، الشعورية منها أو اللاشعورية‭.‬ ولهذا فإنه من الصعوبة بمكان أن تكون التسمية تعبيرا عن مجرد الحرص على الوصول للحقيقة وحدها‭.‬

لأنه لا مفر من التسمية، فإننا نطلق من جانبنا وصف الثورة على ما جرى عام 2011، ليس على أساس أنه يتضمن مجموعة من المحددات أو المعايير التي تختزل مفهوم الثورة أو ماهيتها، ذلك أن اختلاف الظروف التاريخية التي تجري في سياقها الثورات هي من التباين حيث أنه تصعب المجازفة، كما يرى هنري جان Henri Janne المختص في سوسيولوجيا الثورات، وكثيرون من علماء الاجتماع المهتمين بالظاهرة، بإعطاء تعريف عام وجامع لمفهوم الثورة، فكل ما يمكن القيام به في هذا المجال هو، من وجهة نظر هنري جان، إجراء مقارنات بين مختلف تجليات هذه الظاهرة تاريخيا‭.‬ وعليه حين نقول إن الثورة هي حراك سياسي شعبي أو جماهيري يسعى من خلال وسائل الضغط المختلفة من أجل إحداث تغيير عميق في بنية نظام سياسي واجتماعي فقد شرعيته في نظره، أو في نظر شريحة واسعة من الشعب، لعجزه عن تلبية طموحات هذا الأخير وحاجاته، فإن الغاية من ذلك هو فقط تحديد ما نقصده بهذه الكلمة، وفي آن واحد محاولة إعطاء فكرة عن دلالة ذلك الحراك العربي الشعبي غير المعهود الذي شمل جل دول المنطقة‭.‬ فقد كان الاعتقاد السائد عربيا ودوليا هو أن العالم العربي كان في تلك الفترة على أهبة الدخول في عصر جديد أو بأنه التحق أخيرا بالعصر بعدما خرجت شعوبه، الموسومة إلى ذلك الحين بالخنوع والسلبية، تطالب على نحو باغت العالم بأسره، بالتغيير، وبالتذكير بأنها صاحبة المشروعية ومصدرها، رافعة لأول مرة شعارا ربما دخل التاريخ الآن، مفاده : " الشعب يريد تغيير النظام"‭.‬

إخفاقات الثورات ونجاحاتها

صحيح أن المتتبعين والمطلعين على تاريخ الثورات لم يستثنوا إمكانية الفشل وعودة النظام القديم حتى بعد الإطاحة برؤوسه، فتاريخ الثورات مليء أيضا بالإخفاقات، كما يدل على ذلك مفهوم " الثورة المضادة" الذي خصص له أندري ديكوفلي André Decouflé فصلا كاملا في كتابه " Sociologie des révolutions" دلالة على أن الثورة المضادة ظاهرة سوسيولجية وتاريخية، مثل الثورة تماما‭.‬ فما حدثت ثورة إلا وأثارت مضادا لها، يسمى الثورة المضادة‭.‬ وهذا ما تؤكده التجربة العربية المنبثقة عن الحراك الشعبي العائد إلى بداية سنة 2011 المطالب بالتغيير وما جاء بعده‭.‬ ولا بأس من أن نشير بهذا الصدد بأن ثورة 1789 الفرنسية لم تنتصر دفعة واحدة، ولا كانت في مستوى الشعارات التي رفعتها، فديمقراطية الثورة الفرنسية كانت في حينها حكرا على الأغنياء، والنساء كن مستثنياة منها، وكذلك كل من كان لا يعرف الكتابة والقراءة‭.‬ ثم إنها وبعد أن قضت على النظام الملكي وتم إعدام الملك والملكة وإعلان الجمهورية، عادت الملكية إلى فرنسا مرتين، الأولى عام 1814 واستمرت إلى مارس 1815 والثانية سنة 1830 وستمرت إلى غاية 1848‭.‬ وتعرف العودتان تاريخيا في اللغة الفرنسية بـ la première Restauration و la deuxième Restauration‭.‬ وهكذا يمكن، ربما، القول إن انتصار ثورة ما إنما يقاس على المدى البعيد، وكذلك فشلها‭.‬ فقد انتصرت الثورة الروسية البلشفية بقيادة لينين الذي استولى على السلطة، وأقام نظاما سياسيا واجتماعيا وعقائديا جديدا، عرف بالنظام الاشتراكي وبديكتاتورية البروليتاريا، جسدته امبراطورية حملت اسم الاتحاد السوفياتي، ولكن كل ذلك الصرح انهار سنتي 1990/ 1991 وتحولت البلاد من نظام اشتراكي إلى ضده، يعني إلى نظام يراه البعض رأسماليا متوحشا‭.‬ وقد تنهزم ثورة وتسحق شر سحق حين وقوعها، كما حدث ذلك أكثر من مرة في التاريخ، وتنتصر على المدى البعيد، كما جرى مثلا للثورة المجرية التي اندلعت يوم 23 أكوبر 1956، وسحقت تحت ثقل الدبابات، ولكن يوم 23 أكتوبر صار، في الحاضر، عيدا وطنيا رسميا للمجر، ذلك أن ما هو ثابت وباق في الثورات هو الشعارات والأهداف التي قامت من أجلها، فقد تلحق الهزيمة بالثورة ذاتها، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة هزيمة مبادئها وقيمها‭.‬ وهذا ما يفسر أن هذه الأخيرة قد يكتب لها النصر رغم هزيمة الثورة التي رفعت لواءها‭.‬ كل هذا يعني أن ما حدث للثورات العربية، ورغم الأوضاع المزرية التي أعقبت إسقاطها لرؤوس الأنظمة القائمة أو عودة النظام القديم نفسه أو الانتهاء إلى ما يشبه الحرب الأهلية هنا وهناك، لا تعني فشل هذه الثورات بالضرورة على المدى البعيد، أي نهاية القيم التي قامت من أجلها‭.‬ فالثورة تنهزم وتموت فقط عندما تموت في قلوب الناس القيم التي قامت من أجلها‭.‬ وإذا ما قيض لها أن تتحقق فليس بالضرورة بنفس المنهج، يعني عن طريق الثورة التي ثبت للأسف تاريخيا، وكما نرى ذلك عربيا أيضا، أن تكلفتها قد تكون باهظة جدا، بالرغم من أنها ليست بالضرورة مرادفة للعنف ولا هي المبادرة إليه في أغلب الأحيان‭.‬

تسمية ما حدث تمثل إحدى المواضيع الخلافية بين المتتبعين، فتراوحت التسمية بين الثورة والانتفاضة والربيع العربي والتمرد والمؤامرة الخارجية

لماذا لم تبرعم الأزهار؟

على أن كل ما سبق ذكره لا يمنع من محاولة فهم الأسباب التي أدت إلى الإخفاقات، في هذه المرحلة على الأقل، التي عرفها الربيع العربي الذي لم تبرعم أزهاره إلى اليوم، بل على العكس، بالرغم من أن الثورة كما يؤكد كثيرون هي استثمار على المدى البعيد وكما أشرنا إلى ذلك ضمنا في ما ذكرناه سابقا‭.‬ ولعل عدم الأخذ بعين الاعتبار للثورة كصيرورة على المدى الطويل من التاريخ، تمثل قوى الثورة المضادة إحدى مميزاته المستمرة، يمثل أحد أسباب الانتكاسة التي ضربت الحالة الثورية، كما حدث في مصر على وجه التحديد، حيث تم التعامل مع الاستحقاقات الانتخابية التي أعقبت مرحلة المظاهرات والاعتصامات وما أفرزته من نتائج كما لو أنها بداية عهد ما بعد الثورة وبداية جني الثمار، بينما لم تكن تلك المرحلة في الحقيقة سوى شكل جديد لصراع يجري بوسائل أخرى بين الثورة المضادة والثوار الذين كان لا مناص من أن تقسم اللعبة الديمقراطية صفوفهم وتضعف تأثيرهم وشوكتهم وتحولهم إلى متنافسين على السلطة وإلى حكام ومحكومين بعدما كانوا من قبل قوة واحدة‭.‬ كانت بداية الممارسة الديمقراطية، ويا للمفارقة، هي إذن ما مهد الطريق إلى إفشال حركة التغيير‭.‬ بيد أن هذا الإخفاق لا يمكن عزله في آن واحد لا عن تباين التكوين الايديولوجي، إن لم نقل تناقضه، بين مختلف المكونات الثورية التي ما كان يجمعها في الحقيقة غير العداء للنظام القائم آنذاك، ولا عن انعدام التوازن في التجذر الاجتماعي للفاعلين الثوريين، الشيء الذي جعل العملية الديمقراطية في شكلها الانتخابي لا تفرز في نهاية المطاف من القوى الثورية غير المكون الإسلامي، لاسيما المنتمين لحركة الإخوان المسلمين منهم‭.‬ وفي غياب معارضة ليبرالية أو علمانية ويسارية متجذرة اجتماعيا، إلى جانب عدم تشكل الشباب المشارك في الثورة كقوة سياسية منظمة في شكل أحزاب مثلا، كان من الصعب تصور حالة ديمقراطية تقوم على التداول على الحكم، نظرا لعدم التوازن بين الإسلاميين ومنافسيهم السياسيين الذين كانوا شركاء ظرفيين لهم في الثورة‭.‬ هكذا أدرك العلمانيون والليبراليون ومن لف لفهم انسداد إمكانية الوصول إلى الحكم عبر الآلية الديمقراطية بالنسبة إليهم‭.‬ فلقد كانت القوى الحقيقية المتنافسة على السلطة تتمثل أساسا في قوتين اثنتين، الأولى يمثلها التيار الاسلامي، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، والثانية قوى النظام القديم‭.‬ فكيف يمكن أن تنشأ حالة ديمقراطية تسمح بالتداول على السلطة بينما لا يوجد في الساحة سوى قوة سياسية واحدة منظمة، تتمثل في الاسلاميين، أي في الإخوان المسلمين بالأساس، وأخرى غير سياسية، ولكنها حاسمة، تتمثل في العسكر؟ وهكذا يمكن القول إن غياب حزب غير إسلامي قوي خليق بمنافسة الإسلاميين كان أحد جوانب ضعف التجربة الديمقراطية الوليدة المنبثقة عما يعرف بثورة 25 يناير في مصر‭.‬ وهكذا يمكن القول بأن ضعف العلمانيين والليبراليين شعبيا، خاصة في ظل الخلاف الايديولوجي المتجذر والتاريخي بينهم وبين الاسلاميين وعلى رأسهم الإخوان المسلمون والذي ساهم تجاوزه أو السكوت عنه أثناء مرحلة الغليان الشعبي في إسقاط بعض رؤوس النظام القديم، لكن أليس النظام نفسه، قد لعب دورا لا يستهان به في إخفاق حراك التغيير، بعدما انتهى الأمر بالليبراليين والعلمانيين، ربما على أمل الوصول إلى الحكم بغير الطرق التي تقوم عليها القيم التي يدعون إليها والميؤوس من أن تمكنهم من تحقيق غايتهم، إلى التحالف مع العسكر، أهم ركن من أركان النظام القديم‭.‬ فلئن كان هؤلاء قد وقفوا إلى "جانب" الجماهير في ساحة التحرير، فذلك فقط لأن التوريث كان يهدد مبدأ احتكار السلطة في أعلى هرمها من طرف الجيش‭.‬ وما الوضع القائم البوم غير استمرار لهذه "السنة" العريقة في مصر‭.‬ فمن الخطأ من وجهة نظرنا القول بأن الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب مرده إلى الخلافات الايديولوجية السائدة في المجتمع، يعني إلى الخلفية الاسلامية للرئيس الذي أصبح يعرف الآن بالرئيس المعزول، فالمقصود كان في الواقع هو ضرب التجربة الديمقراطية‭.‬ لقد كان بالإمكان إسقاط حكم الإخوان بالطريقة الديمقراطية، يعني عن طريق الانتخابات، ما دام الإسلاميون، كما يشاع عن حق أو عن باطل، قد فقدوا الكثير من شعبيتهم‭.‬ وكان سيتم "التطهر" من حكم الاسلاميين، بالطريق " الحلال"، يعني بطريقة مشروعة، وخصوصا دون التضحية بالديمقراطية‭.‬ وإذ لم يتم الأمر على هذا النحو، فلأن الديمقراطية كانت هي المستهدفة في الحقيقة، تماما مثلما كان الأمر في الجزائر عام 1992 عندما تم وقف المسار الانتخابي بدعوى حماية الديمقراطية من الاسلاميين الذين فازوا آنذاك‭.‬ ولقد تم وقف المسار فعلا، ولكننا لم نر الديمقراطية، بل رأينا الدمار والخراب والعهدات الرئاسية التي لا تنتهي‭.‬

تخطيط: ساي سرحان

الحالة التونسية: الثورة الناجية؟

نفس السيناريو الذي جرى في مصر كاد يتكرر في تونس، مهد ما أصبح يعرف بالربيع العربي، فقد كان التناقض بين الاسلاميين والعلمانيين بمختلف مشاربهم يهيمن على المشهد الايديولوجي والسياسي في تونس، كما كان الشأن قبل ذلك في التجربة الجزائرية التسعينية المريرة، وفيما بعد في بقية البلدان العربية الأخرى التي شملها الحراك السياسي الشعبي المطالب بالتغيير‭.‬ غير أن اختلاف الحالة التونسية في بعض الوجوه عن الحالة المصرية حال دون إعادة استنساخ ذات المسار الذي آلت إليه الثورة في مصر‭.‬ فتونس كانت تتميز بتجانس ديني على عكس ما هو الحال في مصر حيث لعبت الكنيسة دورا لا يستهان به لصالح الأطراف المناهضة لحكم الإسلاميين، شأنها في ذلك شأن مؤسسة الأزهر التي لم يكن لها بدورها معادل في تونس حيث كان النظام البورقيبي العلماني أو شبه العلماني قد قضى على كل دور لجامع الزيتونة كمؤسسة دينية مرجعية مؤثرة‭.‬ مثلما أن ذات الإرث البورقيبي قد خلف جيشا نشأ على تقاليد عدم التدخل في الشأن السياسي، يعني على تقاليد جيش جمهوري، على عكس ما هو الأمر في مصر حيث تمثل المؤسسة العسكرية دولة داخل الدولة‭.‬ يضاف إلى كل ذلك أن القطيعة بين العلمانيين والإسلاميين في تونس لم تكن على ذات الحدة التي كانت عليها في مصر، إذ حدث في تونس نوع من تقاسم الحكم بين الاسلاميين وقسم من العلمانيين‭.‬ على أن هناك عاملا مهما لا ينبغي إغفاله أيضا لتفسير اختلاف مآلات الربيع العربي بين تونس ومصر، يتمثل في الدور الذي لعبه المجتمع المدن ، بلاد الشاعر الشابي، ونعني به هنا بالأساس المنظمات الحقوقية والنقابة العمالية القوية المتمثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي بدل أن تنحاز إلى الأطراف الإيديولوجية التي دخلت في حالة صراع، كما جرى في مصر، راحت تسعى إلى رأب الصدع وتحقيق حالة من التوافق، لا نقول إنها أنقذت ما عرف بثورة الياسمين وإنما حالت دون الانقلاب عليها، في الوقت الراهن على الأقل‭.‬ لكن العامل الأكبر الذي يفسر الصيرورة المختلفة للديناميكية السياسية التي أفرزتها مظاهرات 2011 الشعبية في البلدين يتمثل، من وجهة نظرنا، في عامل العبرة، إن جاز القول، ذلك أن النتائج التي تمخضت عن إسقاط أول رئيس منتخب في مصر، خصوصا من حيث الثمن البشري، كانت من الفداحة حيث أن ذلك دفع باتجاه البحث عن التوافق والتنازل المتبادل بدل الخوض في طريق مجهول من شأنه أن يخرج "ثورة الياسمين" عن الطابع السلمي الذي ميزها‭.‬

لا ريب أنه لا يمكن كذلك إغفال الدور الخارجي، وبالأساس العربي منه، وعلى وجه التدقيق الإقليمي بالذات، إذا ما أردنا فهم المنعرج المخيب للآمال الذي اتخذته الهبات الشعبية الكبرى التي شهدتها المنطقة سنة 2011‭.‬ فإذا كان البعض قد رأى في هذه الأخيرة مؤامرة خارجية، فالحقيقة أنها، على العكس من ذلك، لم تجد حاضنة دولية وعربية، وليس ذلك بالضرورة لأنها، وكما يقال، ما كانت توصل إلى الحكم غير الاسلاميين، بل ربما أساسا لأن إقامة أنظمة تحتكم إلى الإرادة الشعبية في المنطقة العربية أمر لا يخدم استراتيجيات الهيمنة في عالم تحكمه، كما نعرف، المصالح لا المبادئ‭.‬ وعلى الصعيد العربي الرسمي، لم يحل حرص البلدان التي شهدت التغييرات السياسية الأولى التي تمخض عنها حراك الجماهير العربية على تأكيد عدم تصدير الثورة، دون الخوف من انتشار عدواها أو إغراء نموذجها السياسي مستقبلا، وما قد ينجر عن ذلك من مخاطر على استقرار الأنظمة المجاورة القائمة على أسس سياسية مغايرة‭.‬ وهو الأمر الذي حدا ببعض القوى الإقليمية المؤثرة إلى الرمي بكل ثقلها من أجل إفشال التجربة‭.‬ وهذا الموقف هو بالتقريب تكرار لنفس الموقف الذي أثارته الثورة الإسلامية في إيران بعد إطاحتها بشاه إيران‭.‬ بل يمكن القول بأننا هنا أمام حالة كلاسيكية معروفة في التاريخ، ذلك أن الثورات التي هي، بالمناسبة، ظاهرة مميزة للمجتمعات الحديثة، حسب الدارسين، تثير دائما مخاوف الأنظمة المجاورة القائمة على أسس سياسية مغايرة‭.‬

مكر النظام‭ ‬

وبالرغم من تشابه الأنظمة التي تم إسقاط رؤوسها، تشابهها من حيث التوجه نحو توريث الحكم واحتكاره والطابع البوليسي والقمعي المميز لها وهيمنة الصبغة العائلية فيها والصورة الشكلية لممارساتها الانتخابية، الشيء الذي يفسر انتاج الحراك الشعبي المناهض لها وانتقاله تباعا كانتقال النار في الهشيم، فإن الفروق في التركيبة الاجتماعية والدينية والطائفية القائمة في البلدان المعنية بالظاهرة، وأحيانا نوع التموقع في التوازنات الإقليمية وفي الصراع العربي الإسرائيلي، إلى جانب الاختلاف في استراتيجية مواجهة المتظاهرين، كل ذلك كان له أثره أيضا في تحديد نوع المآل الذي آل إليه مصير الحراك الشعبي المطالب بالتغيير‭.‬ فمن الواضح، مثلا، أن المصير الذي انتهت إليه الأمور في ليبيا لا يمكن عزله عن التركيبة القبلية للمجتمع الليبي ولا عن ثقافتها، تلك الثقافة التي إن لم تكن السند لنظام الحاكم الأوحد خلال 42 عاما إلى لحظة نهايته المرعبة، فهي على الأقل لم تكن تتعارض مع نظامه، وإلا لكان هذا النظام قد استأصل شأفتها، ولما راحت هذه النزعة تفعل فعلها الآن‭.‬ ذلك أن النظام القديم، وكما كشف عن ذلك حراك التغيير الشعبي، لا يزول بالضرورة بزوال مؤسسه، على افتراض أنه المؤسس حقا وليس نتاج ثقافة ضاربة جذورها في التاريخ العربي، تعيد إنتاج نفسها في أشكال سياسية مختلفة، قد تتخذ لها الصبغة العلمانية أو الإسلامية أو الديمقراطية وغيرها‭.‬ فالنظام القديم هو أيضا ثقافة وذهنية تعيد إنتاج ذاتها في قوالب سياسية مختلفة وبطريقة لا واعية في أحيان كثيرة‭.‬ وعليه فإن النظام القديم باق دائما طالما أن الأمر هو فقط إعادة تأهيل وتكييف وقولبة ثقافته في أشكال جديدة سواء من طرف أعدائه أو من طرف مؤيديه المعلنين أو غير المعلنين‭.‬ ويمكن أن نعبر عن هذه الظاهرة بتعبير مكر نظام الاستبداد الذي لا يتجسد بالضرورة فقط في شخص المستبد أو الدكتاتور‭.‬ وعليه فإن ما يجري في ليبيا ربما لا يعني أكثر من صراع بين الأشكال الجديدة والخفية للاستبداد، العلماني منها والاسلامي والقبلي وهكذا، وليس فقط مجرد إعادة إنتاج الصراع الكلاسيكي بين الثورة والثورة المضادة‭.‬ فالثورة قد تأكل نفسها أيضا، لكن ينبغي التوضيح كذلك أن هذا "المكر" لا ينطبق فقط في الحقيقة على التجربة الليبية‭.‬ بل حتى تونس، البلد "الناجي" الوحيد في الوقت الراهن من الانقلاب على الديناميكية الشعبية التي أطلقت شرارتها الأولى تضحية محمد البوعزيزي، ليس بمنأى عنه نهائيا‭.‬

على أن ما زاد الطين بلة في الحالة الليبية هو أن استراتيجية المواجهة الأمنية مع المتظاهرين لم تؤد فقط، في آخر المطاف، إلى إعطاء صبغة عسكرية للتركيبة القبلية للمجتمع الليبي، مقربة إياها هكذا من الحالة اليمنية، بل أدت أيضا، في مرحلة سابقة، إلى فتح الأبواب أمام أول تدخل غربي عسكري‭.‬ كان ذلك تعبيرا عن تجاوز الدول الغربية المهيمنة لصدمة المفاجأة الناجمة عن هذه الديناميكية غير المتوقعة التي أطاحت بالحكم القائم في كل من تونس ومصر والمهددة بانتقال عدواها إلى بلدان أخرى من المنطقة، متحولا هكذا من موقف المتفرج الذي باغتته وتجاوزته الأحداث، إلى لاعب موجه ومتحكم فيها‭.‬ وبالطبع فإنه ما كان بالإمكان حدوث ذلك دون تلطيخ وتشويه صورة الحراك الشعبي، السلمي من حيث الجوهر، المطالب بإقامة حكم أكثر عدلا واحتراما للكرامة الانسانية في كامل ربوع المنطقة العربية‭.‬

الثورة تنهزمفقط عندما تموت في قلوب الناس القيم التي قامت من أجلها، وإذا ما قيض لها أن تتحقق فليس بالضرورة بنفس التصور الأول

تسليح التناقضات

ومثلما أن انتقال الحراك الشعبي المطالب بالتغيير من الطابع السلمي إلى الطابع العسكري، قد انتهى إلى إعطاء صبغة التسليح للتناقضات القبلية الكامنة والنائمة في المجتمع الليبي، فإن عسكرة الحراك المطالب بالتغيير في سوريا، قد انتهى بدوره إلى إعطاء نفس صبغة التسليح للتناقضات الثقافية الكامنة أو النائمة المتمثلة في الطائفية والعرقية، بالنسبة إلى المجتمع السوري‭.‬ والحقيقة أنه ما كان بالإمكان أن تتخذ الأحداث هذا الطابع لو أن الحكم المطلوب تغييره من طرف الحراك الشعبي لم يكن مؤسسا على المعطى الطائفي بهذه الدرجة أو تلك، أو حتى العرقي‭.‬ وكما كان متوقعا فقد انتهى الأمر أيضا إلى ما كان يخشاه الجميع: تطييف المقاومة إثر انخراط حزب الله في المعمعة إلى جانب الحكم‭.‬ ولأن حزب الله كان رمز المقاومة في وجه إسرائيل وطرفا في ما يعرف بتسمية معسكر الممانعة الذي يشار به إلى سوريا وإيران، والذي يقدم كقوة معادية للهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، فقد أدى ذلك إلى مفارقة مأساوية، إذ جعل الحراك الشعبي المطالب بالتغيير والتحرر، المعروف بالربيع العربي، إلى الدخول عبر الحالة السورية، في نوع من التضارب والتناقض الاستراتيجي مع المقاومة، أي مع التحرر من الهيمنة الأميركية ومن الاحتلال الإسرائيلي‭.‬ لكن ينبغي التوضيح أن المقاومة الفلسطينية التي تمثلها حماس، والتي لم تكن طرفا في التحالفات الإقليمية التي تتجاذب الشرق الأوسط، على خلاف حزب الله، رفضت الاختيار المأساوي بين مطلب التحرير الداخلي الذي نادى به الحراك الشعبي السلمي والتحرر من الهيمنة الأميركية والاحتلال‭.‬ ذلك ما رمزت إليه مغادرة خالد مشعل لدمشق‭.‬ هذا الوضع الدرامي والشكسبيري الذي يفرض الاختيار بين أحد التحررين، الداخلي أو الخارجي، والذي اتخذ لدى كثيرين من العرب صورة الاختيار بين مطلب التغيير أو المقاومة، يفسر لماذا أثار الربيع العربي في الحالة السورية أكبر الانقسامات في الرأي العالم العربي، بما في ذلك وسط المتعاطفين مع هذا الربيع الذي نجحت الثورة المضادة في شيطنته بعدما حدث تحويله إلى ساحة اقتتال دموي وإلى صراع طائفي وإرهابي، فاختلط الحابل بالنابل في الأخير‭.‬ وقد كان الخوف والحال هذه أن لا يبقى من الثورة غير سحر الكلمة، أن لا يبقى منها سوى الكلام‭.‬ فعندما يتحول المتظاهر إلى ثائر يحمل البندقية، بغض النظر عن أسباب مثل هذا التحول، فقد يؤدي ذلك إلى الابتعاد عن الأهداف والمبادئ التأسيسية والمرجعية الأولى، كما حدث ذلك في ليبيا على ما يبدو، وفي سوريا على الأرجح أيضا، إذ تكف القوة عن أن تكون قائمة على عدالة الفكرة وعلى مشروعيتها، لتتأسس على قوة البندقية والرشاش، يعني على القوة من حيث هي تعني الغلبة والسيطرة‭.‬ وبتعبير آخر، يحدث تحول من الفكرة المسلحة بعدالتها وشرعيتها وزخمها الشعبي إلى تفكير السلاح ومنطقه وجبروته‭.‬ وإلى جانب هذا، يحدث تهميش الشعب، إذ تصبح الكلمة العليا في هذه الحالة للمسلحين الذين سيتحولون فيما بعد، في حالة النصر، إلى فئة تطالب بالتميز والامتيازات بالنظر ليس فقط إلى امتلاكها القوة العسكرية، بل على أساس أنها هي من قدمت التضحيات وحققت "التحرير"، فتظهر هكذا فئة محظوظة تتمتع بامتيازات، وهذا ما حدث بعد الاستقلال في بعض البلدان التي خاضت ثورة مسلحة ضد الاستعمار‭.‬ ويعاد هكذا من خلال الثائر السابق إنتاج روح النظام القديم، وإعادة تكريس أولوية العسكري على السياسي، أحد مصادر الاستبداد والتخلف‭.‬

هكذا يبدو في الأخير أن مشكلة العالم العربي، في ظاهرها على الأقل، هي مشكلة الحكم: كيف يكون؟ كيف يكون الوصول إليه؟ كيف يمكن أن تجد فيه مكانها وتندمج في نظامه كل مكوناته الثقافية والعرقية؟ أسئلة وجدت لها جوابا وحلا في مختلف بقاع العالم اليوم، إلا في العالم العربي‭.‬ لماذا؟ ذلك هو السؤال الكبير‭.‬ الربيع العربي في الحقيقة محاولة لإيجاد حل لهذه المشكلة، أعني مشكلة الحكم في البلاد العربية‭.‬ وبالطبع يمكن إجراء أكثر من قراءة أخرى لإخفاق هذه المحاولة، في المرحلة الراهنة على الأقل، منها تلك التي يمكن أن نعتمد فيها على رؤية المفكر محمد أركون التي ترى أن التغير السياسي باتجاه التخلص من الاستبداد والتخلف يجب أن يتقدمه ثورة في الوعي تقوم على إعادة قراءة تاريخ المجتمعات العربية وتراثها، الديني منه بالأساس، على اعتبار أن أساس مشكلات حاضر هذه المجتمعات تضرب جذورها في استمرار وعي لا يزال غير متحرر من إكراهات الماضي البعيد المعاد إنتاجه جيلا بعد جيل ولا يزال إلى اليوم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.