يا له من سؤال!

الأربعاء 2017/11/01
لوحة: بطرس المعري

إنه لأمر لا فكاك منه أن يبدأ العقل العربي بالاعتراف بأن الجغرافيا التي وجد العرب أنفسهم فيها لم تكن في أيّ يوم مضى مستقلة تمام الاستقلال أو منعزلة عن بقية الجغرافيات التي يتشكّل منها العالم.

وقائع التاريخ تحتّم عليهم أن يتوقّفوا ملياً عند المحطات الكبرى التي رافقت صعودهم الحضاري الباهر وبروز شوكتهم القوية بين الأمم، مروراً بما أنجزوه للإنسانية من عطاءات الفكر والعلم والأدب والفن، وصولاً إلى تفكك قوتهم الإمبراطورية، وسقوط دولهم وانكفائهم الحضاري ورزوحهم في ظلام الجهل والتخلف والتبعية والانغلاق.

اختصار قد يبدو مخلاًّ، لكنها عناوين سريعة لمسار تراجيدي لأمّة نهضت وصنعت وجودها على حدود إمبراطوريّتين قويّتين؛ بيزنطة وفارس، وامتد نفوذها إلى الصين شرقا، وجنوب أوروبا ووسطها غرباً، وأبهرت بصنيعها العالم، فتسلّلت معارفها وآثار علمائها ومفكريها القدامى إلى ثقافات العالم الوسيط بأسره، لتصبح من ثم رافداً رئيسيا لنهضة أوروبا.

إن قراءة موضوعية للروافد المعرفية التي تسلّلت من الشرق إلى الغرب عبر نصوص فلاسفة وعلماء عرب عانوا من بطش النزعات العدمية التي خلّفها صراع العقل والدين في مجتمعات الشرق، راحت تشهد التفكك والتقهقر والانهيار، بعد صعود ورواج وازدهار، قراءة من هذا القبيل تغنينا عن كل دعوة إلى العودة إلى “الأصول” للبحث في ماضي الجماعة، عن مستقبل الجماعة. فالغرب المسيحي لم يبلغ عتبة الإصلاح الديني الذي مكّنه من أن ينهض ويزدهر، لو لم يلجأ إلى العقل، ويقبل من جملة ما قبل به منجزات الفلاسفة والعلماء المسلمين، ولم يضرّه أبداً أن يجدّد فكره بالأخذ عن فلاسفة يدينون بدين آخر ويحملون عن الكون والوجود رؤى مختلفة. وها هو توما الإكويني أعظم علماء الكنيسة الغربية (الكاثوليكية) المولود في 1225 يقتبس صراحة من ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن ميمون وغيرهم، ويضمّن نصوصهم في نصوصه، ويذكر أسماءهم من دون مواربة، وفي بلاط فريدرك الثاني بإيطاليا لا بد أنه التقى بالجغرافي الكبير الإدريسي صانع خريطة الأرض والذي كان بدوره مقرّبا من هذا الإمبراطور العاشق للثقافة العربية.

***

من توما الإكويني في القرن الثالث عشر وحتى باروخ سبينوزا في القرن السابع عشر كانت أجزاء كبيرة من أوروبا غارقة في الظلام، ومع ذلك أمكن للصراع الفكري ولمغامرات العقل الباحث عن الخلاص من ظلام حاضره أن يولّدا أسماء لمصلحين عظماء أخذوا بشجاعة من علوم العلماء المسلمين، كما أخذ المسلمون، بدورهم، قبل قرون من علوم غيرهم تحت شعار “اطلبوا العلم ولو في الصين”.

بالمقابل وبينما نحن في ظل أنوار العلوم الحديثة والمنجزات الكبرى الباهرة سيصرف المثقفون السلفيون والأصوليون العرب جهدهم وطاقتهم لتكفير المثقفين العرب المنادين بالحداثة ووصفهم لعامة الناس بالكفرة والملحدين، محرضين عليهم السّلط السياسية والدينية والاجتماعية وسائر الجهلة والرعاع، مطالبين بالحجر عليهم وقمعهم أشدّ القمع وصولا إلى هدر دمائهم بدعوى الحفاظ على الدين والدنيا والهوية ومكارم الأخلاق، وإنقاذ المجتمع من أفكارهم التي أخذوها أساساً عن الغرب.

***

لم يعترف الموصوفون بأنهم حماة الدين والتقاليد واللغة والهوية من العرب بأن ثقافتهم جزء من ثقافة العالم، لا بأس فلنقارنهم إذن بعتاة التشدد الديني الكاثوليكي في أوروبا العصور الوسطى الذين رماهم الغرب وراء ظهره ليمكنه أن ينشئ دول النهضة والحداثة والتقدم العلمي والحقوقي.

إذن فلنعتبرهم ماضيا ونعبر عنهم. ولكن كيف وهم قوة متحكمة بعقول عامة الناس؟

***

خاض مثقفو الغرب لقرون حروب الخلاص من التشدد الديني والاستبداد السياسي، فهل يحتاج العرب إلى قرون من الكفاح الفكري والاجتماعي للخلاص من التشدد الديني والاستبداد السياسي؟ أم أن العصر الحديث بمعطياته ومنجزاته العلمية والفكرية الكبرى سيشفع للعرب ويسمح لهم بالنزول من جنانهم المعلقة خارج الزمن والاعتراف بحقائق العصر، وبالصيرورة الإنسانية في عالم مفتوح، ليمكنهم إنجاز عملية الانتقال الشاقة والمريرة من كهوف الحاضر المراوح في أوهام الماضي التليد والرشيد، إلى فضاء العصر الحديث، ليكونوا جزءاً من العالم حاضراً وفاعلاً في حضارة عصرهم.

***

ماذا يريد العرب من حاضرهم، وما هي تطلّعاتهم المستقبلية. الوقائع الجارية اليوم وجلّها مأساوي ومرير تقول إنهم ينشدون الخلاص من الاستبداد السياسي والوصول إلى نمط من الأنظمة والدول التي ترعى الحقوق، وتسمح لمواطنيها بأن يعيشوا حياتهم كبقية أهل الأرض. ولكن ما الذي جرى حتى أفضت معركة الخروج من محرقة الاستبداد السياسي إلى رمي الجموع في محرقة الاستبداد الديني؟ وكيف حدث أن استجابت جماعات كبيرة من الشباب العربي لهذه الخلاصة المأسوية وتحوّلت إلى حطب في محرقة هذه المعركة الرهيبة.

إنه لسؤال معقد، والجواب عنه للأسف لن يكون إلا بسؤال آخر:

أهو خلل في بنية العقل العربي؟ أم في شروط الانتقال، أم في مكر سلطة الاستبداد، أم في شبكة المصالح الضخمة لجوار قريب وبعيد لم يجد مصالحه في أن يحصل أيّ تغيير جذري في بنية الدول القائمة وفي طبيعة العلاقات التي تقيمها مع العالم قريبه وبعيده. من دون أن ننسى أبداً أن المشرق العربي منطقة غنية بالثروات وتتحكم بجزء من حركة التجارة في المنطقة والعالم، وأيضا هي منطقة تتشابك فيها العقد الدينية والقومية والإثنية المستحكمة والصراعات الصامتة والصارخة داخل المجتمعات.

***

كيف يمكن للعقل أن يعمل النظر في مشكلات متجذّرة وأخرى مستجدّة في ظل تشابك العناصر الصانعة للصراع في منطقة يمكن القول إنها لم تعد قادرة على التحكم بمصيرها؟

الثورات والانتفاضات السلمية لأجل الخلاص من الاستبداد أغرقت بالدم، وأفضت إلى التهجير الجماعي للناس من أرض آبائهم وأجدادهم. لا حرمة لحق فردي أو جماعي ولا لإرث شخصي أو عام، كل شيء يمكن أن يهدم ويحرق. لا مواطنة ولا مواطنين إلا إذا ركعوا وقبّلوا تراب الأرض عند قدمي الحاكم، وصاروا عبيدا له. صار في وسع الحاكم المستبد المعادي، بطبيعته لكل ثقافة، أن يرحّل شعبه ويبقى هو، ولسوف يسمح لنفسه بأن يجلب شعباً آخر يحكمه. للأسف هذه ليست حكاية خرافية، بل واقع خرافي. هناك على الأقل مثال واحد على هذا، لكنه واقع صار مثالاً.

والسؤال الآن، هو كيف أمكن للعالم المتحضر بكل ما أنجز من نظريات حقوقية وما أنشأ من منظمات إنسانية أن يقبل بما يجري، أو أقله أن يصمت عمّا يجري. بل ويسمح، مرارا، لتلفزاته ووسائل إعلامه أن تنشر نظرية الحاكم عن تحقيق الانسجام عبر تهجير ملايين المواطنين لتنقية المجتمع.

ولو كانت هذه جريمة تاريخية كبرى، وقعت تحت جميع الأبصار، ولم تبادر أيّ قوة عظمى لوقفها ومحاسبة مرتكبيها، وهي كذلك فعلاً، ففي أيّ عالم نعيش اليوم؟

***

جريمة المستبد الشرقي استبداده، وعداؤه للشرائع الإنسانية عظيمة، لكن جريمة العالم المتمدن الذي صاغ دساتير المنطقة وسير أقدارها، أعظم، فهي في تخليه الطوعي عن المسؤولية التاريخية التي يمليها عليه تحكمه بالصراع في المنطقة، وفي قابليته على الصمت على الأفعال الشنيعة للمستبد والسماح بوقوعها. هذه خلاصة بدهية، لكنها حقيقة مريعة.

والسؤال الآن، هل يمكن القضاء على الإرهاب الذي يفتك بالمنطقة ويهدد العالم من دون لجم التشدد الديني الذي كان وما يزال حاضنة لحركات العنف؟

وكيف يمكن للعقل العربي المثقل بالأوهام والمتخم بالمقولات الجوفاء، وأعني به عقل السلطة، أساساً، المتحكم بالناس وأقدارهم في دول ومجتمعات تحكم بالقمع والعنف بعيدا عن دساتيرها الشكلية أن يمتلك الإرادة للسماح للنخب المثقفة المنادية بالحداثة بصوغ رؤية ثقافية شاملة للخلاص من ثقافة التشدد الديني.

هذا هو السؤال العصيب. وهنا مربط الفرس.

***

وبالعودة إلى سؤال العقل، فإذا كان الرأي الصائب الصادر عن العقل هو ما يحمل فائدة ذات طابع عملي لغالبية الناس المجتمعين في عصر من العصور وفي ظل شروط وجود متعارف عليها ومتواضع عليها في ما بينهم، فإن كل ما يجري الآن في المشرق العربي من أخطاء وخطايا مهولة ترتكبها الدول والجماعات والمحليون والدخلاء بحق الإنسان لهو ضرب من الجنون الجماعي.

فبأيّ عقل نقرأ ونتفكر في وحشية ما يجري على البشر في المشرق العربي، من قتل بلغ حدود الإبادة، وتشريد فاق كل تصور، وطمس لجزء أساسي من معالم حضارة عظيمة شادها الإنسان؟

ويا له من سؤال!

إزمير أكتوبر/تشرين الأول 2017

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.