شهادات‭ ‬كاتبات‭ ‬عربيات

الأربعاء 2015/08/19
الفنان: عبدالباسط الخاتم

لئن غيبت منظومة القيم السائدة في المجتمع العربي الأنثى والمؤنث (كحيز اجتماعي مهمش تاريخياً) في مكان قصي من ذات الفنان، ورمت ظلالاً قاتمة على هذا المكان من نفس المبدع العربي، فإن الخوف من (الأنوثة) على (رجولة ناقصة وركيكة!) لا يمكن تفسيره إلا على أنه خوف من الذات ومجهول النفس لدى الرجل، وخوف من مغامرة الحرية وتجريب الانفكاك عن الموروثات السلبية في اللاوعي الجمعي (لدى الرجال والنساء معاً) وأفدحها‭.‬ قطعاً، تلك التي تقوم على الخوف من المرأة والخوف من الاختلاف‭.‬ وهو خوف لا مبرر حقيقياً له لدى الفنان، ما دام إبداعه يقوم على مناهضة الظلم ومقاتلة القيم البالية، ومنها تلك القيم المفرطة في (رجاليتها)، والتي تقف عقبة أمام اعتراف الفنان بما يتحرك فيه من نزوع مضاد لكل ما هو قمعي، بينما هو يستعد للعطاء المبدع بالمعنيين الفكري والجمالي‭.‬

هنا تبدو المهمة الكبيرة والحرب الصامتة التي ينتظر من المبدع خوضها ليتخلص من رواسب التفكير القديم، وما تكون مساحة تعبيره، ساعتئذ، غير تلك الأرض الثالثة المشرقة حيث يتحرر الكائن من عقد الصراع بين النساء والرجال، بعيداً عن التحرك النسوي المغالي في انقساميته، لصالح لقاء إنساني منفتح وراق بين الرجال والنساء في إطار علاقات من الاحترام الاجتماعي، والإقرار بحقوق النساء‭.‬

بداهة، ليس في وسع المبدع التعبير عن كلية الكينونة الإنسانية من دون تمثل الآخر المختلف، وتمثله ليس مسألة نظرية، أي أنه لا يمكن أن يتم من دون الدخول في منطقة الأنثى، والأنثوي، والمؤنث‭.‬

هنا في هذا الشهادات، محاولة لزحزحة صخرة السؤال، بأقلام كاتبات من مشرق العالم العربي ومغربه، على حدّ سواء، تكشف مجتمعة عن وعي تحرري يستند إلى مرجعيات مختلفة ويتحدر من مشارب متعددة

قلم التحرير

شهادات

*أين صارت مقولات الأدب النسوي، من أدب المرأة، ومن حركة الكتابة التي تشارك فيها المرأة في الثقافة العربية؟

*ما الذي طرأ على أدب المرأة من تحولات بفعل الانتفاضات والتحولات العاصفة التي تشهدها البلاد العربية؟

*كيف تشاكلت الكاتبات العربيات مع شعارات وطروحات الانتفاضات العربية؟

*هل تشعر الكاتبات العربيات بأخطار ما يمكن أن تلحق بمنجزات المرأة بفعل صعود خطابات الإسلام السياسي، ومواقفها النكوصية من المرأة وحقوقها؟

*هل يمكن الحديث عن نقد نسوي وأفكار نسوية تقدم إضافات نوعية إلى خطابات التحرر التي طرحتها الانتفاضات العربية؟

*ما هي الهموم الفكرية والجمالية الأبرز التي تشغل المرأة الكاتبة اليوم، على قوس التحولات الحاصلة في المنطقة؟

*كيف تتعامل الكاتبة الآن مع الجسد/ النص في ظل النقيضين المتطرفين اللذين يبرزان الآن في العالم وهما حالات الاحتجاج بالعري المطلق كحركة "فيمين" وحالات التستر والإخفاء للمرأة الأضحية على مذبح التيارات الأصولية؟

*هل يمكن الحديث عن الأنوثة في الكتابة بعيدا عن موقف صريح من وضع الأنوثة كحيز اجتماعي مهمش ومعتدى عليه من السلط الاجتماعية والسياسية والثقافية بالتجاهل والمخاتلة والنكران، وما هي الأدوار التي تقترحها النساء للرجال على سبيل الوصول إلى شراكة فكرية وجمالية حقيقية في فضاء ثالث يتخلص فيه الطرفان من عقد العلاقة التقليدية بينهما؟

أكتب‭ ‬حتى‭ ‬تعتدل كفتا‭ ‬الميزان‭ ‬

سهير‭ ‬المصادفة

ككل شيء يتطور، تطورت كتابة المرأة خلال قرن من الزمان، وصارت الأصوات النسوية حاضرة بكثافة في المشهد الأدبي، وأصبحت مقولات الأدب النسوي تقف مرتبكة الآن أمام تجارب إبداعية شديدة الاكتمال تكتبها المرأة‭.‬

ولأن كل شيء يؤثر في مسيرة كتابة المرأة، ولأن حركة التاريخ انتصرت لها حين شهدت ثورات علمية وتكنولوجية وأنثروبولوجية أثبتت، بقياساتها الحديثة، أن المرأة لا تقل ذكاء عن الرجل، ومن ثم قوضتْ نظرية أرسطو وجعلتها من أساطير الأولين؛ تلك النظرية التي كبَّلت المجتمعات لقرون طويلة، دامغة إياها بدمغتها الأرسطية، والتي كانت تدعي: (الرجلُ إنسانٌ كاملٌ خُلق بيد الإله، والمرأةُ منتوجٌ اشتقاقيٌّ منه، وعاءٌ لخصوبته المنوية‭.‬ يسيطر الرجل على المجتمع لأنه يمتلك ذكاءً أعلى من المرأة)‭.‬

مسكين "أرسطو"‭..‬ ماذا لو أتيح له الآن أن يطلع على نتائج العلم الحديث؟ وماذا لو أتيح له الآن أن يشاهد الفيديوهات التي تم تصويرها لربيع الثورات العربية والانتفاضات الكبرى على وضع ظل راكدًا لعقود، ورأى المرأة العربية في مقدمة الحشود؟ داعية وثائرة وكاتبة وشهيدة‭..‬ ماذا تراه كان سيكتب الآن عن الوعاء، وعن ذكاء الرجل؟

***

نعم كانت المرأة في مقدمة صفوف الثوار وشغلت المواقع كثائرة، وأم ثائر أو أخته، وقدمت نموذجًا مبهرًا للعالم بأسره، ثم تتالت المتغيرات السياسية الجذرية التي شهدتها مصر في أعقاب ثورة يناير المجيدة

وإزاء اكتساح التيارات الدينية المختلفة لجُملة من التيارات الأخرى القومية واليسارية والليبرالية أتى برلمان ما بعد الثورة مخيبًا لآمال المرأة ومقوضًا لأحلامها، وهى التي شاركت مشاركة مرئية ومسموعة وفعّالة في هذه الثورة، ولكن تمثيلها في البرلمان جاء مضحكًا، وغير واقعى، فالمرأة التي تمثل نصف المجتمع المصري، وتزداد نسبة مَنْ تعول منهن أولادها، وصلت في السنوات السابقة لنسبة كبيرة للغاية، فماذا هم فاعلون بها‭..‬ هل سينقضون على كفاحها وعطائها المبذول على مرّ سنوات، ويدعونها إلى أن تقرّ في بيتها، فتعود البلاد عشرات القرون الأخرى إلى الوراء؟

***

جرت إذًا، في النهر مياه كثيرة، منذ اشتعل فتيل الثورة، وتم تصحيح مسارها في 30 يونيو 2013، واطمأنت المرأة والكاتبة العربية على بعض منجزاتها وأحلامها باستكمال مسيرتها للدفاع عن كافة حقوقها، بألا تكتب مطالبة بما تحقق لنساء العالم الغربي من حرية منذ عقود، وإنما تكتب رؤاها وأحلامها ومستقبلها ومستقبل بلدانها مثلها مثل الرجل‭.‬

***

لا أظن أن تعامل الكاتبة المرأة يختلف عن تعامل الكاتب الرجل مع الجسد، فأنا أندهش تمامًا من فصل الجسد ووظائفه عن الجمال، أو حتى الروح‭.‬ ربما لأنني لا أعرف عتبة أشد خطورة وجمالاً للروح من الجسد‭.‬ ولا أعرف درجًا أشد وعورة لصعود الروح من الجسد‭.‬ وأندهش ممَن يرون أن الجسد يتصرف بمعزل عن الروح تمامًا، أولسنا نصلى ونصوم بهذا الجسد، لكى ترتقي أرواحنا، أو لم تخلق حواء لآدم من أجل أن يكتشف نفسه في احتوائها، ولتكرار معجزة الخلق إلى ما لانهاية؟ إذًا ما الذى يجعل الجنس مدنسًا إلى هذا الحدَّ في ثقافتنا العربية؟

أمن الممكن أن توجد مثلاً روح سامية في جسد مدنس أو مبتذل؟!

***

تحضرني الآن رواية " تاييس"، حين ظن بطلها الراهب أن روحه مقدسة طالما أن جسده لم يلمس امرأة، ولكنه فى طريقه لاكتشاف ذاته وجسده على حقيقته ينصاع لإغواء "تاييس" وترتقي هي بروحها‭.‬ إن علاقة الروح بالجسد علاقة جدلية ليست منفصمة أبدًا ولا تكون لها نهاية إلا بالموت‭.‬ أرى أن الجسد يكاد يكون هو المرآة الأكثر تجليًا للروح، وعلى الكاتبة أن تعبر عن كل تجليات الجسد في حالات عريه وحالات تخفيه، لأنها ببساطة تعبر هنا عن الروح أيضًا‭.‬ وسأظل أندهش للغاية، ولا أستطيع الردَ مباشرةً، عندما أُسأل لماذا تكتب المرأة، أو عمَّا تكتب المرأة، بل أجد سؤالاً يقفز ــ بدوره ــ أمام عينيَّ ولا أرى سواه في الأفقِ: ولماذا لم تكتب المرأة طوال عقود؟ وببساطةٍ أكثر أظن أن المشهد الأدبى والشعرى ــ تحديدًاــ لن يكتمل في العالم قبل تمكين المرأة من امتلاك أدواتها كاملةً لتكتبَ، فدون تعليمها ودعمها لتكتب أظن أن المشهد الأدبي سيبقى منقوصًا‭.‬ أظن، أيضاً، أن الغرب انتبه إلى هذه الحقيقة فظلَّ يدعم الكاتبات ويشجعهنَّ حتى صارت كتبهن هي الأكثر مبيعًا، الآن، وتراكمت مساهماتهن الأدبية كمًّا وكيفًا‭.‬

***

إن المشهد الأدبي الذى ظلَّ محاصرًا بظلٍّ ثقيلٍ لقطبٍ واحدٍ من قطبي الحياة ــ الرجل والمرأة ــ سيظلُّ منقوصًا إذا لم تكتب المرأة، وكلُّ منقوصٍ في الحياة لا يُعوَّل على أهميته أو جماله أو حتى الوثوق في تطوره كثيرًا‭.‬

إن المشهد الأدبي ظلَّ ــ هكذا ــ أحادي القطب لعقودٍ طويلةٍ حُبستْ فيها المرأة وقُصفت أقلامها قبل أن تستطيع حتى الاقتراب منها للإمساك بها‭.‬ ولأن ما لم يُكتب بعد هو الأروع فلابد أن تكتب المرأة، ولأن ما لم يُشاهد بعدُ هو الأحلى، فلابد أن تخرج ملايين المشاهد من مخزون المرأة الحياتي والمعرفي، ولابد أن تخرج المرأة نفسها من قمقمها‭.‬

***

لماذا أكتبُ الشعرَ؟ لماذا أكتبُ الروايةَ؟ لماذا أكتبُ بشكلٍ عامٍ؟ أظن أنني أكتب حتى تتزن كفتا ميزان الكتابة، أظن أنني أكتب لأنني أبغض سيطرة الأقطاب الواحدة، أظن أنني أكتب لأنني أعرف أن الكتابة لم تزل منقوصة وأن ما ستكتبه أناملي لن يُكتب إلا بأناملي وأن ما أقف عليه مِن رؤى لن يراه سواي، وأن أبخرة القمقم الذي مكثتُ فيه لعقودٍ طويلةٍ تتصاعد بكثافةٍ الآن، وعليَّ أن أصفها للعالم وأصف أيضًا خبراتي أثناء محبسي‭.‬ تلك الخبرات التي لن يستطيع كتابتها سواي، وربما ــ في النهاية ــ أكتبُ لأنني مؤهلة من الحياة أكثر لدور الشاعر هذا الذى يجيد فعل البوح.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬الأردن

حدود‭ ‬الممكن‭ ‬الفردي

دارين‭ ‬أحمد

ليس الحديث عن الأنوثة والذكورة في الكتابة الأدبية حديثًا عن كتابة تكتبها المرأة وكتابة يكتبها الرجل، بل حديث عن سمات لحضور الأنثوي في النص الأدبي أو سمات لغيابه‭.‬ وغياب الأنثى هو سلطة الأيديولوجيا على النص، بمعزل عن نوع هذه الأيديولوجيا وما تمجده أو تدعو إليه‭.‬ بينما حضورها هو عامل حاسم في تفكك هذه السلطة، وبزوغ نوع من العتمة الفكرية التي تجبر القارئ على استعمال حواسه للوصول إلى غايته في فهم النص‭.‬ هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها على الطريقة الثورية الدارجة هذه الأيام، وهو ليس بترًا لما كان أو إقصاء له، بل احتواء يحدث ببطء، يفعل فعله في الأوقات التي يتوقف فيها القارئ عن البحث عن إجابات، دافعًا إياه إلى البحث عن أسئلة تبدأ منه شخصيًا‭.‬ حضور الأنثى هو حضور الشخصي، إنما على طريقتها، هذا الشخصي الذي لا يعنى بتفاصيل الهوية الاجتماعية الصورية، بل بتفاصيل الهوية النفسية العميقة، أي أنه ليس شعر التفاصيل اليومية، إلا بمقدار ما يكون لهذه التفاصيل أظافر تحك ذاكرة القارئ وقلبه، وليس الشعر النفسي، إلا بمقدار ما يكون لهذا الشعر القدرة على إيقاظ كوابيس القارئ قبل أحلامه، وبالتأكيد هو ليس الشعر الأيديولوجي، بكل أشكاله وحالاته، بما فيه شعر الثورات وشعاراتها النظرية‭.‬

هذه السمات تمنح النص الأنثوي بالمعنى المذكور هنا ميزة الاتصال مع العالم، بدل الفصل بين الموضوع وكاتبه‭.‬

أن تكتب عن الحرية يعني في المقام الأول أن تكون معنيًا بها في حياتك اليومية، يعني أن ترى أن الحرية ليست شعارًا أضحويّ الجوهر، مؤجل الحدوث، كليَّ القدرة‭.‬ الحرية هي هنا والآن، إنها قائمة ضمن اشتراطات الوجود الفردي، وعملية اكتشافها هي فعل الكتابة ذاته‭.‬ الثورة هي هنا والآن، إنها قائمة أيضًا ضمن حدود الممكن الفردي، وهي ليست فعلاً معزولاً عن سياق عام تجري ضمنه، سواء على الصعيد المجتمعي أو الفردي، والأهم أنها ليست معزولة عن الكاتب/الكاتبة وحياته/ها اليومية في كل تفاصيلها‭.‬ وهذا يقود إلى أن حضور الأنثوي هو حضور الصلة بين الداخل والخارج، بين الموضوع والفاعل، بين الفكرة والمفكر، بين القول والقائل‭.‬

ما يحدث الآن من تغيرات في عالمنا يستدعي رؤية جديدة، ثوريةً في إعادة تعريف وموضعة الثورة وفي إعادة تعريف وموضعة الآخر المختلف، وأولاً وأخيرًا في إعادة تعريف وموضعة الذات‭.‬ لا تجرُّ مفردة الحرية أو مفردة الثورة النصَّ الأدبي إلى حيز الإبداع كما هو معروف، بل تحضر فيه كجسد حيٍّ، كأنثى رمزية أرضيةَ الجوهر والشكل، ومن هنا يكون كل واقع يستبعد الأنثى من الفضاء العام ويقوم على تمجيد الأسوار بين هذا الفضاء العام والسجن الصغير الذي يدَّعي أن المرأة مبجلة فيه هو حدثٌ لا شأن له بالحرية في كل تجلياتها، الواسعة منها أو الضيقة كالحرية السياسية، كما يتم ترويجها اليوم، مهما استثمر في مفردة الحرية أو مفردة الثورة أو سواها من المفردات المشابهة‭.‬

وبالنسبة إلى هذا عنوان عريض يؤسِّس ويوجه فهمي لمسألة الثورات؛ أي ثورة لا يكون قوامها السعي إلى مساواة كاملة في الحقوق والواجبات بين الجنسين ليست ثورة وإنما هي صراع على السلطة والمكاسب، أي ثورة تلتهم الإنسان وتلفظه في سبيل شعارٍ ما "وضعي أو إلهي" هي صراع على السلطة وكسر في الجسد الإبداعي للنص سواء كان كاتبه ذكرًا أم أنثى‭..‬ ضمن إطار هذه الرؤية التي تميز بين نص مؤنث ونص مذكر وليس بين كاتب رجل وكاتبة أنثى، لا يمكن اقتراح أدوار على الرجال من قبل النساء، بل يمكن اقتراح فهم مغاير يبدأ من هذه الفكرة بالذات، من فكرة اقتراح الأدوار على الآخر متجاوزًا إياها إلى اقتراح فهم الدور الذاتي للكاتب/ة والعمل على أن يكون متسقًا مع المقولات التي يحملها كل منهما.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬

الأنثى‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬المشبوه

منيرة‭ ‬درعاوي

لئن تعدّدت الرّوافد التي تستقي منها الثّقافة العربيّة مادّتها، الاّ أنّ رافد الكتابة النّسويّة عموما يشكو ضعفا كبيراً في انصبابه، بفعل عوامل موضوعيّة كثيرة رجّحت كفّة الكتابة الذّكوريّة، إذ نلاحظ التّفاوت الكبير في عدد الإصدارات بين الجنسين، وفي نسب حضورهما في مختلف الملتقيات والتّظاهرات الثّقافيّة‭.‬ كما تجدر الإشارة إلى المواضيع التي بقيت حكراً على الكتّاب الذّكور، والكاتبة العربية قد لا تجرؤ على الخوض فيها اعتباراً للموروثات الاجتماعيّة التي تكبّلها، فالطّريق مازالت طويلة أمام الكتابة الأنثويّة، باستثناء بعض المحاولات القليلة – حتّى تتمكّن الكاتبة العربيّة في المساهمة جدّيا وبفعاليّة في تعديل مؤشّر الحراك الثّقافي العربي‭.‬

ولكن ما الذي طرأ على أدب المرأة من تحوّلات بفعل الانتفاضات العربيّة؟ كان من المأمول أن تعطي التحوّلات والانتفاضات التي شهدها الوطن العربي دفعا قويّا للحراك الأدبي بصفة عامة وللأدب النّسوي بصفة خاصّة، ولكنّ ذلك لم يتحقّق نظرا لانحراف تلك الانتفاضات عن مساراتها، وتبنّيها لأولويّات غير التي قامت من أجلها، إذ أنّه و بمجرّد حصول التغيير على قمّة هرم السّلطة، انفتح المجال عريضا امام تجاذبات سياسيّة عنيفة وصراعات عقائديّة، وفوضى اجتماعيّة عارمة أربكت مسار الحراك الثّقافي في المناطق التي شكّلت مسرحا لتلك الانتفاضات‭.‬

***

أما كيف تشاكلت الكاتبات العربيّات مع شعارات وطروحات الانتفاضات، فلئن تبنّت الكاتبات العربيّات طروحات الانتفاضات العربيّة، ونادين بشعاراتها من حرّيّة وكرامة وعدالة اجتماعيّة، فانّ ما حصل كان خيبة امل كبيرة لديهنّ، إذ أثبت الواقع أنّ تلك القيم الإنسانيّة النّبيلة بقيت حبراً على ورق، وأنّ ما حصل كان مجرّد تغيير للسّاسة وليس للسّياسات‭.‬

وحول ما الموقف من أخطار الاسلام السّياسي، بما هو تيار من طبيعته وأهدافه ضرب مدنيّة الدّولة واستبدالها بتشريع صريح للدّولة الدّينيّة، أضحى هذا هاجسا كبيرا للنّساء العربيّات عموما، والكاتبات خصوصا، ذلك لأنّه يشكل ارتداداً بالمرأة وأحوالها إلى قرون خلت، ونكوص علنيّ عن مكتسبات تحقّقت لها، بعد لأي ومعاناة شديدين‭.‬ فالأنثى، وفق المنطوق الدّيني الذي صعد إلى السّطح إثر الانتفاضات الأخيرة، ماهي إلاّ ذلك الكائن المشبوه الذي يجب أن يحشر في زاوية ضيّقة، وأن تُصادر منه إنسانيّته، ولا أتصوّر أنّ الكاتبات العربيّات سيقبلن المساس بمنجزاتهنّ، ومكتسباتهنّ التّاريخيّة على غرار مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّونسيّة، مهما حاول منظّرو الاسلام السّياسيّ ضربها باسم الشّريعة‭.‬

***

هل يمكن الحديث عن نقد نسويّ؟ للأسف، لا يمكن الحديث عن نقد نسوي وذلك بسبب الضّغوطات التي تعيشها الكاتبات العربيّات، رغم توفّر طاقات إبداعيّة هائلة كانت تُحدث الرجّة والتغيير الثقافيين اللذين تنشدهما كلّ الأقلام العربيّة، وتقدّم الإضافة المرجوّة، أسلوباً ومضموناً، لو أتيحت لها فرصة المشاركة والتّفاعل وطرح البدائل المناسبة، سيما وأنّ كاتباتنا يؤمنّ شديد الإيمان بالحريّة كقيمة إنسانيّة لا غنى عنها، إن أردنا تحقيق نهضة فكريّة وأدبيّة لمنطقتنا العربيّة‭.‬

***

وفي ما يتصل بالهموم الفكريّة والجماليّة للكاتبة العربيّة، ففي خضمّ هذا الحراك تبقى المرأة الكاتبة تطمح إلى نهضة ثقافيّة عميقة تمكّنها من أن تعبّر عن اختلاجاتها وأن تكتب نفسها بحريّة وانطلاق وأن تجهر بتطلّعاتها ومواقفها في سائر الظّواهر، سياسيّها واجتماعيّها‭.‬ تتطلّع الكاتبة العربيّة إلى أن تكون شريكا مكتملا له خصوصيّاته وله منتهى الحقّ في الفعل الحرّ والواعي كما في القرار ‭.‬

إذا كان معطى الجسد يُعدّ من المحظورات بالنّسبة إلى المرأة العربيّة، فانّ المرأة الكاتبة كانت وما تزال تحاول النّبش في تلك الزّاوية المنعوتة بالمحرّمة، ولا مراء أن وعي المرأة الكاتبة بهذا المعطى يجعلها في مناى عن اختزال ذاتها في جسدها، كما يفعل المتطرّفون يمينا أو يساراً –حركة فيمين ووضع النّقاب على سبيل المثال – فالكاتبة تعي تماما أنها كلّ لا يتجزّأ، وأن ذاتها ماهي إلاّ نتاج تفاعل لعدّة عناصر، وما الجسد إلاّ أحدها، ولا مجال لإقصائه عن مختلف الانفعالات التي تعيشها النّفس البشريّة، ولعلّ من أهمّ تطلّعات الكاتبة أن تتعامل مع معطى الجسد كمصدر للجمال، ومنبع للإلهام، بقطع النّظر عن وظائفه الحيويّة المعتادة‭.‬

***

الأنثى هذا الكائن الذي حبته الطّبيعة بتكوين فزيولوجيّ متميّز كان على مرّ العصور قريناً للجمال والابداع والرّيادة، فأفروديت عند الإغريق أضحت سيّدة الأولمب الخالدة، كذلك إنانا عند الآشوريين، وعشتار عند الفينيقين، وفينوس عند اليونانيين‭.‬ الأنثى القائدة الرّائدة ولنا في علّيسة قرطاج، زنوبيا تدمر، وشجرة درّ مصر، خير مثال على الفعل القادر على الخلق وتكريس الاختلاف‭.‬ أليس رحم الأنثى مركز ثقل للكون، هناك، حيث يكون الخلق الأوّل وسط ترانيم الصّمت المقدّس؟ لا ينشد هذا الكائن الجميل إلاّ أن يكون حرّاً في أن يعبّر عن نفسه، دون كوابح أو ضواغط من موروثات واستبطانات اجتماعيّة وعقائديّة، نتفت قوادمه، ولكنّها لم تشطب من وعيه فكرة الطيران‭.‬

لا تنشد إناثنا الاّ أن يكنّ ذواتهنّ الخالصة، وأن يفعلن ويفكّرن ويقرّرن، دون وصاية، فلا سبيل أن نَصدق ما لم نكن أحراراً، ولا سبيل إلى أن ننهض ونصفُ مجتمعنا أعرج، ولا مجال لأن نكون يوماً شعباً يحسب له حساب ما دمنا نحشر نساءنا في زاوية معتمة، وما دمنا نحمل في عقولنا الباطنة رواسب من أبي جهل‭.‬ هي الأنثى فمدّوا لها الأكفّ وأطلقوها لتبدع ولنرقى معا إلى دنيا الإنسان.

الفنان: عبدالباسط الخاتم

كاتبة‭ ‬من‭ ‬تونس

عندما‭ ‬تتحرر‭ ‬المرأة يتحقق‭ ‬الربيع‭ ‬العربي

صفاء‭ ‬النجار

الكتابة النسوية هي بالضرورة مجال طرح تصورات ورؤى للعالم من خلال وعي المرأة الوجودي والتاريخي، هذا ما كان وسيظل مستمرا، ويعمق هذه الكتابة ويجعلها تضيف للثقافة العربية، ازدياد وعي المرأة الكاتبة بما لديها من مقولات خاصة وتساؤلات إنسانية‭.‬ وكلما ازداد وعي الكاتبة كانت أكثر قدرة على تقديم حقائق مدهشة، ومشاهد طازجة لا يستطيع أن يقدمها سواها‭.‬ فالكتابة النسوية ليست كتابة المرأة، أو الكتابة عن المرأة، فهذه منطقة تناولها كتاب ذكور كثر، ولكنها الكتابة بعين المرأة‭.‬

***

لا أعتقد أن الثورات العربية قدمت أي شيء للكاتبة العربية، سوى ما يسمى في الدراسات الإعلامية بثورة التطلعات والإحباطات، فبعد ثلاث سنوات من الربيع العربي نعود إلى المربع صفر، مثقلين بخوفنا من التجارب، ومحملين بشحنة من السخط والغضب، تلاحظها بسهولة على صفحات التواصل الاجتماعي، والأصعب وهو ما يقلقني ويؤلمني، فعلا، كم البذاءات اللفظية التي تعبر عن تشوه وخواء روحي وتحطم للمرايا الداخلية لكثير منا، حتى الاستخدام الدلالي للبذاءة يفقد معناه ويشوه، ولا يستطيع الصمود أمام أي تساؤل منطقي، وسأضرب لك مثلاً صغيراً، الهاشتاغ الذي انتشر وبه صفة بذيئة للسيسي ويروجه الإخوان، رغم ما في هذا من تناقض مع قيم وأخلاق الإسلام الذي يدعونه، إذا فكرت قليلا، تجد أن السيسي ليس هذا الشخص، بل هو مرسي وأتباعه الذين تواطأوا لبيع عرض البلد لأميركا واسرائيل وقطر‭.‬ عندما يفسد مثقف ويتماهى مع ديكتاتور سيرميه التاريخ في مزبلته، ولكن عندما يتحول المثقف حتى لو كان مختلفاً مع السيسي سياسيا وضد العسكر، إلى عيل في حارة يجرس الآخرين، ويقذف المارة بالطوب، ويردد بذاءات مجانية وبلا دلالة، فهذه هي النهاية‭.‬

***

طروحات وشعارات الثورات العربية ليست جديدة على الكاتبة العربية، فهي جزء من سياق كتابتها قبل كل الربيعات، فأنا أقول إن النساء هن آخر العبيد، وعندما تتحرر المرأة العربية سيتحقق الربيع العربي، لأنه سيكون حدث بالفعل تغير في العقلية العربية وليست مجرد شعارات‭.‬

***

خطابات الاسلام السياسي لا تستطيع الصمود في وجه الواقع، وقد كشفت ثورات الربيع العربي سوآتهم، فمقولاتهم عن المرأة تخضع لمصالحهم الضيقة كذكور، يحتاجون لوعاء حاضن، ومصالحهم السياسية في التمكين والسيطرة بأصوات النساء الانتخابية، ووعي المرأة العربية بهذا التناقض هو الذي سيهزم هؤلاء المنافقين‭.‬

***

النقد والأفكار النسوية سبقت خطابات التحرر الثوري العربي، بتحطيمها للتابوهات البطريركية على مستوى العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفضحها للمسكوت عنه والملتبس، وفاقت الثورات العربية بطرحها لوقائع بديلة عن الوقائع الكابوسية التي نعيشها‭.‬

***

ما يشغلني حالة الفوضى والهدم بطريقة عشوائية لكل شيء ولأي شيء‭.‬ لا يوجد إحلال وإبدال، بدل هزات أرضية واضطرابات جيولوجية تقوض المجتمع من أساسه، إذا كنت تهدم دون أن يكون لديك مخطط بناء فأنت أبله، وهذه الحالة المسيطرة على الوعي الجمعي العربي تخيفني، لأنها تقود إلى المجهول، فهي لا تهدم الفساد أو الأنظمة الرجعية، ولكنها تشبه تخبطات السكران، والكل ينتقد ويعارض ولا يقدم بديلا‭.‬

***

العري والستر هما حالتان من حالات الجسد، وبينهما درجات طيفية متدرجة، وهي حالات توصيفيه للجسد من خارجه، أي كيف يراه الآخر، وأنا لا يعنيني هذا الأمر، ما يشغلني حقا كينونة الجسد، تعبيره عن ذاته، انفتاحه، انغلاقه، راحته، تعبه، نشوته، انكساره، تجليه وتأثيره في الزمكان‭.‬

***

الأنوثة كالحياة كامنة ومراوغة ولا يمكن تجاهلها أو انكارها، وأعتقد أن السلطات القاهرة للمرأة قد خففت قبضتها قليلا عن المرأة، ليس عن اقتناع لكن تحت مقولة خبيثة هي «خليها تشيل»، فصارت المرأة تلعب كل الأدوار واحتفظ الرجل بدوره التاريخي كسيد، ينتهي دوره في المشاركة بانتهاء ساعات العمل، ثم يعيش باقي اليوم لذاته سلباً أو إيجاباً، وتظل المرأة بعد العمل تدور في دوامة الأم والمدرسة والزوجة والرفيقة، ولا حلّ لهذه المعضلة سوى إيمان الرجل، وتطبيقه لمقولة الرسول الكريم «أحب لأخيك ما تحبه لنفسك".

روائية‭ ‬من‭ ‬مصر

نعجوية‭ ‬المرأة وذئبوية‭ ‬الرجل

راضية‭ ‬الشهايبي

اعتقد أن مقولات الأدب النسويّ كانت كسجن من حرير يوحي للمرأة بالعناية والاهتمام بقضاياها، ويضعها، في الآن نفسه، داخل سياج التقزيم وعقدة الاضطهاد، وضرورة الثورة على الرجل، وليستمر الصراع الثقافي الإبداعي ما بين الجنسين، حتّى لربّما يحبطون، أو يؤجلون الثورة الحقيقيّة، وهي الثورة الجذريّة الفكريّة الإنسانيّة، التي تتيح للإنسان، إمرأة كانت أو رجلأ، خوض المعارك الحقيقيّة الكبرى، وأولها معركة الثقافة والوعي والحرية، بعيدا عن التصنيفات المقصودة والمدبّرة، التي تنتصر لمجتمع ذكوريّ واستهلاكي ودسائسيّ ضيّق، ينأى به عن كل تفتّح عقلي فكريّ، وعن كل حراك توعويّ بنائي، كلّ فيه له دور، وكل فيه له الحق والحريّة في تشكيل هذه الحياة كما يراها، لا كما يراها العرف والمجتمع‭.‬ وكلما اتجهت كتابة المرأة إلى منحى نسوي ضيق اشتدّ الخناق على إنسانيّتها، فالكاتبة المرأة التي لا تخترق عقدة الاضطهاد ونزعة التظلّم والبكائيّة، لن تتجاوز بإبداعها أكثر من محيطها، فالإبداع إنسانيّ كونيّ حرّ، منطلق، ممتدّ، شامل لكل القضايا، متجاوز لذات المبدع إلى الذات في مطلق معناها كينونتها‭.‬

***

أثبتت مشاركة المرأة، وبشكل لافت، في كل التحركات الثورية التي شهدتها البلدان العربيّة، وخاصّة تونس، أنّها كائن لا يقل شجاعة وبسالة ووعياً ووطنيّة وثوريّة من الرجل، وهي قرينة أخرى على أن كل تصنيف جنسي مهين للمرأة، هو تشويه مفتعل لروح الخلق الإلهي، وأن التقليل من قيمة هذا الكائن لا يمكنه أن ينفي حقيقة تركيبتها، وهي التي، كما رأيناها، في مقدّمة الثائرين والصّارخين بحق الشعوب في تقرير مصائرها، ولكن الكثير من المتدخلين والمتداخلين في أخطبوط السلطة والأنظمة، والذين يعتمدون على إيديولوجيات معيّنة، ومخطّطات تستهدف الشعوب العربيّة بآليات متنوّعة تعمل على تجهيلها وإضعافها وخلخلتها، تخطط لإعادة المرأة إلى النقطة الصّفر، حيث أن تجهيلها يضمن تجهيل مجتمع بأكمله، ولعلّها الضّارة النافعة التي زادت في نسبة وعي المرأة المثقفة بخطورة المرحلة، وبحتميّة النضال الثقافي الفكري الإبداعي، دليلنا في ذلك ما نطالعه من كتابات جريئة وعميقة للكاتبة العربيّة التي تصدّت بنقدها الثّاقب لكل استمرارية في احتكار السلطة والمناصب الحساسة في الأنظمة العربيّة التي نُصّبت إثر الثورات، وكشفت أن الرجل العربي ما زال لم يتخلّص من ذكوريته المفرطة ولم يقتنع بأن الحكم الذكوري هو حكم إقصائي دكتاتوري، ما لم تكن المرأة شريكا فاعلا فيه‭.‬

***

ليست شعارات الانتفاضات العربيّة سوى صوت معمّم أو متوّج لأصوات الكتاب والمبدعين والمثقفين، فالثورة تسكن كل حرف يخطه المبدع والمبدعة المرأة خاصّة، فكل تشكيل لغوي إبداعي مبتكر هو ثورة على العادي وعلى الرتيب، فالمبدعة ،بالأساس، هي ثائرة مجدّدة، متجاوزة، متحرّكة، جريئة، قارئة جيدة للواقع المعاش، منظّرة للآتي أو لا تكون‭.‬ لذلك أرى أن ثورات الشعوب تلي ثورة المبدع والمثقف وليس العكس‭.‬ وأعتقد أن البهتة أو البغتة أو الاندهاش مازال مسيطرا على المشهد الأدبي الإبداعي، على ما نشهده من بعض الكتابات التي هي ردود أفعال انفعاليّة أكثر منها إبداع، وعلينا أن ننتظر قليلا لنقرأ إبداعا حقيقيا يعكس ترسبات المرحلة الهامة التي يمر بها التاريخ العربي.

***

التطرف الديني يكشف عن فشل من يريدون تشويه الإسلام وتشويه المرأة وتشويه الأمة، والتي تجهيلها يبدأ بتجهيل المرأة‭.‬ وهؤلاء أكدوا بأعمالهم أنهم يخدمون أجندات عدائية للإسلام تعمل على تفكيك المجتمع العربي بدءاً بالأسرة، وغرس الفتنة وتكريس الطائفية، وإغراق المجتمع في قضايا الجنس والعنف وما إلى ذلك من أساليب تعمل على تدمير المجتمعات بشتى الوسائل، والدّليل أن كل الفتاوى عن المرأة وعن الجنس، وقلّما تجد من يفتي في العلم والعمل والمحافظة على البيئة مثلا، ونعلم كلّنا أن الدين الإسلاميّ هو دين سلام وعلم وعمل ونظافة.

***

تصنيف «نسوي»، في الكتابة، يعود بنا إلى الدائرة الضيّقة‭.‬ أعتقد أن النقد النسائي إن أردتَ أو النقد في مجمله، كما أرى، حاول احتواء هذه الإبداعات التي سميتُها كتابات انفعاليّة وقد صنّفها البعض بما يسمّى كتابات ما بعد الثورة، أو المشهد الأدبي بعد الثورة‭.‬ ومهما يكن، فإني أرى أن الحركة النقديّة هي حركة مسايرة للحركة الكتابية، حركة إيقاعية الخطو يختل مسارها بغياب إحداهما‭.‬ واللافت للنظر أن هناك من النقّاد من تفاعلوا أكثر مع مقتضيات المرحلة، فغيّروا من آليات نقدهم بما يتلاءم ونوعية الكتابة، ودوافعها، ومرحلتها التاريخية والسياسية والمجتمعية‭.‬

***

الهموم الفكريّة الجماليّة الآن هي مناصرة الجمال نفسه، وما الجمال إلا الحريّة والسلام والوطن‭.‬ وخارج هذا المثلث لا جمال‭.‬ ودون وعي وتثقيف وتعليم لا جدوى من أيي مناصرة‭.‬ وعلى المبدعة، الآن، أن تجسّد وعيها وتنشره عبر حراك ثقافي متواصل، فالإبداع ليس نصّا جميلا يكتب وحسب، بل هو نضال لأجل تفعيل هذا الإبداع، من حيث الاقتراب من المتلقي، وترغيب المتلقي في المنتوج الإبداعي وما يتضمّنه من دعوة للقيم الكونيّة التي تنتصر للإنسان والحياة، والمساهمة أيضا في الدعوة إلى تخفيض أثمان الكتب لو أمكن، وفي حجمها حتّى ندعّم إمكانيّة الإقتناء وإمكانيّة حمله في التنقلات اليوميّة للناس‭.‬

***

الآن، وفي كل وقت، الجسد هو دليلي على سحر الخلق، وهو محراب الروح حيث الله والجنّة والحياة وحتّى الجحيم، وهو تصالحي مع الخالق ومع ذاتي، وهو وسيلة علاقتي بالكون والموجودات، وهو مجمل أحاسيسي وانفعالاتي التي تموّل كتاباتي، فكل نصّ أكتبه هو، بالأساس، تجسيد للجسد حين ألتقطه في انفعال أو إحساس أو انتشاء أو حزن أو ثورة، أو أيي حركة راقصة بتناغم تفاعليّ مع الكون واستنطاق للموجودات من حولي‭.‬ وهو مرآة أولى عاكسة لمدى تبنّي هذه الذات لفكرة الجمال، حضوراً وتحركاً وتنسيقاً ولوناً، وكل تطرّف يميناً هو «تغطية تامة ونظرة نعجويّة للمرأة، ونظرة ذئبويّة للرجل» أو يسارا «عري أو فوضى» هو إخبار بفجوة خطيرة ما في علاقة الفرد بجسده‭.‬ واختلال علاقة الفرد بجسده تحيلنا إلى إخلالات أخطر، كعلاقة الفرد بذاته وبالمجتمع الذي يعيش فيه‭.‬ وإذا نظرنا إلى الأمر باعتبار أن الحريّة مقوّم هام من مقوّمات الذات الإنسانيّة، أرى أن المرء، والمرأة تخصيصا حرة في تفعيل علاقتها بجسدها، بحسب ثقافتها وعقيدتها وحسّها الجماليّ وترسّبات تربيتها الأولى، إذا لم تدّع أن ما تأتيه هو الحقيقة المطلقة، وإذا لم تحجب وجهها، وتغتصب وجوه الآخرين، وتثير مخاوفهم وشكوكهم، وإذا لم تثر اشتمئزاز الآخرين بعري فاحش يمسّ قدسيّة الجسد، ويمسّ من مقوّمات الجمال المتفق عليها ضمنيا بين الناس‭.‬

***

الأنوثة هي ميزة للمرأة كما للرجل ميزة الذكورة، كما لكل خلق ميزته، فحيث أكتب من منطلق أني أنثى، يكتب الرجل من حيث أنه رجل، ولذلك وجب تجاوز هذا الحاجز الوهمي، والكتابة بفكر إنساني شمولي، ينظر في الأمور من حوله برؤى إبداعية صارخة الوعي، وعميقة الحساسيّة، ثم ينظّر للآتي بتصوير جماليّ يحتفي باللغة‭.‬

باللغة والخيال يعيش المبدعُ الواقع الرتيبَ ويلتقط تفاصيله الضّائعة ويصوّرها تصويرا يحفّز على إعادة النظر فيها بروح أخرى وشغف متجدّد‭.‬ إن الكتابة فعل إنساني إبداعيّ يعيد الحياة للتفاصيل المهملة، يبشّر بقادم أجمل ويحفّز على الحياة الأبهى، ويعيد ترتيب ذاكرة الأشياء‭.‬

يذكّر الإبداع بالوعي، يحث على الثورة المشتهاة، يقبض على اللحظات المنفلتة، يؤرّخ خارج أكاذيب المؤرخين المأجورين، سواء كان إبداع رجل أو امرأة‭.‬ فالإبداع الإنساني هو الإنسان في شساعة المعنى وتمام جماليّة الحضور.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬تونس

الرجل‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء

منيرة‭ ‬الإزيمع

لا تستهويني هذه المسميات ولا التصنيفات، وفي الواقع أن هذه الظواهر اندثرت في الغرب، ولم يعد لها حيز من الوجود المؤثر، أرفض مثل هذه التقسيمات والتصنيفات، ولا أعتقد أنها توصلنا إلى مكان يمكن أن تجد فيه المرأة ذاتها، أو ما يدعم هذا الكيان، بل أخشى أن ما حدث عندنا هو أنه استعملت مثل هذه المسميات لتحجيم أدب المرأة، وتصنيفه بعيداً عن الأدب الإنساني، وأنا لا أستطيع أن أفهم الأدب سوى بوصفه أدباً إنسانياً كتبه رجل أو إمرأة‭.‬ وأعتقد أن مصطلح «أدب نسوي» يحمل نظرة عنصرية نحو أدب المرأة من ناحية الجندر‭.‬

لكن من الممكن، تفكيكياّ، ورغبة في الدارسة ومعرفة مدى ما لحق بهذه الذات من ظلم، يمكننا الحديث عن أدب نسوي، أو نكون معنيين بالنظرة إلى الكون والحياة والمجتمع من خلال هذه الذات الأنثوية، وكيف تنظر الأنثى، من خلال ذاتها، إلى هذا العالم‭.‬ وإلا فلا يمكن أن تطلق تسمية أدب نسوي لمجرد أن من كتبه إمرأة‭.‬

***

المرأة لها دور البطولة في بعض هذه الثورات، ولا يمكن أن نتحدث عن البطولة والتحولات ولا نأتي على ذكر دور المرأة الفلسطينية على مدار أكثر من نصف قرن، أو والدة محمد البوعزيزي في هذه الألفية‭.‬ ولكن هل ظهر أدب خلال هذه الفترة يضاهي هذه التضحيات؟ هذا ليس مبكراً، وإنما لا نزال نعيش التحولات، وعادة مثل هذه الفترات لا تنتج أدبا يلم بهذه التحولات والتغيرات التي حدثت، إلا بعد مضي فترة زمنية تسمح بذلك، وهذا تقدير شخصي مني لأنني أؤمن بالزمن، مع أن لاشيء قطعياً بهذه المسألة‭.‬

***

لا أعتقد أنني أتحيز إلى جنسي إذا قلت إن المرأة العربية المثقفة، بكتاباتها الصحفية، أو حتى بوجودها على توتير، أو الفيس بوك، كانت واضحة المواقف وصريحة، لم تكن تنافق أو تتماهى مع رمادية آلة قمع هذه الثورات، أو دمويتها، مثل بعض المثقفين من إخوتها الرجال، رغم قلة عدد الكاتبات مقارنة بالكتاب‭.‬

***

الخطر المتربص أو الذي زحف على كثير من البلدان العربية، لا أظن أننا بعيدون عنه، وهو يلحق الضرر بالميراث الإنساني والتاريخي للإنسان، سواء من خطاب اسلامي متطرف، أومن قوى أخرى تمرر أجندات خارجية، أعتقد أن الكاتبة لا يمكن أن تشعر بكل هذا، بشكل أحادي، وإن كنت أشعر بأنه من الظلم أن أخاف، لماذا علي أن أشعر بالقلق، بينما المرأة في العالم المتحضر، تفكر بطريقة مختلفة‭.‬ يبدو أن هناك محاولات نكوصية، أو ارتكاسية، للعودة إلى الوراء، خصوصا في بعض البلدان العربية التي أحرزت تقدما ظاهرا في حفظ حقوق المرأة، وتحقيقها لمنجزات نتطلع نحن إليها‭.‬ لكن هل يمكن لهذه أن تعيد المرأة إلى الخلف فتتخلى عما حققته وضحت من أجله؟ لا أظن، بل أظن أننا، على رغم كل القلاقل والأخطار المحيطة بالمنطقة، نعيش يقظة ديموقراطية عربية

***

أخشى أن هذه التحولات الكثيرة والمفاجئة لا تتوافق مع الذات الكاتبة، التي تحتاج لسكون تبدع فيه، ورغم منجز المرأة الشعري الذي تفخر به، إلا الرواية هي منجزها الأهم بعد ألف ليلة وليلة، لسبب بسيط، أن تاريخ المرأة في البلدان العربية تاريخ ملحمي وبطولي، يمكن للشعر أن يقوم به ويحتويه لكن المرأة أبدعت بكتابة الرواية، وانتصرت لأنوثتها في كثير من هذه الروايات والنصوص‭.‬

***

الوضع العربي، حتى الراهن، لم يترك للمرأة غير خيارين، إما النكوص وراء والعودة إلى عالم الحريم وعبودية الرجل، أو التعري كرد فعل على استبداد الرجل الخالي من الرجولة، كما اقرأ ماتقوم به حركة فيمين، وهي إلى انتشار واسع في كثير من البلدان العربية، إنها حركة واعية جداً، وهي تنكر على الرجل رجولته المهيمنة‭.‬

***

يجب بداية أن نتفق على مفهوم الأنوثة في الكتابة أو الكتابة الأنثوية، وهذا مفهوم واسع ومفتوح على كثير من المقولات التي لا أظن أني أتفق معها على أن هذا هو معنى الأنوثة، أو أن هذا النص نص أنثوي لمجرد اقترابه من الجسد، في محاولة لتحطيم تابوه اجتماعي، أو حتى ديني‭.‬ وهذا مايحدث غالبا، لكني، في قرارة نفسي، أؤمن تماما أنه لا يمكن أن تكون المرأة الكاتبة مبدعة وهي بعيدة عن أنوثتها وكيانها‭.‬

المشكلة أننا نواجه صنفين: كتابة تنفي أنوثتها وتتنكر لجنسها لكي تحظى بالقبول من الرجل، وكتابة أخرى تفتعل الأنوثة بشكل سطحي، وغير واقعي أحياناً، معتقدة أن الأنوثة هي قلم الروج، أو العباءة، وما إلى ذلك‭.‬ لكن هل الكتابة الأنثوية بإمكانها مجابهة مجتمع مثل مجتمعنا؟ لا أعرف، ربما، فقد تغير مجتمعنا كثيراً، حتى إنني لم أعد أعرفه، لكني أعرف أنه على مستوى الحريات والقبول بحقوق المرأة ككائن آخر مساو للرجل ولها حق مثله تماما، كحقها في العمل والتملك وحقها بأطفالها، هذه الحقوق أعتقد أنها ليست مؤجلة فقط، بل فيها نظر، ولا أنكر بعض الإصلاحات التي طرأت على وضع المرأة في بلدي، لكنها لاتكفي‭.‬ يحتاج وضع المرأة إلى إصلاح العديد من أجهزة المجتمع، وتربية المجتمع نفسه على قبولها واحترامها‭.‬

للأسف، المرأة ليست في وضع يسمح لها باقتراح ما، لأن الرجل يهيمن على كل شيء وحتى عندما دخلت المرأة الأندية الأدبية، لم تدخلها كشريكة للرجل في العمل الثقافي، بل كشكل ظاهري فقط، يدل على ادعاء ما، والرجل، من جهته، قام بتهميشها وتحييدها عن مراكز القرار والإدارة، على رغم أن الأندية الأدبية هي أول الأماكن التي يجب أن تشارك فيها المرأة الرجل.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬السعودية

الرجل‭ ‬أيضاً‭ ‬مقهور

عزة‭ ‬سلطان

يتحدثون عن الكتابة النسوية، ثم يطرحون إشكاليات وقضايا حول الكاتبات وما يكتبن، ومع كل التقدير لمن يقومون ويقمن بذلك، لا أقف مطلقًا في نفس الصف، لا أتفق مع فكرة التصنيف، لأن ذلك هو ما يفترض بالأساس أن المرأة كائن مختلف، ولا أظن الأمر كذلك‭.‬ المرأة أولا إنسان، واختلاف النوع له تبعاته، نعم هناك امرأة مقهورة، وهناك أيضا رجل مقهور، هناك رجل يمارس القهر، وامرأة تصنعه، فلماذا نتحدث عن نسوية ولا نتحدث عن الذكورية إلا كنظرة وطريقة تفكير ونمط من أنماط تخلف المجتمعات الشرقية‭.‬

الحقيقة أن الأمر معقد والحديث عن وجوب وجود تصنيف في الكتابة هو أمر فيه كثير من الظلم لكافة المبدعين، ذلك أن هناك رجالاً تحدثوا عن المرأة أبرع من حديث المرأة نفسها، وكذلك هناك نساء كتبن عن الرجل‭.‬

وفي سياق التحولات الاجتماعية والمعرفية، اكتسبت المرأة الكثير من الخبرات التي كانت بعض المجتمعات تسعى إلى حرمانها منها بسبب النوع، لاشك أن تلك الخبرات انعكست على شكل الكتابة وعمق الرؤية، مما جعل المرأة أكثر قدرة في التعبير عن روحها ومشكلاتها، وربما ذلك ما دفع البعض إلى الحديث عن نسوية متخيلة، أو موجودة، من وجهة نظرهم، لكنهم أغفلوا أن هذه التحولات الاجتماعية والمعرفية لم تأت في حيز المرأة فقط وإنما كذلك للرجل، يمكننا أن نناقش كل تجربة إبداعية في ضوء خبراتنا عن الكاتب دون جنسه، ودون أن ينعكس الجنس سلبًا أو إيجابًا على قراءتنا للعمل الابداعي‭.‬

وعلى الرغم من أنني معنية بشكل بالغ بقضايا المرأة وجسدها، فإنني لا أرى نفسي ممن يكتبون في تيار الكتابة النسوية، أنا أكتب عن قضايا المرأة لأنني امرأة، ويمكنني بحكم النوع، التعرف على مشاعر وخبرات نفسية قد لا يتسنى لبعض الكُتاب الرجال معرفتها، وذلك لا يجعلني أُنكر أن بعض المبدعين من الرجال تحدث عن المرأة ومشاعرها وتفاصيلها بدقة وعمق ربما أكبر مما فعلت كاتبة تكتب عن الموضوع نفسه‭.‬

وكمتلق، أكترث بمن يعبر عن مشكلاتي كامرأة لا بجنس الكاتب، ومع تجربة الثورات العربية، وما حدث من تجمع دام لفترات، وحالات من الوفاق والتعايش، أتصور أن الفجوة التي صنعتها بعض الأنظمة، في فترات سابقة، هي قائمة على ايجاد اختلاف بين النوعين، وحالة من العقاب كانت تقع على المرأة بسبب جنسها، تمثلت في سلوكيات، وأحيانأ قوانين، هذه الأمور عانت منها المرأة كثيرًا، ومازالت في بعض المناطق، ومع إدراكي لذلك أرفض أن يكون هناك ما يسمى بالكتابة النسوية، وفق قواعد وشروط تحكم هذه الظاهرة وهذا التوجه‭.‬

التصنيف، في حد ذاته، يصنع تمييزًا قائما على فرضية أن المرأة أقل أو أضعف، أو أكثر قدرة علي التعبير عن قضاياها، بينما التجربة العملية والرصد للجوانب الاجتماعية ووضع المرأة، يكشف أنه لا صورة نمطية ثابتة للمرأة، فبينما نقرأ في الجرائد عن أزواج يعتدين بالضرب المبرح على زوجاتهن، نقرأ أيضا عن سيدات فعلن ذلك، وربما عن نساء قتلن أزواجهن، إن التمييز الفسيولوجي والبيولوجي للمرأة ليس مبررًا لتمييز ما تكتبه ووضعه تحت لافتة هي بالأساس معبأة بالتمييز، وهي لافتة النسوية‭.‬

باختصار المرأة انسان مبدع بكل ما للمبدع وما عليه.

روائية‭ ‬من‭ ‬مصر

شيء‭ ‬أنثوي‭ ‬خالص

آمال‭ ‬مختار

منذ إطلاقها كتسمية على ما قدمته المرأة وتقدمه من منتوج لفعل الكتابة كانت تلك المقولات سيئة النيّة‭.‬ إذ كانت بعقليتها الذكورية تتعامل مع منجز المرأة الأدبي على أنّه شيء أنثوي خالص، يستحق الأخذ بيده، تماماً، مثلما يؤخذ بيد المعاق عندما يبذل مجهودا رغما عن إعاقته‭.‬

من خلال هذه الثغرة الساذجة في الذهنية الذكورية انطلقت المرأة العربية جامحة في نصها، متجاوزة التجارب الأولى التي غالطت بحق الرجل، الذي اطمأن إلى النص البدائي الذي بدأت به المرأة، متحدثة عن قصص الحب العذرية، وشؤون المنزل، والحياة اليومية الروتينية، لتركض بعد ذلك متوغلة في تشريح قضايا الذات الانسانية الغامضة، مثل دكتور جراح خبير في شؤون الجسد وعلاقته المتشعبة بالروح‭.‬

لقد فاجأت المرأة بإبداعها، المنتظر من إنسان سوي وذكي، العقلية الذكورية التي ما تزال حتى الآن ـ للأسف ـ تتعامل مع هذا الإبداع بنظرة دونية، تبلغ، أحياناً، حدود اتهام صاحبة نص متميز بأن كاتبه الحقيقي رجل!

***

أعتقد أن ما طرأ من تحولات ثقافية عند العرب، بفضل الثورة الرقمية، هو الذي ساهم، مساهمة فعالة، في منجز المرأة العربية التي تكتب، وكان ذلك قبل الانتفاضات العاصفة في المنطقة‭.‬

ساهمت الثورة الرقمية في تحرير المرأة العربية من سجنها المعنوي، الذي قبعت فيه رهينة للعقلية الذكورية، التي لم تكن تسمح البتة للمرأة بأن تمارس فعلا ذكوريا بحتا، حسب اعتقادها، وهو فعل الكتابة‭.‬ أما القليلات من الكاتبات اللاتي مارسن هذا الفعل، قبل الثورة الرقمية، فهن المتمردات بحق على القبيلة الساكنة في الأذهان، رغم مظاهر التحضر في الحياة العربية عموماً‭.‬

الثورة الرقمية مكنت المرأة من الطيران في فضاء الإبداع عبر الكتابة، من دون أن تغادر مخدعها، أو قريتها النائية في الجغرافيا، حيث ضرب حولها الحصار‭.‬ كذلك برزت في المشهد الأدبي العربي كاتبات عربيات جريئات في طرح قضاياهن الحارقة، كعبدات يرفلن في الجهل والحرير، عند البعض، وفي التخلف والفاقة عند البعض الآخر‭.‬ مما جعل عدد الكاتبات يرتفع بنسبة لا يمكن مقارنتها البتة، في منسوب، سرعتها مع السنوات السابقة للثورة الرقمية، التي كانت فيها أبطأ من خطوة السلحفاة‭.‬

الانتفاضات، أو ما سمي بالثورات العربية، وهجوم طوفان التخلف/ من خلال تجار الدين وسماسرته، لعله سيهدئ من سرعة نمو عدد الكاتبات، لكنه سيدفع من تذوقن متعة الحرية والإبداع من الكاتبات إلى التمترس وراء مكتسباتهن، والنضال من أجلها‭.‬

***

الأكيد أن الفرحة بفكرة الثورة المفاجئة خطفت لبَّ بعض الكاتبات، في البداية، فكتب البعض منهن نصوصا، وليس أعمالا إبداعية كبيرة كالرواية والدواوين الشعرية، وبدت المرأة تواقة إلى الحرية المنشودة بحق، في ظل ديمقراطية وعدالة اجتماعية شكّلت الحلم الحقيقي لكل امرأة مثقفة تسعى جاهدة لخير بنات جنسها وتقدم مجتمعها‭.‬ غير أن الحلم قُصف ما أن نُهبت الثورة وخطفها الأخوان سماسرة الدين‭.‬

حلت الفوضى، وراحت المرأة المبدعة تناضل على أرض الواقع، في المظاهرات، في انتظار عودتها إلى «الصفحات» من أجل نضال أكثر تأثيراً خلوداً‭.‬

لقد انجزتُ ما يجب عليّ إنجازه، على المستوى الشخصي، من خلال رواية «دخان القصر» الصادرة في شهر مارس 2013 والتي تنبأت بمستقبل حركة النهضة الاخوانية بتونس، وهو ما حدث فعلا، لأن الدولة التونسية التي بناها الزعيم بورقيبة لا مكان فيها لهؤلاء المجرمين القتلة‭.‬

***

المرأة العربية المبدعة عليها أن تقف في الصف الأمامي للدفاع عن حرية المجتمع وتقدمه‭.‬

***

خطابات التحرر الإنساني والانعتاق من شتى أشكال العبودية الفردية والجماعية لا يمكن أن تكون فيها أفكار نسائية وأخرى ذكورية لأنها واحدة لا تتجزأ، ولأن الرجل الذي ينادي بهذه الأفكار لا يمكن أن يكون رجلا بعقلية ذكورية تستعبد المرأة لأنها أنثى‭.‬ هنا على الأحرار نساء كانوا أم رجالا أن يضعوا اليد في اليد للوقوف صفا واحدا في وجه تيارات الظلام من أجل أوطان حرة خالية من المجرمين والقتلة والسماسرة والفاسدين‭.‬

أعتقد أنه على المرأة الكاتبة أن تتجاوز، الآن، قضاياها الخاصة وتحول نضالها الشخصي إلى نضال جماعي، من أجل قضية الوطن، لأنه إذا ما انعتق الوطن من الخونة والسماسرة والفاسدين، سيكون وضع المرأة بالتأكيد أفضل بكثير مما كانت عليه في عهد الظلامين، الذين جاؤوا لوأد فكر المرأة وجسدها في قبور الظلام‭.‬

***

ليس أمام المرأة الكاتبة إلا الوقوف ضد حركتي التطرف ماديا ومعنويا وإبداعياً، لأن كل مبالغة تتحول، بالضرورة، إلى ضدها‭.‬ وليس أمامها إلا التعامل مع نصها، بأكثر حكمة، مبتعدة عن ردود الفعل التي قد تنزلق بها هي نفسها إلى شكل من أشكال التطرف‭.‬

***

أنا أؤمن بنص أنثوي وآخر ذكوري، بغض النظر عن جنس كاتب النص، الذي يمكن أن يكون العكس بالعكس، وذلك حسب نسبة الأنوثة والذكورة في الشخصية الكاتبة‭.‬ ولا يمكن لهذه النسبة إلا أن تكون نتاجاً طبيعياً لعقلية المجتمع المزدهرة بشتى أنواع العقد الانسانية‭.‬

***

الفضاء الثالث هو الفضاء المنشود، هو المدينة الفاضلة، ربما، والطريق إليها طويلة ووعرة غير أنّها ممكنة إذا ما أصرت المرأة على ذلك.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬تونس

الحكاءة‭ ‬الشغوفة بالكلام‭ ‬والحكايات

عبير‭ ‬عبد‭ ‬العزيز

المرأة فكرة ليست معتادة عند ساكني البيت، فهي غير مرحب بها في المكان، أو يتعاملون معها على أنها زائدة عن الحاجة‭.‬ المرأة حارسة الحلم والـذاكرة الجمعية، الحكاءة المستمرة، الشغوفة بالكلام والحكايات المليئة بالأسرار والغموض، فعلى مر العصور كانت مصدرا للإلهام فهي رمز للعطاء والخصوبة‭.‬ ففي الحضارة اليونانية والرومانية مُثلت المدن في التصاوير والرسوم على صورة امرأة جالسة على عرش السيادة، يجلل رأسها تاج من أسوار المدينة‭.‬ ورغم ذلك عانت المرأة كثيرا عندما قررت أن تبدع‭.‬ والمرأة عندما تكتب مساحة المحظور لديها أكبر بكثير من الرجل، وأسلوب تلقي عملها الإبداعي دائما تحيط به هالات أقسى في قوانين التلقي‭.‬

حيث يتم سجنها في موضوعات بعينها ينتظرها منها المتلقي ويُصدم إذا لم يجد في عملها ما يتوقعه‭.‬ ولا أتكلم هنا عن مستوى فني وذلك ما حدث معي عندما أصدرت ديواني «مشنقة في فيلم كرتون« كان من المستغرب عدم وجود صوت أنثوي بالمعني المتعارف عليه في الديوان، وكان صادما اهتمامي بالرؤية الفلسفية والفكرية للوجود وكما قيل لي: كأننا نقرأ لشاعر‭.‬

لم ينتبه إلا القليل بوجود شاعرة تُعيد تعريف العالم، وعلاقتها الخاصة به، من خلال رؤيتها الخاصة، والتي قد لاتشبه فيها أحدا مـذكرا كان أم مؤنثا‭.‬

أكثر ما أخشاه على إبداع المرأة هو الإسقاط من رؤية الآخر وتطبيق المقولات والنظريات النسوية على ذلك الإبداع، فتلك النظريات مجهود كبير لرؤية شمولية نظرية للإبداع النسائي تُساعد على تظهير جزء من هذا العالم وتقريبه للمتلقي والدارس‭.‬ لكن الإبداع الحر يفاجئ الجميع بقوة وسرعة، ويمكن أن يخرج عن كل الأطر والسياقات النظرية حول الأدب النسوي، وهنا تنتج نظريات جديدة حول ذلك التوغل وتلك الخصوصية‭.‬

***

نحن هنا لانتكلم عن مشاكل المرأة ولا قضاياها وإحساسها بلغة الجسد ولكن نتكلم عن مبدعة مفردة تعبر عن روحها، وعن رؤية تتجسد في مفردات وأفكار شخصية تصدر عنها ليس بالضرورة أن تشبه ما يصدر عن أحد آخر غيرها، رجلا كان أم امرأة‭.‬ نتحدث عن خصوصية تتفتح بصوت فريد وتترك أثرا خاصا، تملك قدرا خاصا من الخبرة والمعرفة بالـذات، ولكنها تملك قدرا أكبر من التساؤلات التي تبحث عنها وتكوِّن عالمها الفني من خلالها‭.‬

إنها لا تهتم، في الدرجة الأولى، بالبحث عن قضايا تعبر عنها فهي قضية بحد ذاتها، ولا تنبش لتجد كنوزا تكتشفها بقدر الكنز الـذي تحمله معها ويخص جميع مفرداتها‭.‬

تحولات الشارع

بالنسبة لتأثير ماحدث من انتفاضات عربية على إبداع المرأة، أجده سؤالا سابقا لأوانه، فدائما الإبداعات الحقيقية الموغلة في عمق التجربة تحتاج إلى وقت حتى تخرج إلى النور مكتملة ومؤثرة‭.‬ أما صعود صوت خطابات الإسلام السياسي فهو تحد دائم لدى المرأة عموما، وحقوقها الشخصية، فما بالك بالمرأة المبدعة والفنانة‭.‬ لكن في السنوات الأخيرة ظهرت مجموعات أطلقتُ عليها «كبسولات الإفاقة« سواء كانت مجموعات من رجال ونساء أو نساء فقط، تهتم بتوعية فنية للشارع والنخبة، وإيجاد حلول جديدة للتوغل والتأثير في المجتمع، والكشف عن لغة مشتركة، حتى يعود للفن والإبداع الصدارة في التأثير وتغيير الإحساس‭.‬

ومن المدهش وجود جماعات من النساء تقوم بأدوار رائعة ومبتكرة في هذا المجال، حيث مجموعات لصناعة أفلام قصيرة تخص المرأة، أو جماعات حكي مختلفة المناهج، أو مسرح، أو انتاج رسوم كومكس، وغيرها الكثير‭.‬ ولي تجربة تخصني في ذلك، تكوين مشروع «ذات للشاعرات» بدأ عام 2013، وهو مشروع ثقافي يهتم بتقديم الشعر، وخاصة قصيدة النثر، وتقريبه مرة أخرى من النخبة الثقافية والناس، عن طريق فنون جدية لم تقترن سابقا بالشعر، وذلك من خلال الشعر الـذي تكتبه شاعرات‭.‬ فهنا الهدف هو الشعر، والوسيلة إبداع تنتجه المرأة‭.‬

نحو التحرر

على رغم من أن هناك محاولات كثيرة على مرّ التاريخ حاولت معها المرأة السيطرة والهيمنة على جسدها وروحها، فهي مازالت تسعى تحت مسميات كثيرة، فلابد أن يلعب الإبداع النسائي دورا في التحرر، وليس هـذا في الكتابة بحرية عما يختلج في مكنونات المرأة وحسب، ولكن في ذلك الدور الـذي تلعبه في التأثير بإبداعها على أجيال، وتغيير أساليب التلقي بحلول مبتكرة وفنية، وحتى لا يظل إبداعها مُهمشما ليس لدى النقاد وحسب، ولكن لدى جمهور حقيقي يبحث عن إبداع مغاير وقوي‭.‬

أحب في النهاية أن أضرب مثلا قويا ومؤثرا للنقد والرؤية القوية المخترقة لكل سور، التي تضع الشيء في موضعه الحقيقي أمام التاريخ، مهما كانت المسميات‭.‬ عندما كتب إدوارد سعيد مقالته الجميلة العميقة عن الراقصة المصرية تحية كاريوكا كتب العراقي علي بدر عن تلك المقالة قائلا :

«هـذه المقالة جاءت صادمة وعلى نحو غير متوقع في مسار إدوارد سعيد، لا لأنها تعكس اهتماما ميثلوجيا جديدا له في فترة حاسمة من تطوره الفكري والنقدي فحسب، إنما لأنها تهدم، وبشكل كامل، الفوارق الهرمية في التراتب العنيف بين ثقافة مثقفة وثقافة مهمشة».

شاعرة‭ ‬من‭ ‬مصر

الخاسر‭ ‬الأكبر

طرهان‭ ‬صارم

لدي وجهة نظر مختلفة في هذه القضية، فأنا لا أؤمن بوجود اختلاف جوهري بين ما تكتبه النساء وما يكتبه الرجال، فإحساس المرأة لا يختلف عن إحساس الرجل إزاء القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية عموماً، إلا ضمن حيّز ضيق جدا لا يكاد يذكر، وهذا الاختلاف مرده إلى طبيعة المرأة الفيزيولوجية، فهي أكثر ميلاً للمصالحة والسلام مع قضايا الواقع من الرجل الأكثر ميلا للمواجهة‭.‬

أصبحت المرأة أشدّ التصاقاً وتأثرا بواقع ما سمي «الربيع العربي» كونها كانت الخاسر الأكبر في هذه الفوضى‭.‬ ففي أغلب الأحيان هي أم مفجوعة، أو زوجة، أو أخت‭..‬إلخ، وأعتقد أن ما كتب من مقاربات لما يجري من تحولات في العالم العربي لا يرقى إلى مستوى الوعي المطلوب، للخروج من الواقع الجديد، لكنني كامرأة وكاتبة أجد نفسي قادرة على التقاط الوجع الإنساني، وأعتقد أننا سنشهد في السنوات القادمة نوعا جديدا من الأدب ربما يطلق عليه أدب «التحولات العربية»‭.‬

***

انخرطت المرأة في البداية مع الشعارات المطروحة، فشكلت لها إغراءً، كونها تحمل هموما تخصّها من حيث العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة، ولكن سرعان ما وجدت نفسها خارج سياق ما يجري، بل إن ما حصل كان أقرب إلى إقصائها إلى حد التشيؤ واستغلالها كسلعة وجسد، ومن المؤسف ظهور مفاهيم جديدة في «الثورات العربية» جعلت المرأة عبدة لغرائز الرجل، وقد تم التعبير عن ذلك بما يسمى «جهاد النكاح» على سبيل المثال، الأمر الذي أساء لصورة المرأة العربية كثيراً‭.‬

دون شك تشعر الكاتبة العربية الآن بالخوف والقلق على كيانها ومستقبلها وخاصة مع ظهور خطاب إسلامي مشوّه أعادها إلى عصر الحريم ‭.‬

كون المرأة هي الخاسر الأكبر في الحروب، أعتقد أنها تمتلك رؤية نقدية بناءة أكثر من صديقها الرجل، المنهمك في حمل السلاح والحرب، وحسم القضايا بالعنف، دون مراعاة للشعارات والأفكار التي طرحت في البداية، فما الذي يهم المرأة من كل هذه الشعارات، إذا فقدت كينونتها وصيرورتها في فوضى السلاح والحرب ‭.‬

أهم ما يشغل بال المرأة الكاتبة، في ظل التحولات الحاصلة في المنطقة هو الخروج من هذا الواقع المتردي بأقل الخسائر، وتصميغ ما يمكن تصميغه مما أصاب المجتمع من تصدعات مع النزوع إلى السلام ‭.‬

***

إن التعري كأسلوب للاحتجاج والرفض يكرّس نظرية المرأة الجسد، ويكرس المشاعر الغريزية، وأيضا حجب جسد المرأة واعتباره عورة يكرّس نفس النظرية السابقة، وأنا أراهما وجهين لعملة واحدة فيها إساءة للمرأة ككائن حر ‭.‬

ما تعانيه المرأة والمرأة العربية خصوصاً من قمع وتهميش من سلطات المجتمع، بمختلف أشكالها، هو معضلة حقيقية وجزء من قضيتها لابد وأن يبرز في أدبها وشعرها، وكذلك الأمر مع الرجل الكاتب المناصر لقضايا المرأة، وأرى أنه لا يمكن للمرأة أن تحقق أي تقدم في هذا الإطار دون شريكها الرجل، وهي تحتاجه كي تأخذ مكانها وحجمها الطبيعي في الحياة‭.‬ من هنا، فإن المرأة تطمح إلى نموذج الرجل الواعي لكيانها الإنساني، المتفهم لحاجاتها، والمؤمن بكمالها الإنساني، لا أن ينظر إليها على أنها أقل شأناً منه، أو أنها بحاجة دائمة للحماية والرعاية من طرفه‭.‬ أنها تطمح لتحقيق تلك التشاركية معه، بحيث تصبح الحياة لكليهما على قدر واحد من الاحترام والوعي والرؤية الفكرية الواضحة.

الفنان: عبدالباسط الخاتم

شاعرة‭ ‬من‭ ‬سورية

الأدب‭ ‬لا‭ ‬يجنّس

زينب‭ ‬غاصب

أحتج على كلمة أدب نسوي، فالأدب لا يُجّنس، كلا الجنسين يكتبان أدبا، الفرق بينهما الإجادة، فهناك من يكتب بثقافة وفن، من حيث قيمة الموضوع وامتلاك أدواته، اللغوية، والفلسفية، وأسلوبه المغاير، وهناك من يكتب بتقليدية‭.‬ والمتفوق هنا هو النص الذي يفرض سطوته على الثقافة، وهذا ما فعلته المرأة قديما وحديثا‭.‬

***

لم يطرأ على المرأة العربية تحولات كتابية، فهي منذ بدأت الكتابة حاولت أن تكتب ضد كل ما يقيّد حريتها، ويستعبد إنسانيتها، ويناهض مشاركتها كند للرجل وليس كتابع لظله‭.‬ جاءت الانتفاضات العربية لتعزز السطوة الذكورية، وتضيق عليها أكثر من ذي قبل، إذ أن الانتفاضات كلها راحت تكرس النظرة الدونية للمرأة، مما جعل المرأة تخوض غمار الكتابة السياسية، مناهضة للفوضى، ومطالبة بحقوقها، التي تجاهلتها الثورات القائمة على الخطاب الرجعي، المنبثق عن رؤية دينية، من صنع الأشخاص‭.‬

***

ليس للانتفاضات العربية شكليات، أو برامج واضحة، يمكن أن نقرأ منها ملامح تتجه نحو نهضة عميقة للمرأة، أو فعل يجعلها شريكة في العمل السياسي، والمجتمعي، كل الثورات العربية شعاراتها ترتزق باسم الدين، وتعمل على التستر خلفه‭.‬ ومن هنا جاءت كتابات المرأة في هذه الفترة منصبة على مخاوفها من قمع وجود المرأة، ومحوها من خارطة الفكر، وحذف نون النسوة، من قائمة الثقافة، لتكون السيادة لجمع المذكر السالم، وعلى هواه، وتحت وصايته‭.‬

***

خطاب الإسلام السياسي يرى في المرأة مرتعا للانحراف، فهي مركز العورة والعار في خطابه المتطرف، فكان لابد من كتابات لتعرية هذا الفكر، ومن هنا بدا صوت المرأة ناقدا لهذا الخطاب في كتاباتها بكل الأشكال الأدبية، ضد هذا الخطاب، وضد أن يقبض على كراسي السلطة‭.‬

***

المرأة في همومها الكتابية، كالرجل تماما، تشترك معه في هموم مجتمعية هي في مجملها منصبة على ظواهر سائدة، بما في ذلك التأثر بالتحولات في الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، إلا أن نبرة الحقوق المسلوبة من المرأة بفعل السلطة الذكورية القابضة على المجتمع وعلى القرار السياسي، تشغل الحيز الأكبر في كتابات المرأة، فلم تعد تشغلها النزعات الرومانسية المعروفة عنها بطبعها الفطري العاطفي، فقد تجاوزت كتاباتها هذه الحالة إلى حالات، أشمل كانت حكرا على كتابات الرجل في كثير من الأشكال الكتابية، وقد أظهرت تفوقا في هذا التحول، ومازال في جعبتها الكثير، خصوصاً أن الانتفاضات العربية، كما أسلفت، غير واضحة المعالم‭.‬ لذا فإن النضج الفكري سيأتي، على الأرجح، لاحقا، لقراءة التحولات العربية‭.‬

***

المرأة كتابيا تتعامل من النص على أنه كائن حي، يلبس، ويتعرى، ويستيقظ، وينام، ويغتسل، ويذنب، ويتطهر، وقد تحررت كتاباتها من دائرة الممنوعات خصوصاً في الروايات التي كتبتها المرأة العربية، وتعرضت من خلالها لموضوعات خاصة في علاقتها بالرجل، وكانت موضوعات الجنس ضمن دائرة الكتابة التي يراها التيار الأصولي خارجة عن الدين، والأخلاق‭.‬

والواقع أن توظيف العلاقة العاطفية وربطها بالجنس، في سياقات غير منسجمة مع متطلبات النص الأدبي جعلته يفتقد للكثير من جماليته، وهذا ما أوجد خللا في بنية السرد، لكن التمرد الأدبي في كتابات المرأة بدا على طبيعته، نزوعا فنياً وثقافياً، وشكل سمة تعكس بصدق الكثير من حيثيات الواقع، والرغبة الخروج عن سلطة التيار الأصولي، وقد أصبح أدبها أكثر تحدياً في فضح السلوكيات الأصولية المتناقضة‭.‬

***

الحديث عن أشياء الأنوثة في كتابة المرأة أمر طبيعي، لكونها ممزوجة بها ومعجونة فيها، وإن أخفت الكاتبة في يومياتها مشاعرها الأنثوية، فهي تظهر في النص حتى ولو بصور رمزية، خصوصا إذا ما وضعت الكاتبة الأنثى حدودا لتقيدها بقوالب المجتمع الرافض لأشيائها، ولعل أكثرنا لاحظ كيف أن الرجل يعتدي على تلك التفاصيل الأنثوية كثيرا في كتابته مثلا، كما هو الحال مع شعر نزار قباني‭.‬ إلا أن المرأة الكاتبة، وفي كثير من الحالات، تبدو وكأنها استعادت تلك السطوة في كتابتها، بشيء من الجرأة‭.‬

أخيرا، من المفترض أن تنهض المرأة بقضاياها، من دون أن تتقمص دور الرجل، أو تترك الرجل يتسلق جدار همومها المكتوبة، لتكون الثقافة طابعاً واقعياً، من منطلق الشراكة الوجودية القابضة على مفاصل الحقيقة الإنسانية الكامنة في حياة الجنسين.

شاعرة‭ ‬وكاتبة‭ ‬سعودية

جور‭ ‬السلطان‭ ‬الاجتماعي

سوسن‭ ‬جميل‭ ‬حسن

قبل هذا الإعصار الذي يعصف بفضاء المنطقة العربية، كانت المرأة تعاني بطريقتين، فهي قبل أي شيء واحدة من مجموع يسمى شعباً يرزح منذ عقود تحت سلطة أنظمة قمعية أفقرت شعوبها روحياً ومادياً ونفسياً وإبداعياً، وقد طال المرأة ما طالها من هذا الجور والظلم، فهي عانت كأم، وكزوجة، وكامرأة عاملة، حتى في الحالات القليلة التي دخلت فيها العمل السياسي، خاصة في الأحزاب أو النشاطات المعارضة للسلطة الحاكمة دفعت ثمنها غالياً ولم توفرها السجون، أو الإقصاء أو الحرمان من فرص العمل وبالتالي العيش، والنفي أو اللجوء إلى الهجرة كخيار لا بد منه‭.‬

أما على الصعيد الآخر، فقد كانت تعاني ظلماً إضافياً، بسبب جور السلطان الاجتماعي والديني ومنظومة الأعراف والتقاليد، التي تراكمت تاريخياً بفعل تمادي السلطة الذكورية، ودفع المرأة إلى مراتب اجتماعية متدنية، أو حبسها بين جدران البيوت لتقوم بالوظيفة الاجتماعية الوحيدة المباركة من هذه السلطة: الأمومة، وإرضاء رغبات الزوج‭.‬ في تلك المرحلة كانت المرأة تناضل لتحصل لنفسها على موقع في النسيج الاجتماعي، دخلت ميادين الوظائف الاجتماعية في العديد من المجالات، لكنها لم تكسب مكانتها المنشودة بعد، وعندما اجتاحت المنطقة رياح التغيير، وهذا أمر كان لا بد سيحصل، بدافع إدراك الشعوب لذاتها وانتفاضها من أجل صناعة حاضرها ومستقبلها اللائق، هذه الرياح تحولت إلى أعاصير، وبالرغم من مساهمة المرأة ومشاركتها الصادقة والفاعلة في هذه الحركات الاحتجاجية التي كانت ترنو إلى أن تتبلور إلى ثورات، إلاّ أنها ألفت نفسها في مواجهة تحديات أخرى، فطالتها أعاصير المنطقة ودفعت الثمن الأكبر‭.‬

صورة مشوشة

هذه المرحلة سوف تنتج أدبها الخاص، وأخمن أنه سيكون للنساء نصيبهن من المساهمات، إن كان لجهة معاناة المرأة تحديداً وما لحقها من تبعات وظلم وقهر، أو لجهة شواغل الرواية الأخرى، فالمرأة الكاتبة انطلقت من حيز الكتابة النسوية إلى مجالات أوسع، أظن أن الأدب النسوي سيزدهر بمساهمة الكتاب والكاتبات لما لحق المرأة من تبعات هذه التغيرات الحاصلة‭.‬ لكن من الباكر الحديث عن هذا الإنتاج الإبداعي، فالتجارب لا زالت مستمرة والتحولات لا زالت قائمة، إنما يمكن الحديث عن إرهاصات لم تنضج ملامحها بعد، فلا زالت الشواغل تدور حول القمع السياسي والاعتقالات والعنف والتردي المعيشي والأخلاقي والقيمي، كما حول استدراج الماضي وإعادة رسم التاريخ لعرض المقدمات التي أوصلت إلى هذه النتائج، ولم تتوضح بعد قضية المرأة بشكل جلي ومحدد في كتابات المرأة‭.‬ هذا بالنسبة إلى المنجز الأدبي، أما بالنسبة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن إدراجها كواسطة أو منبر يقدم أجناسا إبداعية مختلفة منفلتة من أي قيود أو ضوابط ونظم، فنرى أن مواضيع تخص المرأة يتم تداولها بكثافة، انطلاقاً من موضوع الجسد الذي يعتبر نواة أو ركيزة أساسية لتناول قضية المرأة، وكذلك إرجاع المرأة إلى وضعها النمطي وتبعيتها للرجل، بل إرجاعها إلى عصور ظلامية مدعومة بفتاوى واجتهادات تتكئ إلى الدين والشريعة، وصولاً إلى دورها في الحراك وفي الحياة العامة‭.‬

مسألة الحرية

لا يمكن فصل حرية الشعوب عن حرية المرأة، ولا يمكن تنحية المرأة عن مجال الأهداف والطموحات والشعارات التي تطرحها الشعوب المنتفضة، فعندما نتحدث عن الحقوق وعن العدالة الاجتماعية وعن المساواة وعن حرية التعبير وعن المواطنة وغيرها من الشعارات المطروحة، فإننا نتصور مجتمعاً قريباً من النموذج، يحظى فيه الإنسان برتبة المواطن من دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو القومية أو غيرها من التمايزات الأخرى، ولا مكان فيه للمستضعفين الذين كانت النساء تشكل الشريحة الأوسع بينهم‭.‬

لكن لا يمكن الحكم على الأمور في هذه الفترة، فالوضع المضطرب، وتداخل السياسي بالاجتماعي والفوضى التي تولدها هذه الحراكات التي تحولت في بعض بلدان الربيع العربي إلى حروب، كلها عوامل تجعل المنتج الأدبي الخاص بهذه المراحل مرتبكاً قلقاً غير مكتمل، خاصة أن التحديات باتت أوسع وأكثر تنوعاً وأعنف، فظهور الجماعات المتشددة ونهجها التكفيري الإقصائي ونهجها العنفي، وبرامجها المطروحة لإدارة حياة الأفراد والمجتمعات بالقوة وتقييدها بحرفية نصوص كانت قبل ألف وأربعمائة عام أكثر مرونة في تطبيقها، سوف يؤدي فتح جبهات أخرى للنضال والمواجهة، حيث تقبع المرأة وإشكالية قضاياها في نقطة المركز‭.‬

لا يمكن تحرير المرأة، ولا يمكنها هي أيضاً أن تتحرر بمعزل عن باقي المجتمع، لا يمكن النهوض بهذه القضايا دون حرية فكرية، ودون نسف حمولة الماضي والتأسيس من جديد لثقافة أخرى، إذا لم تتم المصالحة مع الجسد، وتحريره من قيوده وفصله في الوجدان الجمعي والثقافة الموروثة عن دوره كشماعة تعلق عليها مفاهيم العفة والطهارة والعرض والشرف‭.‬ وليست الظواهر المتفرقة التي رأيناها في بعض الأماكن من تعرٍّ للجسد سوى جموح إلى أقاصي التعبير، كي يكون ذلك بمثابة صرخة موجعة تهز العالم، من أجل أن يصحو على حقيقة أن المرأة كائن حي له حقوقه كإنسان، وليس تقييدها وإخفاؤها منقبة سوى محاولة لمحو هويتها الإنسانية، ولا أظنها دعوة لأن يكون التعري نمط حياة.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬سوريا

أوهام‭ ‬الصياد‭ ‬ورعب‭ ‬الفريسة

زينب‭ ‬علي‭ ‬البحراني

المقولات والعبارات الرنانة جميلة، لكن كلامًا لا يغير شيئًا من بؤس الواقع، ويعجز عن تجميل قبحه وغسل قذارته يشبه الغناء في مدينة كل سكانها مصابون بالصمم‭.‬ ما جدوى أحاديثنا اليومية على الورق عن الأدب النسوي ومشتقاته ما دمنا لا نرى ما يكفي من الاحترام والتقدير والدعم والتمكين للمرأة المثقفة ومسيرتها الصعبة على أرض واقع هو وحده القادر على صنع الأشياء وتغير أشكالها‭.‬

***

أوضاع المرأة في عالمنا العربي، لا سيما في المناطق التي تسيطر عليها ثقافة الغاب القبلية، لا زالت من سيئ إلى أسوأ‭.‬ الانحدار الاقتصادي والمُجتمعي الذي أدت إليه تلك «التحولات العاصفة»، ضاعف من سوء أحوال المرأة في أماكن كثيرة‭.‬ وتقهقر الأحوال الإنسانية لا يمكنه أن يؤدي إلى تقدمٍ وانتعاش أدبي، بطبيعة الحال، مهما ترددت الجمل الجوفاء التي تتغنى بـ«التحولات الثقافية الجديدة في هذه الفترة الزمنية»‭.‬

***

شعارات وطروحات ما يُسمى بـ«الانتفاضات العربية» تستغل قضايا المرأة في بداياتها لتحقيق أهدافها الثورية والسياسية، وما أن تصل إلى مُبتغاها، باستغلال أصوات النساء وحضورهن في شوارع الثورات كأرقام، تنقلب فورًا على القضايا النسوية، وتبدأ بتجاهلها، إن لم تحاول مكافحتها ووأدها‭.‬ مع هذه الحقيقة المُفجعة أتساءل: لم يجدُر بكل كاتبة عربية التشاكل مع تلك الشعارات المُخادعة للمرأة وقضاياها؟

***

ليس هناك مثقف «لا يشعر» بأخطار صعود خطابات الإسلام السياسي، سواء كان ذكرًا أو أنثى، إلا إذا كان منعدم الإحساس والشعور، أو ضعيف الإدراك‭.‬ خطابات الإسلام السياسي تستهدف حياة الإنسان وحريته بأسانيد وصياغات تسرف في تطرّفها المريض، لتحقيق أهداف ومصالح عصابات فكرية تتنكر بأقنعة الدين لتحقيق مصالحها الشخصية، وتغييب عقول الناس‭.‬ وبما أن المرأة هي نصف المجتمع، سيكون، بالتالي، من السهل السيطرة على نصفه الآخر عندما يجري قمعها وتغييبها عن ساحة الحقوق الإنسانية‭.‬

***

لا جدوى من اجترار أسطوانة النقد المشروخة، في هذا الإطار، لأنها لم تقدم شيئًا للمرأة طوال الأعوام التي سبقت انتفاضات الألفية الثالثة، ولم تقدم شيئًا خلال الأعوام التي تلتها‭.‬ النقد الأدبي لا يُطعم حُرية!

في عالمنا العربي نعيش –بكل أسف- خارج الزمن، نتقهقر كل يومٍ عامًا كاملاً إلى الوراء‭.‬ في سياق هذا التخلف الشديد، لازال أكبر هموم المرأة هو التعبير عن آرائها الأدبية تجاه ما تراه ظلمًا واقعًا عليها، وتريد أن تفعل بحرية وصراحة، دون أن تسدد نحوها سهام الهجوم والطعن في سمعتها الشخصية‭.‬

***

المفروض أن يكون «الجسد» في النص هو «وسيلة» وليس «غاية» بحد ذاته‭.‬ الجسد في الكتابة هو «رمز» لفكرة ضرورية لا يمكن تقديمها إلا بهذه الطريقة، ومن هذا المنطلق ليس من المعقول أن يكون هو «الشغل الشاغل» للكاتبة أو الكاتب، مادام قد تجاوز مرحلة المراهقة البيولوجية بسلام! أعتقد أن الشعراء والشاعرات، والروائيين والروائيات، والنقاد والناقدات، الذين واللواتي، لا يكتبون ولا يكتبن عن قضية إلا قضية «جسد المرأة» في جل نصوصهم ومقالاتهم، ليسوا سوى مهووسين جنسيًا يحاولون إخفاء مرضهم تحت عباءة الثقافة ونظرياتها!

***

ما جدوى الكتابة إن لم تكُن صوتًا صريحًا رافضًا لبشاعات الواقع ومحاولة لتغييرها فعليًا بالسلاح الوحيد الذي يملكه الكاتب، وهو «الكلمات»؟ الحديث عن الأنوثة في الكتابة، دون السماح لتلك الكتابة بالتأثير على مجريات الواقع، ليس سوى إهدار للوقت، واستخفافًا بكل مفاهيم الأنوثة‭.‬

لا يمكن الوصول إلى شراكة فكرية حقيقية بين الرجل والمرأة دون نضج انساني للفرد، بغض النظر عن جنسه، وهذا النضج لا ينمو ويتأصل إلا بنمو خبرات الحياة بين الطرفين، تحت مظلة مُعافاة من الحرية المسؤولة، وهي مسألة معقدة تتطلب تربية أجيال جديدة على النظر إلى الطرف الآخر كشريك، بعيدًا عن أوهام الصياد ورعب الفريسة.

روائية‭ ‬من‭ ‬السعودية

اسم‭ ‬رجالي‭ ‬مستعار

رحاب‭ ‬أبو‭ ‬زيد

مشاركة المرأة الحثيثة في كافة أوجه الكتابة وموضوعاتها لاتزال تعمل على نفي نظرية الأدب النسوي وفصله عن الأدب الرجالي، طالما لم يخلق الأدب الرجالي لنفسه هوية مستقلة يوماً، في ظل غياب المصطلح، فمن الطبيعي أن يذوب الأدب النسائي مع ذوبان أدعيائه الذين أعيتهم فكرة الفصل والتصنيف‭.‬ مثال على ذلك أعمال رجاء عالم وتحديداً روايتها الفائزة بالبوكر «طوق الحمام» ليست أدباً نسوياً لكن الرجل لا يتقبلها خارج هذا الإطار‭.‬

نظراً لقلة الدراسات المنصفة لأعمال المرأة الإبداعية، لا يمكن تحديد نمطية واضحة للمرحلة في الوقت الراهن، خاصة وأن أحوال الانتفاضات ذاتها لم تستقر بعد على شكل العالم الجديد، فكل يوم نحن في شأن! يجب أن ننتظر عشرات السنين قبل أن نقرر جودة أدب المرأة – أو الرجل – في تناول التحولات المعاصرة‭.‬

حين تحاول بعض القوى حصر أعمال المرأة في تصنيفات محددة، من الضروري ألاً ترضخ للضغط المجتمعي العام الذي يحدّ من إبداعها، المرأة الكاتبة ترصد وتتابع وتملك قدرات خاصة للتحليل والابتكار والتخيل، تمكنّها من خلق أجواء ساحرة لأعمال تُكتب لها الديمومة، لتدع الرواية أو الإبداع يتخلق من نفسه ولنفسه، دون تردد أو ذعر من الرقيب الخارجي والداخلي، أو من اختيار موقفها المستقل من الشعارات والتيارات الرائجة، المرأة الكاتبة قادرة على تمييز الطريق وعدم اللحاق بالركب لمجرد اتّباع السائد‭.‬

***

حدس المرأة يستشعر الأخطار قبل وقوعها ناهيك عن المرأة الكاتبة، ولكن يجب التفريق بين الكاتبات في الدول التي وقعت فيها أحداثاً ذات صلة بثورة أو انتفاضة شعب، حيث وجدت المرأة نفسها، في وسط المعمعمة، مضطرة للانتخاب والترشيح، رغم توافقها مع تركيبة بلدها وقد تكيفت مع أيدولوجياتها وقوانينها لردح من الزمن، والكاتبات في الأوطان العربية التي لم تتعرض لاضطرابات الثورات العربية وآثارها البشعة على الناس‭.‬ الكاتبات العربيات، حالهن كحال الكتاب، لسن مطالبات بقراءة الطالع، ولا كتابة قصص خرافية تصورية عما سيؤول إليه المستقبل، لكنهن وجدن أنفسهن جزءاً من المشاركة العامة لعبور الجسور المحروقة والأراض الخربة إلى برّ الأمان، وفي هذا مؤشر إلى أن الكاتبة العربية تناضل لرفع مستوى الخطاب المتداول إلى مرتبات عليا من الوعي، والأدوار الفاعلة في نصرة كينونة الوطن بأكمله، عوضاً عن المراوحة في منطقة المطالبة بأبسط الحقوق‭.‬

من الصعب القول، الآن، إن حركات النقد النسوية تتسق، تماماً، مع نوعية الخطابات التي تفرض وجودها على الساحة، بل لسنا في حاجة لها في المرحلة الراهنة‭.‬ في الواقع نحن بحاجة ماسة وملحة لاختيار المنجز النوعي، وتحديد ملامحه، وفرضه بقوة الإبداع‭.‬ الفرصة سانحة، مجتمعياً وأدبياً وثقافياً، لاستقبال أعمال تحمل رؤى مختلفة، في خضم الاضطراب الذي تعيشه البلاد وتمر به الدساتير، من الطبيعي أن يقول الأدب كلمته، الآن، أو على الأقل يوعز بها، التحليل السياسي، ليس محله نشرات الأخبار فقط، الساحة الأدبية تتوق لأعمال تحكي عن الثورات، من منظور بعيد عن الإعلام المغرض أو الإعلام المؤدلج، وبالفعل قرأت أعمالاً مصرية – مثلاً- مرّت على ذكر الثورة المصرية مروراً مرتبكاً بالرغم من كونها في قلب الحدث‭.‬

حين يكتب الرجل عن الحب – مثلاً- تحاط أعماله بالشرف والتجاوب بينما تعدّ كتابة المرأة عن الحب انتقاصاً ومحدودية في التفكير‭.‬ فكما أن الموضوعات النسائية لم تعد حكراً على المرأة وحدها، الشأن السياسي ليس وقفاً على الرجل، فهو يتحكم بمجمل معطيات الحياة، ويشكل هماً للكاتبة، ومن البدهي أن تبعاته الاجتماعية والثقافية تنعكس على علاقتها بالآخر، سواء كان امرأة أو رجلاً، بالإضافة إلى التغيرات المتسارعة في خريطة الأماكن، والحنين إلى ماض سحيق، وعذابات ناجمة عن تبدل القيم، واضطراب فرص العمل، والبطالة، وسلطة القبيلة والجماعة، وتحديات الأنظمة والقوانين الرجعية، وأمراض نفسية شتى يعيشها العربي في كل مكان، كل هذا يشكل هموما للكاتبة ويحتل مساحة من كتاباتها‭.‬

اذا استطعنا الفصل بين ما هو كائن وما سيكون، أعتقد أن الكاتبة تعيش حريتها المحرمة عليها في الواقع داخل النص/الجسد، وبالتالي يجب ألا تقبل الكاتبة من يمثلها إلا قلمها، الذي به تنطلق إلى خلق أفق جديد يجبر العالم على احترام كيانها، من خلال تمثل مبادئها الخاصة، دون تابعية لأي طرف من الأطراف، يتأتى ذلك من خلال الفكر الحر فحسب‭.‬

***

هناك إشكاليات، دائمة، لدى تناول القارئ العربي والناقد المثقف للأعمال النسائية، حيث تجده يصنف العمل، فوراً، على أنه أنثوي بامتياز! فماذا يعني ذلك سوى تردي النظرة الجادة نحو فكر المرأة وإبداعها، متناسين زمناً كان يتخفى فيه بعض الشعراء الرجال خلف أسماء نسائية‭.‬ الرجل أيضاً يكتب نصاً أنثوياً مفعماً بالوجدانيات والتأمل، حتى بتّ أفكر في مدى إمكان الكتابة خلف اسم رجالي مستعار لأحظى بالحيادية!

حين تدرك المرأة أن الكرامة هبة إلهية لا تُمنح لها كفضل من أحد ستتغير لغة خطابها، واتجاهها في التعاطي مع الرجل وما يحيط به من قدسية مكتسبة إلى التكامل وليس الندّية‭.‬ والكاتبة اليوم تحارب في عدة اتجاهات، بين النهوض بغيرها من النساء، وبين دفع ضغط الأنظمة الجائرة الواقع عليها من جهة أخرى، تبعاً لذلك سيدرك الرجل المثقف والقارئ أن المعركة خاسرة، خصوصا عندما يدرك أن الخصم ينتقل بأسلحته ليوجهها إلى الطرفين المرأة والرجل، وأن كلا من هذين الكائنين يواجهان معتركات الحياة معاً، وكذا الأمر مع مخاضات الإبداع العسيرة.

روائية‭ ‬سعودية

الخراب‭ ‬بابتسامة‭ ‬عريضة

فتحية‭ ‬الصقري

التخلص من أزمة الوقوف على السطح تحتاج إلى مهاراتِ إقناعٍ عالية وشجاعة؛ لتوفير جرعات كبيرة من الإيمان بأن الأعماق تشتهر بالجماليات والأشياء النادرة، ورؤيتها ولمسها يعني اختفاء ألمٍ ما، ولأن أهم الأدوات غير متوفرة بسبب انخفاض منسوب الأمل في الإرادة واستباق وقوع اللاجدوى، فلا يزال السطح يشهد حضورًا غفيرًا منشغلا، بنباهة تامة، بكل ما هو بعيد وسطحي وغير مهم، ويمكن استخدامه فقط لإشاعة الفوضى والتفرقة والعنف والتشدد، وإن عشت تمامًا في قلب الوضع العربي، فالنظرة، هي ذاتها، لم تغير ثيابها منذ زمن طويل، ووجهها المجعد والمكفهر هو ذاته؛ فهل حقًا قامت الثورات وما يسمى بالربيع العربي لتطهير الفكر الملوث ببكتيريا الخرافات؟

بالطبع، لا؛ لأننا عدنا إلى الوراء، ولم نحقق شيئًا يذكر، ولم نتقدم خطوة، وكل ما هو واضح وجلي الآن هو الخراب بابتسامته العريضة، مُزيَّنًا بالأفكار السوداء التي تقف تحت الضوء مباشرة بمنجلها الحاد، للتصدي لأي نبتة جديدة تريد أن تكون خضراء ونضرة ومتفردة بألوانها‭.‬

ولن أبالغ إن قلت إننا نعيش، نحن النساء، منذ الأزل حياة واحدة موزعة على الجميع بالمقاس نفسه واللون نفسه، والحرية ليست سوى مفردة تتناقلها الأفواه ويرسمها المراهقون بزخرفة متقنة على الدفاتر، ومواقع التواصل هي حاضرة نعم، لكنها مخدّرة، وتستخدم للزينة فقط‭.‬

وكل ما يُشاع عن أننا نمتلك طريقتَنا الخاصة في العيش هو دعاية كاذبة تُتداول بسذاجة، وحتى هذه اللحظة عندما أقف أمام عبارة سيمون دي بفوار »المرأة تولدُ إنسانا، ثم يجعلها المجتمعُ امرأة» ينتابني على الفور شعورُ ذلك السجين المتَّهم ظلمًا بالقتل، وهو يُساق مقيدًا إلى المشنقة‭.‬ لكن رغم هذا كله، فمحاولةُ التصدي والخروج من عقد المجتمعات، والفكر المُؤدلج من قبل المرأة، مستمرة في كل مكان وبطرق مختلفة، قد تكون عن طريق الفن بكل تنوعاته: التمثيل، الرقص، الموسيقا، الغناء، الرسم، الكتابة‭.‬ وقد تأتي الصرخة عالية ومدوية وصادمة مثل حركة «فيمن»، وكل هذا نتيجة ما تتعرض له المرأة من محاولات إقصاء، وتهميش، وقمع، وظلم، وتخصيص أدوار معينة لها في الحياة‭.‬

والمؤلم حقًا أن الثورات العربية أفرزت تياراتٍ متشددةً لا تؤمن بالاختلاف وحرية الرأي‭.‬ والمرأة في عالم هؤلاء مهدَّدة ومضطهدة، إن خرجت عن حدود ما يُرسم لها‭.‬ أن نختار للآخرين شكلا جاهزا للحياة هو عمل لا إنساني، لذلك لا أستطيع إلا أن أكون ضد المد الديني بكل أشكاله المخيفة الحالية، وضدَّ أيِّ فكرٍ يتولّى قيادةَ حياةِ الناس بالكرباج، ضدَّ أيِّ فكرٍ يحوِّلُ حياةَ الإنسان الى مادةٍ إعلانيةٍ لديانةٍ أو طائفة‭.‬

وأيضًا هنالك جانبٌ آخر يمسُّ المرأة المبدعة، وأود أن أقول إن العمل الإبداعي نتاج فكر إنساني حمله عقلٌ مشبع بالضوء، وروح تعرف كيف تلمس اللامرئي‭.‬ التصنيفات تجرح فكرة التحرر، فعندما نقول »أدب نسوي» أشعر بأن خللاً ما قد حدث‭.‬ إن هموم الكاتبة هي هموم غير منفصلة عن هموم الكاتب؛ لأنها تنطلق من منطقة واحدة يجلس فيها الإنسان منذ بدء الخليقة، ولا يمكن النظر أيضًا إلى الجميع بشكل متساوٍ، كحزمة منسقة، هناك اختلاف في الرؤية الفكرية والجمالية والفلسفية، وهناك الجيد والرديء‭.‬ الكاتب والكاتبة شريكان في فضح العالم السري، وكل منهما شاهد على انهيار السد الفاصل بين الداخل والخارج، إنهما ينطلقان من نقطة واحدة، ولكل منهما طريقته الخاصة في صناعة المشهد.

شاعرة‭ ‬من‭ ‬عمان

حالة‭ ‬تستر

إيمان‭ ‬زيّاد

دعونا نسميه أدباً نسائياً وليس نسوياً، اذ تستخدم كلمة نسوي بالعلم الذي يحقق في تنمية النساء، وليس ما تفعله النساء‭.‬ أدب المرأة لا يزال يعاني من القمع والتقزيم رغم الانفتاح الحاصل على كل المستويات، إذ لم يطرأ ذلك التطور على تقبل ما تكتبه المرأة، ولا يؤخذ في الحسبان‭.‬ على العكس، تماماً، فإن النساء الأديبات لا تزال تناضل من أجل الإعلان عن نصوصها، والمشاركة بها في محافل الأدب، ونسبة مشاركتها لا تعكس، أبداً، حجم تحققها الأدبي، بل تعكس طبيعة نظرة المجتمع إلى ما تكتب‭.‬ ويقع على كاهل المرأة الأديبة، أيضاً، مهمة حفظ نصوصها (عفيفة) خالية من أي لفظ، قد يفسر على أنه بوح خاص، يمس بتابوهات المجتمع‭.‬ عملية القمع التي تمارس على النساء هي ذاتها تتلبس نصوصها خوفا من أن تساق إليها الاتهامات‭.‬

الأدب النسائي أو ما تكتبه المرأة لا يشكل 5 بالمائة من المشاركات العامة في الثقافة العربية، وتبقى النصوص أسيرة ملفات الحفظ على شاشة الكمبيوتر‭.‬

تأثر أدب المرأة، مثله مثل كل أدب آخر، بالتطورات الحاصلة في المجتمعات من انتفاضات وتحولات عاصفة، فالمرأة، بداهة، جزء طبيعي من النسيج الاجتماعي، وقعت عليها مسؤوليات جديدة، وتغيرت الأولويات في كتابتها‭.‬ المرأة اليوم تتحدث أكثر عن الفقد، والرحيل، واللجوء، والغربة والأحلام الضائعة‭.‬ وهي تشعر أن حرفها، وهو الملجأ الوحيد للتعبير، تغير، لكن من دون أن ينفذ إلى الآخرين، رغم انتشاره، ولو جزئياً، عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي‭.‬

***

كان من الطبيعي أن تنحاز المرأة الكاتبة إلى أحد طرفي الصراع الاجتماعي والسياسي الذي شهده العالم العربي في السنوات الأخيرة، وأن تتعلق بالشعارات والطروحات التي حملتها الانتفاضات، أو أن ترفضها‭.‬ على أن صعود خطابات الإسلام السياسي أضاف عبئا على كل ما تعانيه المرأة من أعباء أخرى‭.‬ ومن المؤكد أن هذا سوف يؤثر سلباً على بوحها‭.‬

الهموم الفكرية/الاجتماعية الأساسية ما زالت قائمة، ولم تتحرر المرأة منها، وبالعكس ربما حدثت انتكاسات للقليل الذي حققته النساء‭.‬ لذلك سيضاف عليه هم المحافظة على القليل المتحقق‭.‬ والمرأة لا زالت في حالة تستر في نصها، وليست وحدها الأصولية ما يجبرها على ذلك، المجتمع حتى المنفتح منه، يجرها إلى هذا الحيز، وهي في حاجة إلى صبر وقوة‭.‬

أما توظيف الجسد في نصوصها فهو لابد أن يليق بإنسانيتها الشاسعة، وليس لكونها أنثى تكتب‭.‬

***

الأنوثة مجال واسع للكتابة، يراها كل كاتب من زاوية مختلفة، والمرأة حين تكتب هي أقرب إلى التعبير عن مكنونات الأنثى، لكنها ترجو من المجتمع تفسير نصوصها، من دون اتهامات تكال لها، لمجرد أنها امرأة تكتب، بينما لو كتب هذه النصوص رجل فإنها لن تلقى أقل من التصفيق‭.‬

المرأة تحتاج إلى تمكينها من تفعيل دورها، ومساندتها، وفتح السبل لها لتقديم أدبها، وقد أثبتت النساء في العالم قدرتهن على كتابة أرقى النصوص وأبدعها.

تخطيط: ساي سرحان

كاتبة‭ ‬من‭ ‬فلسطين

هدم‭ ‬كهوف‭ ‬التخلف

إستبرق‭ ‬أحمد

لم تختف المقولات النسوية لكنها فترت، وأحيانا استبدلت، لم تعد المسألة الحقوقية أمراً مطروحاً بإلحاح كالسابق، أو بالشكل ذاته، على اعتبار أن المنجزات القائمة كافية، لكن الواقع يقول إنه، رغم كل ما تحقق، ظهر نكوص لا يستهان به، التهاون والتعاون مع فكر ما وضعنا لاحقا أمام غول «الإسلام السياسي»، علما أن الكتابة لن تحرك أي شيء، إن لم تجد صداها في مشاريع البلاد، وتلقي الناس لها، سواء بدعم حكومي، أو بجهود فردية ثريّة، صادقة، لا تبحث عن وجاهة‭.‬ كما أن الكتابة، أيضاً، تحفظ التاريخ خاصة المسكوت عنه، من ذلك أستذكر واقعة «حرق العباءة» في الكويت إعلانا لـ»حالة تمرد»، «رفض»، من قبل جيل الخمسينات في القرن الماضي، وذلك مع العصيان الذي أعلنته فتيات ثانوية الشويخ اللاتي كن من عائلات القمة، أدى تطور فكرهن ووعيهن إلى ارتكاب «الحرق» «التصدي»، لزي هو موروث يخشى المجتمع المساس به، ومع ذلك تحدّين المجتمع، الذي كان أيضا قد تغذى على التعليم والإطلاع، لكن مَن مِن الجيل الحالي يدرك أهمية ذلك الفعل ومكتسباته اللاحقة؟

ما نراه حاليا أن الطمر المستمر لتاريخ مسكوت عنه، يجعلنا لا ندرك الحادثة ولا مبرراتها ولا حتى حدوثها، وإن تصدت، أيضاً، القلّة لتناول "المخفي في المجتمع"، كمثقفات وكاتبات أبرزهن «ليلى العثمان»، لكننا نحتاج لكتابات لا تتوقف عن استخراج ما يحيط بـ»الانسان» وما حوله من حلقات تُشكله، عن مجتمع بطرفيه، الرجل والمرأة، فرغم ما تحقق لكليهما، أحدثه منذ سنوات قليلة، متمثلا «بالحق السياسي للمرأة»، يجب الإيغال أكثر في الكتابة الكاشفة، في عمق النص، وليس في شكله الإبداعي فحسب، وكذلك في الكتابة الفكرية وغيرها من أنواع التعبير، وهذا يجعلنا أكثر فهماً لما كنا عليه، وما صرنا إليه، خاصة أننا في عالم «متعولم» بالإتصال والتكنولوجيا، نُمس جميعا بالتغييرات، بالثورات‭.‬

ولا مجال للنظر إلى الآخر «بتعال» أو من وراء أفكار بالية وأحادية النظرة يمارسها العربي تجاه غيره، حتى مع العربي الآخر‭.‬ فتأمل المشهد المتحرك في فوضاه وتلاحق أحداثه، وصولا إلى نتائج رسَّخت سلطة «الإسلام السياسي» لابد أن يعتبر أحد أهم أسبابه هو تهميش دور المثقف من قبل السلطة، والعمل على «عزله»‭..‬

لذا فإن أغلب ما تمت كتابته، سواء من كاتبة أو كاتب، حتى الآن، لا يستبصر المستقبل أو يحلله، بقدر ماهو يقف متفرجا يرصد ما حدث، موثقا ما وصلنا إليه دون تفكيكه في العمق، وإن ظهرت جرأة أكبر في تناول الشأن السياسي‭.‬

كما لا يخلو الأمر من نموذج ظاهر من الكاتبات إحداهن «نوال السعداوي» التي كانت ومازالت إحدى أبرز الشخصيات التي حاولت طرح أفكارها من دون مهادنة، رغم اختلافي مع بعض ما تعتنق، لكنها تواصل نقدها للمجتمع، للإنسان، للعالم، هي التي رأت، مثلا، أن «جورج بوش الإبن وأسامة بن لادن» توأمان ساهما معاً في تصاعد التيارات المتطرفة»، ففي جلّ كتاباتها تضع يدها على المفارقات، وعلى القبضات التي تنهال على المرأة والرجل عند محاولة التملص من السلطة أيّا كانت، «السعداوي» التي ترى أن «التعليم لدينا مبني على اليقين لا الشك»، وأن الثورة تحتاج إلى ثورات بلا نهاية، ليتحقق الوعي الاجتماعي والثقافي، تجبرنا في تحليلاتها على موافقها‭.‬

إن «الوعي الخلاق» هو ما نحتاجه، فعلا، ودائما في نصوص تبحث عن منطقتها ومنطقها، في عالم مشغول بتناقضاته، مابين تطرف التعري، كما هو في حركة «فيمين»، والتي تراها حتى بعض النسويات الغربيات بأنها تسلّع جسد المرأة، حين تحصر القضايا بمقاييس ذكورية تتصل بكيان المرأة الجسدي فقط، أو الكتابات الإباحية التي تقدم الجسد في شكله الإغوائي، أو الخيالات الذكورية التي انفجرت في الروايات العربية أكثر فأكثر، وبابتذال لا يسعى إلى طرح قضية أو فكرة، بل سعيا لترويج أدب باهت، ورفع معدلات البيع، وما بين تطرف أفكار تمسخ وجود المرأة عبر تغطيتها التامة، كما نرى ذلك في أقصى تطرفه متمثلا في «البوركا» غطاء المرأة الأفغانية، والتي لم تمنع أفغانستان من اعتلاء قائمة أعلى الدول في التحرش الجنسي‭.‬

المطلوب كتابات يمكنها أن تزرع الألغام والأسئلة دون أن تنزلق في التكرار أو التطرف، كتابات تتساءل، تؤسس لعلاقات إنسانية ومجتمعية جديدة، ترفض ذكورية الأفكار، تهدم الكثير من كهوف التخلف وتصر على مساءلة السلطات ايا كانت.

قاصة‭ ‬من‭ ‬الكويت

اكتبن‭ ‬نصوصكن‭ ‬بالخناجر

لينا‭ ‬هويان‭ ‬الحسن

أدب المرأة لم يبتعد كثيراً عن مقولات الأدب النسوي المعروف، فغالب النتاجات الأدبية المكتوبة بقلم الكاتبات تكون البطلة هي التي تريد للمجتمع أن ينظر إليها بوصفها الإنسانة كاملة العقل، على اعتبار أن المجتمع العربي يصف النساء «بناقصات عقل ودين»، لعل العلامة الفارقة أن ثمة اجماعاً كبيراً ومصرا من قبل أدب المرأة بأن تكون البطلة كائناً كامل الحقوق لم يعد بالامكان انتهاك خصوصيته أو تطويعه أو تحقيرة‭.‬

***

العواصف تعري الأشياء، تماما كما تفعل العاصفة مع البحر أو الجبل أو الغابة أو الصحراء، النتيجة واحدة: امتحان صعب وحقيقي، وحالما تنقشع عاصفة الثورات والتخبطات التي تسود عدة دول عربية، سنكتشف حقيقة التحولات التي طالت أدب المرأة‭.‬ فقط تمكن الإشارة إلى أن ثمة نصوصا حماسية مستجلة شعاراتية تنتصر لصالح طرف محدد، وتعتقد أنها تنادي بالحرية، وهذا وهم، النص الذي يُكتب لخاطر جهة معينة وبالتالي يخضع لتصنيفات بعينها فهو نص مؤدلج وهش‭.‬

***

بشكل عاطفي، ارتجالي، ومتسرع، الكاتب أو الكاتبة الذي يحمل لافتة كتبها آخرون، هو مُصنّع وآني، مؤقت وابن مرحلة، والأديب الحقيقي لا يرضى لنفسه هذا التصنيف‭.‬

***

انظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، كم من صفحات الإعجاب مكرسة لزمن الستينات والسبعينات؟! معركة المرأة لم تختلف كثيرا عن ذلك اليوم الذي نُشرت فيه صورة زوجة سعد زغلول سافرة الوجه وحاسرة الرأس على غلاف مجلة اللطائف المصرية‭.‬ كعلامة أولى على نهضة المرأة العربية، فمازال حبر النساء يسيل ليواجه العباءات السود‭.‬

***

عموما، حركة النقد العربية خاضعة للمؤسسات، النقد العربي لم يكن يوما حرّاً بشكل حقيقي، حتى يلعب دورا فاعلا بعيدا عن التلفيق‭.‬

إدانة المجتمع الذكوري الذي اعتاد تأثيم حريات المرأة، وكل قوانينه مكرسة لخدمة أهواء الرجل، لهذا يمكن اعتبار أن «الجسد» وحرياته، أهم ما تشتغل عليه المرأة اليوم‭.‬

غالب الكتابات، تأتي في ظل حقيقة أن السيطرة على المرأة جسدا وروحاً، حجر الزاوية في النظام الذكوري‭.‬ كل الكتابات تصب في سيل جارف يحاول جاداً نسف ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لاتعرف الشك ولا تُقر بإمكانية الحوار وإعادة النظر‭.‬

***

الشراكات القسرية لا تُعتبر شراكات شرعية، لهذا لابد من إعلاء شأن الحريات المدنية التي تحترم كلا الجنسين، دون تفضيل جنس على آخر لدواعي البنى الاجتماعية التقليدية، التي غدت عائقا حقيقيا أمام تطور مجتمعاتنا وحضورنا الوجودي والحضاري في العالم‭.‬ وهذا لن يحدث بسهولة، وعلى النساء أن يكتبن نصوصهن بخناجر لا ترحم وأن يواصلن الهجوم المضاد حتى لاتعود المرأة إلى زمن الحرملك.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬سوريا

المجتمع‭ ‬يتلصص على‭ ‬الكاتبات

إيمان‭ ‬سند

الأدب النسوي‭.‬ الحقيقة أن هذا المصطلح بات مشبوهأ يتبرأ منه الكتاب والكاتبات، فترى الكاتبة العربية أنه مصطلح ضيق بات ﻻ يناسبها، فهي تحس بالاختناق داخله، لكونه يحدُّ من إمكانياتها في الكتابة، ويفرض عليها قيوداً، باعتبارها أقل نضجا من الكتاب‭.‬ بينما يرى الكتاب أن المصطلح يعطى للكاتبات مايشبه الكوتة من الكتابة، فيسمح لهن بالمشاركة بقواعد أقل صرامه، باعتبارهن مبتدئات، فيتم تشجيعهن على أعمال أقل جودة بكثير من أعمال الكتاب‭.‬ على أنه برغم التحرر الشكلي الذي تنعم به الكاتبات العربيات، إﻻ أن المشكلات التي مازلن يواجهنها مع ثقافة المجتمع، مازالت على حالها، تقريباً:

من أولى هذه المشكلات ثقافة النميمة، فالمجتمع، ككل، يتلصص على الكاتبات وكتابتهن، ومازال لم يعترف بهن ككائنات ناضجة مستقلة لها شخصياتها‭.‬ بل هن تابع خفيف الوزن والعمق والتجربة، فإن أجادت كاتبة فهناك رجل قد ساعدها، وربما كتب لها، وإن باحت فيلصقون بها فكرة أن كتابتها تصدر عن تجربة شخصية، ويتفننون في التنبؤ بالأبطال الحقيقيين للتجربة الإبداعية من واقع الحياة المعاشة‭.‬

****

المرأة الكاتبة أقل رصدا لوقائع الربيع العربي وأقل مشاركة في الكتابة في ثورات الربيع العربي، فهي اختارت، للمرة الاولى، ربما، في التاريخ، أن تشارك في الأحداث الفعلية، وﻻ تشارك في الكتابة عنها‭.‬ لعلها أحست بحريتها، للمرة الأولى، وبأن لها أدواراً أمامية للمشاركة، اختارتها وقنعت بها، وجاءت مشاركتها في التنظير والرصد متواضعة للغاية‭.‬ والواقع أن خوف المرأة على مكتسباتها القليلة في المجتمعات العربية كان وراء خروجها ضد الحركات الدينية على اختلاف أشكالها، وأقول، هنا، المرأة وليست الكاتبة فقط.

كاتبة من مصر

قشرة‭ ‬الحداثة

هدى‭ ‬الدغّاري

يعتقد الكثيرون أن الكتابة فعل رجولي بامتياز، وأنّ أيّ عمل إبداعي تمارسه المرأة ليس إلا اختراقاً لمواقع تُعتبر حكراً على الرجال، فتصبح الكتابة بهذا المنحى سلطة بيد الرجل، وممارسة المرأة لهذه السلطة هي شكل من الاستيلاء على مواقع نفوذ ذكورية‭.‬ وهنا يُطرح سؤال حارق ومفصليّ: هل الأنوثة تُخفّض من سقف الابداع في الكتابة؟ لنقل إن هذا السؤال يستمد وهم شرعيته من ذلك الادّعاء بذكورية الكتابة عبر التاريخ، وهشاشة الوعي بعمقها الذي لا يرتبط بجنس قائلها‭.‬

لنقل إنّ الكتابة لا تتأثر بجنس مبدعها، بل تفترض من الكاتب الذكر أن يستبطن خصائص الأنوثة وهو يمارس فعل الابداع؛ وعلى الكاتبة أيضا أن تخلق داخلها ذكورة، لا بالمعنى البيولوجي، وإنما ببعدها الفني والجمالي، حتي نتيقن أن الكتابة تتطلب جنسا ثالثا تتسع أمامه الادراكات، كما عبّر أراغون عن ذلك بقوله «الانوثة مستقبل الذكورة» أو «المرأة مستقبل الرجل»‭.‬

بهذا الشكل يمكن أن نقطع مع النظرة الدونية للابداع النسائي، بما تتضمّنه هذه التسمية أيضا من تمييز سلبي لانتاجات المرأة، نحو أفق يهتم أكثر بتوهج الإبداع، بقطع النظر عن جنس قائله‭.‬ لكنْ، لنقلْ إنّ ما يتعرض له العالم العربي من تقلبات جيوسياسية في سياق ما يسمّى بـــ «الربيع العربي»، وقد أفرز صعود الاسلام السياسي إلى السلطة، وبقطع النظر عن التوجهات السياسية وموازين القوى العالمية التي حكمت هذا الصعود، وهو ليس موضوع حديثنا الآن، يمكن القول إن من نتائج هذا الصعود تأثيره في التعاطي مع مسألة المرأة، ما جعلها متوجسة حذرة لسببين أراهما هامين كشفت عنهما صدمة الربيع الاصطناعي:

أولا- إن العقل العربي المدّعي للحداثة، والمستفيد من منجزات التحضر، ليست حداثته في حقيقة الأمر سوى قشور سرعان ما ارتبكت أمام هذا التغيير المفاجئ‭.‬ فكشف العقل عن بداوته وعمقه القبلي الذي يستبطن موقفاً رجعياً، من المرأة بشكل عام، والمرأة المبدعة بشكل خاص، لكونها تمثل تهديدا حقيقيا لمشروعه الظلامي‭.‬

ثانياً- المفاجئ أيضا في هذه التحولات التي بدأت رومنسية حالمة، بأفق تحرري أكبر وبتعاطٍ عميق مع حقوق الانسان، تحوّلها إلى غول تنطّع لكل الخطوات المتقدمة التي حققتها الشعوب في الماضي لمواجهتها بمزيد من الارتكان إلى نمط مجتمعي يحملنا إلى ما قبل الحداثة‭.‬ فوجدت المرأة نفسها، باعتبارها الحلقة الأضعف في المجتمع، مهددة في مكتسباتها‭.‬ وأصبحت حريتها في الميزان‭.‬ هذا الخطر يمكن أن يؤثر على سقف الإبداع ومدى القدرة على كسر المعتاد، والخلق من دون قيود أخلاقوية‭.‬

نحن ندرك جميعا ما تعرض له المبدعون من تضييق وتعسف زمن حكم الاسلام السياسي‭.‬

لأقلْ بشكل عام، إن العالم العربي لم يتعرض فقط إلى هبة ربيع مفاجئة وإنما الى هجمة فصول، دفعة واحدة، جعلته يترنح بين قساوة الشتاء ورياحه العاتية، وبين جفاف الصيف وهشاشة خريفه‭.‬ هذا الوضع جعله في مفترق طرق وأمام لحظة تماس بين المتناقضات تترقب إعادة تشكيلها من جديد‭.‬

على المرأة المبدعة أن تدرك كمَّ التحدي أمام هذا العتو؛ فإما أن تتشبث بحريتها وتفردها لتقدّم ابداعاً حراً، أو أن تنهزم وتنغلق لتبدأ الهزيمة الشاملة في المجتمع‭.‬ أظن أن هذا هو التحدي الذي على المرأة أن تكسبه وتكسب من ورائه صمود المجتمعات أمام رياح الرجعية العاتية، باعتبارها مقياسا لتقدم المجتمعات أو تأخرها، من دون السقوط في التطرف من الجهتين فكلتاهما تُشيئان المرأة‭.‬

***

إن التعاطي مع جسد الأنثى يُخفي موقفا ورؤيا كاملة حول إنسانية المرأة أو تشييئها، كما يخفي أيضا ردة فعل، والفرق بين كل ذلك يحسمه مدى قرب المواقف من التطرف بجانبيه‭.‬ لنقل إن المبالغة في تغطية المرأة هو شكل من أشكال التطرف الذي يشيّئ المرأة، كذلك المبالغة في التعري واعتباره موقفا ضد التطرف ليس إلا شكلا آخر من التطرف يجعل من المرأة بضاعة للعرض‭.‬ وكلاهما يركزان على الجسد وهذا أيضا نوع من السلعنة‭.‬

والمطلوب هو تجاوز هذا التصور من أجل تعامل تُحترم فيه إنسانية الإنسان، بقطع النظر عن كونه ذكراً أو أنثى‭.‬ المطلوب التصالح مع الجسد‭.‬ ولعل المبدعين في شتى الفنون قادرون على تحقيق هذه المصالحة في إبداعاتهم‭.‬

شاعرة‭ ‬من‭ ‬تونس

شيء‭ ‬من‭ ‬الشك

آمنة‭ ‬الرميلي

كتابة المرأة، المرأة والكتابة، النصّ المؤنّث‭..‬ متى ننتهي من طرح السؤال؟ متى نحسم في هذه الإشكالية مثلما حسمت في فضاءات ثقافية أخرى؟

يبدو أنّ القضيّة لا تزال معلّقة في المشهد الثقافي العربي، لا يزال النقد يخوض فيها ويصنّف فعل الكتابة تصنيفا جنسيّا إلى "كتابة نسائيّة" و"كتابة رجاليّة"‭.‬ وللمشهد الثقافي العربي دوافعه وأسبابه، منها الاجتماعي التاريخي، كون وضعية المرأة العربية، بمن فيها المثقفة المبدعة، هي في وضعية تخلّف واستبعاد واستعباد ودونية في غالبية البلدان العربية‭.‬ ومنها الذّهني الإيديولوجي، بما أنّ وضعية المرأة العربية لا تزال محكومة بمنظومة فقهية صارمة وساكنة، تهيمن عليها الأعراف والفتاوى الدينية المحافظة‭.‬ ومنها الأدبي النقدي، بما أنّ انتشار الكتابة النّسائية العربية قد تأخّر عقودا عن تجربة الرّجل، تماما مثلما حصل في باقي الآداب العالمية في مختلف الحضارات ذات البنية الذّكورية، قبل أن تشذّبها حركة التطوّر المدني والمواطني‭.‬

وقد كانت العقود الأخيرة، خاصة المرحلة التي ازدهرت فيها الكتابة النسائية العربية قد انتشرت فيها الروايات، والدواوين، والمجاميع القصصية، والأبحاث النقدية المختصّة‭.‬ وافتكّت المبدعة العربية مكانها ومكانتها داخل الفضاءات الثقافية، إبداعاً، وبحثاً، ونقدا، وأصبحت سلطة نقديّة في الجامعات والمؤسّسات الأدبية تقوّم النصوص التي يكتبها الرّجال أو النساء، نسوق على سبيل المثال زهرة الجلاصي وسلوى السعداوي (من تونس)، وزهور كرام (من المغرب)، ورزان إبراهيم (من الأردن)، وغيرهنّ كثيرات في مختلف أنحاء الوطن العربي ‭.‬

ورغم هذا فلا نزال نطرح السؤال تلو السؤال عن "إسهام" المرأة المبدعة، و"نصيبها" و"مشاركتها" و"مدى حضورها"، ولا نزال نتعامل مع نصّها بشيء من الشكّ والتشكيك، فنظلمها، وبكثير من "العطف" و"التّعاطف"، فنظلم الأدب.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬تونس

شارك في إنجاز هذا الملف

زكي الصدير، محمد النبهان، روز جبران، عبدالسلام الدايمي، محمد ناصر المولهي، وداد جرجس سلوم، عمار المأمون، عبد الحاج

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.