دمُ الخشب النَّهريّ

الأحد 2018/04/01
تخطيط: حسين جمعان

الرّخويّاتُ في الخلفيّة

رأيتُ الرّجلَ أخرسَ مُرتجفاً يَتلو قصيدة

لجمهورٍ في كرْبٍ عظيم،

التنّين يخرُجُ من فمِهِ في جَزرٍ ومدّ

والجمهورُ يقتربُ يبتعدُ تحت صَهدِ الكلمات،

تقوَّسَ الأفقُ واحتَدّ

وارتجَفَ كلُّ جَنانٍ مثلَ هِرٍّ جبليّ

عبرَ التنّينُ فوقُ رؤوسِ النّبات

مُتعطّشاً لمملكتِهِ الفريدة

مُزدرياً إيّاها كونَهُ عارٍ دونها

قالَ لكلِّ نبتةٍ تكلَّمِي لأراها

تكلَّمِي يا درَنات الماء

تكلَّمي يا سلعوّةَ درب الأربعين

لكنْ انشَقّت الحملةُ عن أسطوانةٍ إداريّة؛

من كان لديه جثّة ليَنطِقها الآن أو يسجّلها في الكمبيالات،

قال طبيب إسماعيل باشا وهو يُجري معادلةً حسابيّةً في رأسِهِ: جَمعتُ ستمائةَ أوقيةً من الغضَاريف،

آذان الشّايقيّة، يا مولاي، ليست سيئة، لكنّها تتعفّن بسرعة.

الرّخويّات في الخلفيّة

بطيئةٌ بطيئةٌ مثل اللّغة

وفي آثارِهَا على الرّملِ تهدِرُ البريّةُ بالترجمة،

ما هذا العالم؟

البطنُ المبقورُ الحافلُ بالطّرائدُ هذا العالم

القمَرُ مُرقّطاً يَسبحُ على ظهرِهِ في البازَلت العالم

يَضربُ بفخذيهِ مُستكشِفاً فلزاتِ التّوصيلِ الجيّد

مُنقّباً غيهبَ روحِهِ عن القصدير

العالم كلُّ مَن لا يَذكرُ دودةَ قزِّهِ مَسجونةً في خُصيةِ الإسكندر الأكبر

إنّه لا يتذكّر الله

ناهيك عنا عمّال الدّرَت،

طارَ ريشُ النّعام طارَ الذي رفَسَ الطّيَران طارَ المنزُوعُ الفوّاحُ المحشورُ في أكياسٍ قطنيّةٍ

إلى مُصَوّع

ثمّة خريطةٌ توضيحيّةٌ يتبادلها جنديّان مثل نارجيلةٍ مملّة

حولَ كيفَ يُمكنُ لثَورين فقط رفعَ قلبي بكلّابة

اتّبعوا الإرشادات يا جماعة

باقي العمليّة إنزال عادي

على فئرانِ قَعر السّفينة.

الصّافرة برَقت في خفاءِ البحر

الحُلفاءُ الحُلفاءُ الحُلفاءُ في رَحمٍ مُبقّعٍ وغريب

بدأت تجارةٌ صغيرةٌ قوَامُها الفورمالين

العالمُ رائحةُ فورمالين مُهرَّب

ضاعَت جثّةُ البحرِ في أمواجِ جُثث العبيد

أجهضَتنا السّفينة

الإمكانُ احترَق

وتوقَفت اللّغةُ، التي لم نعرفها أبداً، عن الوجود.

مسألة الصدع

أجلسُ على عتبة،

تفصِلني عن الصّقرِ حرّيتُهُ ـ كما تخيّلتُها ـ وطحلبٌ مَسهُوك.

تكلَّم الصّقرُ مع نفسِه: السّماءُ غامضة.

كان الصّمتُ الذي يَعنيهِ ذلك أقسى من الغموض.

قال صَمتُ الأشياءِ لا يخيفني

بل:

أ.

الأشياء الصّامتة تَصمُت كلٌّ على حِدَة،

ب.

كلُّ شيءٍ مُتوحّدٌ يَطلُبُ كمالَه، فهو وحدَه لدَيه، وأنا غيرُ مُهتمٍّ بل تأكلني الغبطةُ لأنني أرعف بطريقة صفويّة.

جـ.

كلُّ هذا الصّمتِ ليس واحداً مُستوياً متعادلاً، كما لا يمكن جمعه.

كان الصّدعُ داخلي أقوى منّي وأقدَم،

كان نشطاً مثل دجاجةٍ جائعة،

أو جناحِ صقرٍ لا يَنِي يَموتُ من شِدّتِه.

الطّيرانُ يقتل.

والصّقرُ يَحملُ الصّخرةَ التي حملتَهُ ويَرميني بها؛

أنا الصّدعُ حيثُ تئنّ أنا الابتلاع،

القاسمُ المشترَكُ لعالم الغيبوبات،

أنا أحبّ الصّيرورةَ مكتوبةً بالفحمِ على حيطة ناس أبوبكر محمد بن يحيى الرّازي،

أنا التفكير في الحياة،

لكنّ النسخةَ التي وَزّعُوها لنا سقطت في المنتزهة في فيضان 1988 مع الضّفادع والإغاثة،

وتعفّنَ كلُّ شيءٍ بسبب الشّعيريّة لأنّ حبرَ الكراتين ذابَ أولاً.

صرَخَت جارَتنا سعاد المهدي: السّيل السّيل،

تذكّرتُ مريم الشُّجاعة بكعب الشّيطان في ساقي اليمنى،

وهجَمَ النمر بالقشعريرة في ظهري،

واللشمانيا بفخذَيّ الاثنين،

كيف سأركض بأرجلي القصيرة؟

ثم اندثرَت المدرسة لأنّ وجه بوب مارلي المرسوم في الحائط ظلّ غاضباً،

فكّرت ـ عدوّيَ الرّعدُ يُفكّر بثقة أكبر لكنّني فكرت ـ كلّ خروجٍ غيرُ مُبتلّ، مجرّد نزهة،

لأنّ الصّحراءَ جافّةٌ والضّفادعُ تَنامُ مثلَ البذورِ والحيتانِ في القاع.

ثم تذكّرتُ غربَتي وأمِنتُ لأنّني غريبةٌ رغم السّيل،

رأيتُ أنّ الإيمان هو أيضاً غُربة،

مثل الإنسان كلّه،

مثل الهجرةِ والتِحَامِ السُّفنِ القديمةِ في العدم،

لأنّ القاربَ مَحمولٌ بقوّةِ الصّمتِ الذي هو الماء،

لأنّه غريبٌ بسببِ الماء،

لأنّ الماءَ نفسَهُ غريبٌ بسببِ الماء،

آلـمَني التّلامُسُ بين الأسطحِ العنيدة،

ودمْعَتي جاءت لتُلامسَ الغربةَ بين الماءِ الكثيرِ والماءِ الكثير،

ودمْعَتي جعَلتنِي جُزءاً مَعطوباً من الغُربة،

وكنتُ قبلَها في حجابِ قلبي فكشفَتْني للإنسانِ الذي أخفيتُهُ في الخُرج،

كيفَ أمشي وخُرْجي يأويني وخُرْجي في يدي؟

تعلَمتُ السّيرَ من الزّواحفِ البَكماء؛

كنتُ أُلصِقُ قلبيَ بالأرضِ أراقبُ شهوتَها الواقعيّة؛

الدّودُ لا يَطلبُ الطيَران، فقط أرجُلاً كافية،

والنّملُ يطلبُ فجورَ العناكبِ ترقصُ في خيوطها،

ولأنّني الصّدعُ طلبتُ ما هو أقلّ؛

أن أكُون،

أنْ يتوقّفَ قلبي عن الإحصاء،

لكنّ الذي يَحدُث لا يَحدُث لي،

وإنْ حدَثَ صِرْتُ الحادثَ وفقدتُ جوهري

ولأنّني الصّدعُ فأنا مريضةُ غيُوبي،

والمريضُ لا حصرَ له لأنّه جديدٌ دائمٌ في احتضاره،

لكنّني أطِير،

ها نزعتُ في تجدُّديَ التشابكَ بين الطيرانِ والأجنحةِ والسّماء،

ما فائدة الغموض؟، السّماءُ مستمرّة،

والطيران همسٌ يَدور بين أحشائيَ القرويّةِ وبذرةِ تّينِها العالقة؛

نمَتُ شجرةٌ ظليلةٌ وتساقَطَ الثّمرُ في رمالِ جوفي المتحرّك،

ها دخَلَ القرآنُ كلُّه هناك،

دخلَت آسيا الصّغرى،

دخلت علومُ الفسائلِ والعقلِ والتّرقيد.

اقسِمْ معَايْ يا طير،

اقسِمْ معَايْ جلوسي،

قِسْ معي مجازَ الإقليم،

لأنّ الصّدعَ لا يَشِي ولا يَحُول

وليسَ على سطحِهِ شيءٌ سوى زهرةٍ حفَّ الخجَل،

تتربَّص

والخجلُ لا يَرِيم.

دلفتُ من بابِ أعضائي؛

وجدتُ رُكبتيَّ في كنفِ الأديمِ مُنهارَتين.

دلفتُ من بابِ سَليمي

الذي لا يؤدّي،

لأنّ الدّاخلَ يَلزَمُ دُخولُهُ ويَصيرُ في جِدّةٍ تُنسِيهِ الأثَر.

اقسِمْ معَايْ يا طير

فبابي مُتفتّحٌ بابي رياح،

وعندما يهبُّ عليَّ أصيرُ في جِدّتِه،

وعندما يهبُّ بابي فتلك ديمومةٌ هي حالُهُ وإمكانُهُ،

لأنّ الدّاخلَ يَلزَمُ دُخولُهُ

ويَصيرُ في جِدّةٍ تُنسِيهِ الباب.

هذا شأنيَ ما دامَت العتَبة.

القافلة

يَتنزّل الغيب

الحاضرُ في البوّابة

الأمسُ مُحتلّ

تـتحدّرُ لحظةٌ وتنتحرُ اللّحظة

ولاداتُ الزّمنِ العاديّةِ الموجِعَة

فقهُ الدّوران

تجارةُ الهضبة والنّهر والبخار.

يَقفِز لأنّه مُدرَّبٌ وجميل

المعطياتُ شحيحة؛

يَبدأ خطّ الأفقِ بفوّهة

يَنتهي ببركان

يجبُ قولُ كلِّ شيءٍ في التوّ.

تتنكّبُ الرّئةُ هذه الرّحلةَ السّائدة

يَطلبُ القلبُ أمانةً هالَها مطلوبُها

يَتهيّأ السّاعدُ والذّهن

يَكشفُ آخيل كعبَه بعدَ أنْ يختبرَ الرّمح

يَقفزُ القاتلُ عارياً من القتل

يَقفز لأنّه مُدرَّبٌ وجميلٌ

الرّمحُ مُستقِرٌّ ولامعٌ

البركانُ في الموعد؛ مُنتعِشْ ومُتفَهِّمْ

لكن لا يوجَدُ وقتٌ لنافورةِ الدّمِ الصّغيرةِ التي تُثرثرُ بين حصَاتين

لا يوجَدُ وقتٌ للاشتراكيّة.

ليس من رغبةٍ أشدّ من اللّغة

عندما أعزلُكَ نقطةً حرّةً من حركةِ المجاز الكلّيّ وأصرخُ يا عضلةَ الحيّةِ يا حبيبي يا رُسل الانعكاساتِ البلّوريّةِ داخلَ لحظة ِالكمون، داخلَ حِجَابِ الكمون، تَسري صرختي في سِلك التلغراف الدائريّ المغلَقِ بين طرَفيْ يأسٍ غير مكتشَف، مثلّ كلّ المكتشَفات. فما يَجمَعُنا ليس الكلمةُ بل اللامُتناهِي فيها. بل كلّ تَخَلٍّ استحالَ استحالةَ الوَصْل. إنّني أقولُ باسمِكَ الأقرب من الوَريد إنّني خاليةٌ بالتمامِ منك، وأنّ هذه السّلامةَ تَستوجبُ التّحطيم.

بورتريه الشّذرة

أستَرِقُ الوَجدَ

لئلّا أستحِثَّ المصائرَ الخفيّةَ المنحدِرَة،

اللّيلُ نافورةٌ من الخفاء.

التأَمَ حشدُ النّباتِ البربريّ

الغابةُ بذرةٌ واحدةٌ موّارة.

قمَرُ الاكتئابِ يَدورُ حولَ نفسه

يا للدّمعةِ المنيرةِ ذاتياً.

لا لزومَ للغُفران

الواعظُ يُحتضرُ في أحلامِ قطٍّ برّيّ.

كلّ ما نَعرفُهُ

فيه شيءٌ من ذلك الهرَبِ من عذابٍ لم نَجد القوّةَ لتركِهِ يصير.

النِّيلُ لغةٌ ناطقة.

أسيرُ في شوارعَ غارقة

الجليدُ يَختصرُ التاريخ والجغرافيا

أنا العالمُ الثّالث بحذائِهِ المبتَلِّ اليتيم.

عراءُ المجرّةِ يتوغّلُ في الجزيرة

قيعانُ البلطيقِ ترتفعُ عن سطح البحر

المحارُ التَهَمَ نجمةَ الصّباح.

صَليب محمود

مِن جناحٍ عليهِ يرَى الطّائرُ فريستَهُ وعَدوَّهُ ونفسَهُ وخلفَ المرآةِ الذّئبةِ ـ الجسمَ المنهمرَ في بروﭬـةٍ وقتل. إلهي إلهي لِـمَ تَركتَهُم والخشب؟، حسبي ليسَ مَوتاً شجريّاً بل عذاباً طليقاً يبحثُ مجنوناً وبُنّـيّاً عن كُمونِه. متى المدى؟ من فرْجِ الأخدودِ المطِلّ على ذاتِهِ يشربُ الوجهُ جسدَ الإدراكِ وغيبوبتُهُ قريرةٌ كعينِ المحلّية.

أهدِي لَيْ من فضلك. نُحولٌ عُضوٌ كفيف يُرَى بالعضلةِ السعيدة، وبدوَخانِ الفنِّ والجهلِ الرّوحيِّ العزيز. السّكة حديدٌ مُثبّتٌ بالفرائص، والصّوتُ فسفورٌ في دمِ الخشبِ النهريّ يجهشُ، وَطأتُهُ تضوع في عُروقٍ ودوَّاماتٍ وبراهينَ مُروّضةٍ تدحض. محمود يَدُوم ويتكهَّف، في طفولاتِهِ برَندات السّفرياتِ الدّاخليّة، تُسافرُ فيه البطانة كلّه.

كادر الخمرِ دَمِي: قريباً على مسرح سوفوكليس، الدّون محمود كيشوت وأفلاكُهُ الخجولةُ تحت السيستم. كربلاء جوفيّة تتبرعم في حلْقِ السُّلطةِ المحتقنِ وتنفجر في الجرّاري، اسْمُو خنجر الجَفير، شُفتُو وَدْ عيني ضَوّ الفاشر الكبير، ومن بين كلّ أصباغِ الصّورةِ لم أفهم إلا ضحكةَ الشّنطة السامسونايت المُحْرَجة مثل مندولين بدويّ يجأرُ من اللذّة.

في جَبروتِ الفرَاغِ وصُورتُكَ ويَدُكَ على الصّليب ولادة الخبل. غضَبُكَ، حتى يتسلَّقُ وجهَكَ طابعُ البريد، لا تحزَن يا حوت سنكشكش إطارَك الخارجيّ برسوماتِ الله والتهاباته.

الصّوتُ جنّةٌ يُجرجُرها الساكسفون في الشّوارع. تُنضِجُ الموسيقى حقلَ أرواحٍ مَحصوٍد ينزفُ قسوتَهُ علينا وعَشّتُنا معنا، تجوسُ في الفطامِ مع قشعريرةِ المزيد المزيد، يُنشَرُ الدّمُ باسمِهِ الأوّلاني، فجأةً يُساقُ القلبُ مثلَ لثغة، يُساقُ إلى فصيحِ اليِد مُصوّبةً إلى الطّبولِ والعينُ مأخوذةٌ لا تكفي وطيرانُ الأراملِ والمرضِعَاتِ إلى ملكوتِ القَدَم، إلى رقصةِ الكِرَن.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.