الشاعر حينما يرى الخيبة

الثلاثاء 2018/05/01
لوحة: جان حنا

أدرك نزار قباني لعبة المغامرة في الشعر، إذ هي الخروج عن البداهة والنمط، والسكنى عند حافة الإزاحات، تلك التي تنطوي على هاجس التجريب والتجديد، وعلى التلويح باللاحيادية، حيث يذهب الشاعر إلى السري، والمُحرّم، والصائت، وإلى طاقة الشعر في أنْ يكون بيتا “هيدغيريا” أو أنْ يفضح عن مراودات غير أليفة للفكرة والمعنى والجسد، وبقدر ما يبدو وضوح قصيدته قريبا مما هو حياتي ويومي واتصالي، فإنه كان أكثر انحيازا للتعريف بصوت “شاعر المدينة” حيث تقانة القاموس الشعري، وحيث طبيعة اللغة، وحيث الاستعارات الأكثر التصاقا بالحياة، وهو ما أعطى لقباني حضوره الاستثنائي وسط فضاء شعري عربي صارم، حيث تتبدّى البلاغة وكأنها جلباب الفقيه، وحيث يأخذ به شعراء التجريب إلى ما هو فائق، أو ما هو غامض، أو ما هو غارق في أساطير وميثولوجيات، والتي كثيرا ما تورط فيها شعراء حاولوا استعارتها للهروب عن الوضوح البارد أو مناكفة السلطة والأدلجة والتاريخ.

هواجس الشاعر الشعبي

قد يملك نزار قباني صورة الشاعر “الشعبي” بالمعنى الاستعمالي للشعر، إذ لا تجد قصيدته عسرا في استهلاكها، واستعمالها، لكنه بالمقابل كان يملك صورة خبيئة للشاعر (الشاطر) الذي يدرك خطورة اللغة والصناعة الشعرية، ورهاب وظيفتها عند عتبات لا حدود لها، حيث اشتباكات التابو، وحيث التوظيف “الرسمي” للشاعر المسكون بمراثي أمته، وأحزانها وحروبها الغرائبية، تلك التي تخدعه بـ”سرديات” كبرى عن الشعر والشعراء، مثل شعراء الأمة وشعراء الثورة وشعراء المقاومة، وشعراء الحروب، وهي توصيفات أو وظائف أسهمت في تعطيل وتعطيب فاعلية الشعر، وخصوصيته في أنْ يكون وعيا عميقا بالوجود، وبالأسباب المسؤولة عن إنتاج تلك الحروب والخيبات.

روح الشاعر الشعبي عند نزار قباني لم تُسقطه في العمومية، فبقدر ما تبدو قصيدته وكأنها تعبيرٌ عن “لحظة احتفاء” أو تصوير لسرائر هذا الاحتفاء، حيث مفردات الأنثى، الليل، الجسد، السواريه، الموسيقى، الرقص، والشعر الليلكي، فيتشات الجسد الإيروسي، وحيث تبدو تقانة الوصف في قصائده المبكرة أكثر صدقا في تمثيل عوالم المكان الدمشقي الساحر، وكأنه يلتذ باستعادة الوظيفة الشعرية لعمر بن أبي ربيعة عبر استعادة شعرنة المكان، وفي تحفيز فاعلية الوصف الشعري، وفي التعبير عن صور النساء الدمشقيات، لكن هذا لم يجعل منه شاعرا إيروسيا أو بورنويا، ولا حتى مصورا لما يتساقط حفلات الليل، إذ تبدتْ تقانته التصويرية من خلال تقانة الجملة، وبنية الاستعارة، وتركيب وحداتها الوصفية والبيانية..

قصيدة نزار قباني ظلت أكثر تمثيلا لضمير الأنا، المسكون بوعي عال، وبرؤية مفتوحة توحي بحيوية تدفقه الشعري، والمتمثلة لتلاقح البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، وعبر خبرته ومهارته في تأصيل هوية القصيدة المدينية، على مستوى استخدام الوصف، والبناء التصويري، أو على مستوى النمو الدرامي للأفعال، حتى تبدو تلك القصيدة وكأنها تتناغم في حيويتها عبر تقانة التزيين، وعبر الاحتفال بها، وليجعلها أكثر تعبيرا عن شغف الحضور، والكشف، وعن مقاربة المعنى بوصفه وجودا لها، وفي كتابة قصيدته المؤنسنة، وفي الاعتراف الذي يمكن أن يستعمله العاشق أو المعشوقة، أو حتى السياسي والوطني والثوري والمتطرف واللص والمجنون.

القباني وصورة الشاعر الخصوصي

قصائد نزار قباني ومنذ مراهقتنا كانت شغفا، وبوحا، ونشيدا في استحضار خطاب اللذة. وبقطع النظر عن الأحكام الفنية والنقدية التي يمكن أنْ تحوط مقاربة تجربته الشعرية، فإنّ قصيدته ظلت عابرة للتوصيف العمومي، وجاهزة على طاولاتنا، وعند رفوف مكتباتنا وفي أحاديثنا اليومية، وفي إصغائنا لأنوثة الغناء، وأحسبه الشاعر العربي الأكثر تمثيلا لغنائية الشعر، لسهولة جملته وصورته الشعرية لما تحتشد به من خفةٍ وطاقةٍ وجدانية كبيرة، فضلا عن كونه الشاعر الوحيد الذي اكتسب صفة “الشاعر الخصوصي” الذي عمل على تكريس نظام “الخصخصة الشعرية”، وتقويض صورة الشاعر الموظف، أو صورة الشاعر العاطل، إذ كان يعيش على حساب “اقتصاده الشعري” ومن أرباح خصخصته الشعرية، والتي جعلت من مؤلفاته الشعرية والنثرية أشبه بـ”سوبر ماركت” علني، حيث يُباع فيها الكلام الشعري مثل باقات الورد للاستعراض أو للتزجية واللذة والحفظ..


لوحة: جان حنا

كلُّ شيء في قصائد قباني كان يبعث على الإنصات، اللغة الرشيقة، الصورة، الفكرة، الرسالة، البلل الاستعاري الذي تضخّه، الإحساس بالشبق والإشباع، الطراوة التي توهب الشعرية دفقا من التلذذ. طقوس هذا الكلُ التعبيري ليست هروبا في الفراغ، أو حتى اغترابا عن التاريخ الشعري وعن ثقافوية اللعبة الشعرية، بقدر ما كان يجد في تلك الشعرية إحساسا بالاختلاف، ووعيا بحرفنة الشاعر الذي يُجيد ويبرعُ في صناعة صوره الشعرية، وفي اقتراح رؤيته، وفي سحب الملتقي إلى دائرة القصيدة، بوصفها دائرة للإنصات واللذة والتواصل.. وحتى همومه وانشغالاته الأخرى، هموم الأمة وهموم الحب والجسد والفقدان، أسبغت على قصيدته سحرا من الصعب تغييب وضوحه عن الحكم القرائي، والتصويب الشعري. فأحزان النكسة القومية جعلته أكثر وعيا بالانتماء، والبحث عن أسبابها، فقصيدته “الرمادية” كشفت عن روحه اللجوجة، عن مواقفه إزاء الطغاة الذين صنعوا الهزيمة، حدّ أنه أصبح متلبّسا بقناع الشاعر المتمرد على تلك الهزيمة، وعلى خيبات السياسة في أنّها لا تنقذ أحدا ولا تؤدّي إلى خلاص أو تطهير، كما أنّ إحساسه المرعب بالفقدان – فقدان الابن في وقت مبكر- أصابه برعب داخلي، رعب من يفقد توازنه الروحي فيذهب إلى أقصى اللغة لتكون مطهّره ومنقذه، وفقدانه لزوجته بلقيس الراوي أفقده آخر مناطق التوازن، تلك التي ألقت به إلى ما يشبه “العواء الروحي” حيث تحولت القصيدة إلى صراخ متوهّج، صراخ تختلط فيه فجيعة الروح مع الشعور الدامي بالعجز، وهو ما أعاد قصيدته إلى نوعٍ من الشخصنة المربِكة، حيث يجد الشاعر نفسه أمام موت أحلامه، فأمام رعب هذا الفقد الوجودي تغيب عن الشاعر اطمئناناته، مثلما تبدو القصيدة وكأنها كائنه أو قرينه، المخذول، المُستلب، والذي لم تمنحه القصيدة سوى أنه يمارس احتجاجه على القتلة، وأنْ يعترف بالوجع، والخيبة، والهزائم الوطنية والشخصية..

استعادة ولادة الشاعر نزار قباني في 21/3/1923 هي محاولة لاستعادة وجه دمشق المدينة التي غيّبها المحاربون، وافقدوها الكثير من شعريتها، والكثير من شبقها وبوحها وظلالها الساكنة، مثلما نستعيد معه قصيدة المدينة بوصفها الرمزي، أو التمثيلي، والتي جعلته مسكونا بعلاماتها، وسحرها، وبهاء لياليها، وتوهج يومياتها وعبق روائح بخورها ونعناعها، وشغف نسائها بالحياة والغناء، وهو ما كانت توحي به قصائده، إذ لا نجد في تلك القصائد سوى صوت الحياة الذي يجعلنا أكثر استغراقا بالمعنى والوجود، وأكثر انشدادا إلى وظيفة العاشق الذي يرى العالم دائما بعيون ملونة.

الشاعر الاحتجاجي

تدخل تجربة الشاعر نزار قباني الاحتجاجية في مرحلة ما بعد 5 حزيران عالما أكثر صخبا، وأكثر جدلا، وفقدا لروح الشاعر العاشق، إذ بات تحولها وكأنّه رهان نكوصي على تحوّل وعيه (الشقي) إزاء مظاهر الهزيمة، والتي تحولت هي الأخرى إلى هزيمة شخصية، وهزيمة شعرية..

قصيدة المدينة خرجت عن لحظتها الرومانسية، لتجد وجودها أمام عالم مرعوب، وأمام قاموس نأى بوظائفه واستعاراته عن الوجد، ليؤسس وقائعه الفاجعة على رؤيته لهواجس الفزع، ولصورة العدو الذي استباح المدينة الأنثى، وأعطب ذاكرة التاريخ، حتى باتت لغته وكأنها أكثر قسوة، وأكثر اقترابا من الملحمة، وأكثر هوسا بالتعبير عن الاحتجاج ضد الطغيان، بوصفه المسؤول الأول عن الهزيمة، وعن فداحة المصير، ولعل قصيدته (هوامش على دفتر النكسة) هي (المانيفستو) الذي أرهص بالإشهار عن الخيبة الشعرية، وعن الصدمة الفاجعة التي تركتها الهزيمة، لأنها هزيمة المدينة والذات والحلم والجسد، مثلما هي تعرية لنمط من الثقافات الحكومية والبلاغية التي اصطنعت للجميع قاموسا مسلحا، وتاريخا مسكونا بسحر القوة التي توهمت بقلاعها العالية بعيدا عن اللصوص والجنرالات:

يا سيدي السلطان

كلابك المفترسات مزقت ردائي

ومخبروك دائماً ورائي

أنوفهم ورائي

أقدامهم ورائي

يستجوبون زوجتي

ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي

ضُربتُ بالحذاء

أرغمني جندك أن آكل من حذائي

يا سيدي.. يا سيدي السلطان

لقد خسرت الحرب مرتين

لأن نصف شعبنا ليس له لسان..

هذه القصيدة الصادمة أثارت حولها لغطا كبيرا، ليس لجرأتها – فقط- في تعرية المشهد العربي، بل لحمولتها الرمزية في نقد السلطة العربية، سلطة الطغيان والهزيمة، إذ تكشف في جوهرها عن وعيٍ مُفارق، وعن تقانة شعرية استلهمت شعرية النداء، وشغف بالاحتجاج على كلِّ ما جرى، بما فيها روح الشاعر ذاته، حيث أخرجته الهزيمة من مجال الاحتفال، والجسدانية، ومدينة النعناع، إلى المراثي، والعزلة والمازوخية، وإلى المدينة المذبوحة والمُدنسة بجند الاحتلال، ولاستخدام مفردة (النعي) بشفرتها السومرية، حيث تنعى العشتاراتيات موت ديموزي، موت الخصب، ونهاية لحظات العشق الذي كانت تعبق بالمدينة، وتسطع بسطوعها:

أنعي لكم.. أنعي لكم‏

نهايةَ الفكر الذي قاد إلى الهزيمة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.