مدينة الأنهار مدينة الغضب

السبت 2018/12/01
البصرة وما تبقى من الخراب

البصرة أجمل مشاتي العالم، هكذا كان الدرس. مروا على البصرة جميعهم فكانت الطيبة ملح الوفاء ولم يذكروا ملوحة الماء، كانت المدينة بصرياثا، حرثاً صالحاً للجميع، بساتينها ملك مشاع وهواؤها أنقى من العطر. وشطها خزانة الدجلتين.

وللبصرة طبع السكّر في أهلها، ووفاء الملح، وليس لها في السمين الأبيضين مكيدة. مع وفرة ماثلة في العطاء بلا حدود.

نفطها يُحرّر فقراء المعمورة، سمكها حين ُيعلّب يشبع قارة أفريقيا، *خرّيطها يذهب الوحشة عن المهاجرين في أصقاع الدنيا.

لؤلؤة الخليج عربيا كان أم فارسيا وعروسة المدن قبل عصر النفط والنزوات ومدن الملح والتيه.

وهي أول ولاية في العصر الإسلامي أنشأها العرب المسلمون خارج حدود الجزيرة العربية، “وكانت منطقة البصرة قبل أن يشرع العرب بتمصيرها تشمل سبع دساكر بمعنى سبع (قرى)قديمة”. (الطبري، 60، 1939). “في الخريبة اثنتان وبالزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان وفي الأزد اثنتان، وكانت هذه الدساكر السبع مأهولة وذات منازل ثابتة وقد حدد ماسنيون مواقع هذه الدساكر، إلا أنها تحولت إلى خمس مناطق عسكرية قبلية تدعى الأخماس في العصر الإسلامي كما ذكر ماسنيون”.

البصرة مدينة قبل احتلالها وتمصيرها، وهي مدينة الأنهار بوفرة عالية، قيل إن عدد الأنهار بلغ آنذاك نحو من عشرين ألف نهر وينابيع شعر ومعرفة، ومساكن للثوار، ومهبط الحالمين وملتقى العلماء والمؤدبين.

فيها ما يكفي لأن تفتخر قارة بأكملها به من الكنوز، وفيها من الندرة والوفرة ما يكفي المبدعين في حقول الحياة المختلفة.

ما يقول ابن بطوطة: (إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الأفاق الفسيحة الأشجار المؤنقة الإخناء ذات البساتين الكثيرة، والفواكه الكثيرة… وليس في الدنيا أكثر نخيل منها. والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك والتمر واللبن والفواكه). (ابن بطوطة، 185-181، 1968).

***

كان للبصرة أسماء أخرى أيضا فمن ذلك كان تدعى بالخريبة قبل الفتح الإسلامي، وبعد بنائها سميت بأسماء كثيرة منها أم العراق، خزانة العرب عين الدنيا، ذات الوشامين، البصرة العظمى، البصرة الزاهرة، الفيحاء، قبة العلم، كما تدعى الرعناء وذلك لتقلب الجو فيها أثناء اليوم الواحد وخاصة في فصل الربيع، ولعل أجل ما حملت منطقة البصرة الكثير من الأسماء، منها (باب سالميتي) وهي كلمة مأخوذة من الأكدية (شابليتيوم) أي البحر الأسفل فيكون معناها (باب البحر الأسفل).. وعرفت باسم ميناء طريدون إذ ذكرها كتاب الرومان والإغريق باسم تريدون أو ديري دوتس، ولقد استعار القاص جابر خليفة جابر اسمها في مجموعة قصصية له بعنوان “طريدون”، وقد قلبها العرب إلى (تردن) و(تردم) و(تدمر) والاسم الأخير عرفت به البصرة كأحد أسمائها كما جاء في تاج العروس للزبيدي، كانت البصرة تسمى في القديم (تدمر) وفي مسند زيد بن علي قال (ويقال لها أي البصرة تدمر ويقال لها حزام العرب، وقد أطلق عليها أيضا البصيرة.

البصيرة من أسماء البصرة القديمة وقد أعاد بناءها أردشير ملك الفرس الساسانيين وسماها (وهشتا باذ أردشير) وذكرها الأزهري في تاج اللغة بـ(الخريبة)، وهي جزء من البصرة كان يطلق عليه البصيرة الصغرى، وقال حمزة الأصفهاني إنها كلمة فارسية (بس راه) وردها يعقوب سركيس إلى الكلدانية إذ تعني الأقنية أو باصرا (محل الأكواخ).

إن كلمة بصرة أو بصيرة كلمة أكدية مشتقه من كلمة (باب وصيري) فأصبحت (صابي صيري) أي سكان الصحراء فيكون اسمها (باب الصحراء). هناك إشارة إلى وجود مدن مندثرة تحت أنقاض البصرة القديمة، فعندما جاء عتبة بن غزوان المازني عام 14هـ إلى منطقة البصرة شاهد أنقاض مدينة قديمة كانت حسب روايات محمد بن إسحاق سبع دساكر، وذكر وجود قصر (سنبيل) في رواية أبي عبيدة على أنه حصن فارسي في الجاهلية على مرتفع وهو داخل البصرة، وقد سكنها بنو تميم وبنو العنبر وغيرهم.

ولكن ابنها الحكواتي الكبير محمد خضير ابتكر لها اسما يناظر خلودها “بصرياثا”.

***

البصرة أيضا لم تكتف بمجد ثقافي وشعري وحضاري وفني عبر رموزها على مر التاريخ، فهي مدينة الفرح بأعراسها وبكسلاتها وبحدائقها ونزواتها وشوارعها المنفلتة المزاج من الوطن إلى الكورنيش إلى أقصى جنون أبي الخصيب، صعودا إلى شجرة آدم وجمال الشطين في قبلة واحدة. ولكنها أيضا ساحة للثوار ومدينة الغضب الفكري العارم فمنها خرج الخوارج والزنج والقرامطة، وكان لإخوان الصفا وخلان الوفا جولة في رسائل العشق. ولها من مناقب التيه والوجد والعرفان مدارس وفيها من الملل والنحل ما يكفي الدرس في التعايش السلمي المجتمعي أو ما يصطلح عليه الآن “التعددية الثقافية”.

البصرة درس في تكامل مجتمعي مهيب وعيد “الكسلا نموذجا”.

***

نبوءة الخراب

وعن خراب البصرة وما بعده وما قبله حدثنا شيخ التاريخ المعتوه بقوله “أما خراب البصرة فرواياته ثلاثة أنواع: خرابها بالغرق وخرابها بثورة الزنج و(خرابها) بوقوع خسف وتدمير فيها”.

فأي رعونة وأي قيامة لبصرة اليوم؟

البصرة غير الصالحة للخضرة والماء، وما تبقى سوى الوجه الحسن.

خرابها الآن منظم للقضاء على الماء أولا والبقية تأتي.

البصرة رعناء مرتين، مرة حين سمحت للآلهة أن تمرح بمزاج فصولها، وثانية عندما فتحت أبوابها للغزاة على مر العصور.

***

*- الخريّط: حلوى جنوبية خالصة بلون أصفر ومذاق خاص، تصنع من نفاش الهور.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.