فن خشن وبساطة لاذعة

مقدمة فرنسية لأشعار مريريدة
الأربعاء 2019/05/01
لوحة: فاطمة حسن الفروج

 قصائد هذا الديوان تنتمي لفن خشن ذي بساطة لاذعة، إنها تشبه الموشحات، المنتخبات والقصائد الغنائية ذوات أدوار لعصرنا الوسيط. أخذت هذه القصائد من فم بنت هوى لطيفة ورزينة، مريريدة نايت عتيق، أمازيغية شابة من تاساوت العليا. هذا الوادي الواقع في «طرف العالم» والذي، ومنذ ألف عام، يشبه نفسه. يتواجد الوادي في قلب الأطلس الكبير المغربي الذي يصعب الوصول إليه، وليست هناك طريق قريبة بإمكانها أن تطاله…

قبل عبوري في سنة 1927 و1928 لا أحد من الأوروبيين ذرع عزلات إيسوال وأمشكى وأسيف تيموتا لآيت عفان وتاركديت…

 وليست هناك منطقة بإمكانها أن تلهم أفضل سافو الأمازيغية مثل تلك. ألم يقل بلزاك بأن الشعر يريد شيئا ما هائلا وبربريا ومتوحشا؟

في هذه المنطقة التي يشار لها في الخرائط، بضع سنوات بالكاد كـ»منطقة دون معلومات» ينبع وادي تاساوت من أزيد من ثلاث آلاف متر، في سهوب نجد تاركديت، تحت الأنظار الفاتنة لجبل أغوغا في الشمال (3400 م) وقمة مگون (4076 م) في الجنوب. ثم يسير بمياهه الصاخبة التي منحته اسمه، في عمق واد كئيب وعظيم في الآن نفسه محصور بين حاجزين مدوخين أو جوانب وعرة مغطاة بالسنديان والحفصيات والصنوبر الجبلي.

  لتاساوت العليا ميزة امتلاك أجمل «تيغرمين» وأكثرها مجازفة في الأطلس الكبير، إنها بنايات مدهشة تتناغم فيها الأصالة والروعة تماما مع صرامة المحيط، بنيت هذه القصبات ذوات ثلاث أو أربع أو خمس طبقات ذوات الحيطان الضخمة المزودة ببرج في كل زاوية، ويصل علوّها أحيانا إلى عشرين مترا، بالحجر بلا ملاط ولا ورقة، ونبقى مبهورين أمام جسارة البناة. تقوي روافد من السنديان أو الصنوبر مركّبة أفقيا البناء، وتقاوم بنجاح متفاوت التصدعات العمودية التي لا يمكن تلافيها في جدران بدائية كتلك. ولهذا الضرب من التدعيم («لعقود») أثر جيد وغريب.

  تسند أبراج الطبقة الموالية بمرقب أو اثنين («تاغنزيرت») وتبرز في الجدار فتكمل منح «تيغرمت» ملمح قلعة قروسطية. إن مشهد هذه البروج السوداء، الحمراء، والبنفسجية، والصفراء والداكنة، بحسب لون الحجر المبنية به، بجدرانها التي تتخللها الروافد الخشبية، يترك انطباعا لا يمّحي.

بقي السكان القلائل، في حضن جبالها، المحفوفة بالصعاب، مجهولين حتى بداية هذا القرن، وهكذا ولأنهم بقوا في منأى عن أي احتكاك مع باقي العالم، فقد ظلوا يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم العريقة.

وحتى يتسنى فهم الحياة الاجتماعية لهذا الجزء من الأطلس، ينبغي طلب سر ذلك في شكل البلد، فالطبيعة وقد غطت هذه المنطقة بشبكة معقدة من الجبال تحرزها انقصافات عميقة، هيئتها مسبقا للحياة الذاتية والتجزيء، فالعشائر القديمة عاشت وهي متمرسة وراء دفاعات طبيعية منيعة منذ الأزمنة السحيقة، وفية لمخبئها، دون ذوبان أحدهما في الآخر رغم أنهما جيران، فالتضاريس العنيفة ركنت كل واحد منهما في واديه، وكم بدت لي هذه العشائر فرحة في عزلتها القديمة والشرسة، في بساطتها النشطة، في جهلها وفي حكمتها اللاواعية، حكمة البدائي الذي يعيش بالقرب من الطبيعة!

 فهنا في كل الأحوال مازال بإمكاننا اليوم الوقوف على كل أصالة وطراوة الروح الأمازيغية وهنا أيضا تفتق شعر غريب، غريب وخشن، ولن تعطي الشذرات المنشورة هنا لأول مرة سوى فكرة مبتسرة عنه.

  لترجمة مثل هذه القصائد، ينبغي إتقان اللغة وينبغي أيضا امتلاك معرفة عميقة بالشعائر والعادات والتقاليد. لكن وإن توفر هذان الشرطان فكيف يمكن نقل كل سحر تلك الصور، تلك الإحالات، وذلك اللعب بالكلمات الذي ليس له مثيل في لغتنا؟ فالترجمة الأكثر وفاء أو الأكثر سدادا لن تصل لاستعادة كلية مذاق مثل هذا الشعر. وأنا على يقين من هذا بعد أن أمضيت سنوات طويلة في اتصال حميم مع السكان الأمازيغ.

 يمكن للقارئ أن يفكر في أن الإفراط في احترام حرفية لغة القصائد لا يخدم دوما الجوهر اللامادي للقصيدة، وأن استعمال بعض الكلمات وبعض التعبيرات التي تبدو ذات غنائية سهلة جدا، في الترجمة يضر بالغنائية الأليفة لأغاني مريريدة.

 ولإنهاء سوء التفاهم هذا، ينبغي التدقيق بأن لهجة تشلحيت، وهي لغة قديمة، ما زال الناس يتواصلون بها اليوم غير أن كتابتها طواها النسيان منذ عهود سحيقة. ولا تمتلك إلا معجما فقيرا جدا ترفده مع ذلك صور بلاغية حية بشكل مدهش ومزخرفة، يفقدها التأويل المتعسف مع كامل الأسف دوما الكثير من نسغها إلا في لغتها الخاصة.

  وهكذا فترجمة بعض التعبيرات بشكل حرفي، بالمعنى الضيق للحرفية، سيجعلها كالأحجية في عيني القارئ، لذا يستحسن تأويلها أفضل لمنحها كل دلالاتها.

 ولنسجل، بشكل عابر، بأن تشلحيت تشتمل على تباينات طفيفة من قبيلة لقبيلة فاللهجة المحلية لبلاد إيمرحان تختلف عن تلك الشائعة في الأطلس المتوسط أو نتيفة ولسان إيمتوگن ليس هو بالضبط لسان آيت بوولي. ولو أن هذه الملاحظات لا تفيد سوى المستشرق، ومع ذلك فأنا أعتقد أن لها مكانتها هنا لتنبيه القارئ، بما فيه القارئ الأقل علما.

  لقد آليت على نفسي ألا أزوّر، وألا ألفّق، وألا أضيع أصالة أغاني تاساوت وذلك بمنحها غنى ودقائق اللغة الفرنسية وعبقرية ثقافتها العالمة.

 «حين نرتب الأشياء يقول بيار لوتي، فإننا نزعجها كثيرا وبشكل دائم…»

هل يراد لنثرية مريريدة أن تترجم إلى إتيكية أو غنغورية في غير زمانها ومبتذلة؟ لم يكن لديّ الطموح السيئ لتقديم أشعار الأطلس الكبير بشكل آخر، غير ما هي عليه، خشونة في الشكل والكلمات، لو فعلت ذلك لخنتها مرتين.

  لذا، ألزمت نفسي بأن لا أحوّل هذه الأشعار لأبيات فرنسية مقفاة بإتقان بينما هي تتضمن، ودوما وفي شكل بالكاد يمكن ضبطه نثرا مرتجلا يكتفي بجناس تقريبي يقوم مقام القافية. وقد يتخذ أحد أبيات مريريدة صدفة، وبشكل عارض إيقاعا بكل ما في الكلمة من معنى، إيقاعا محددا، يمكن أن نلاحظ بأن أغاني بنت أزيلال تتضمن القليل من اللازمات، فالشاعرة تختار، جملة أو جملتين تترددان كاللازمة. إنها تحب وتفرط في الإطناب والقلب البلاغي والتي تعطي لبعض القصائد شكلا مدهشا. أما بالنسبة إلى عناوين القصائد فهي من إبداعي.

لوحة: فاطمة حسن الفروج
لوحة: فاطمة حسن الفروج

  ليس للخيال سوى مكانة ضعيفة في أشعار مريريدة. بل إنه مبعد كلية من قطع طويلة سردية أساسا ومن المآسي الصغيرة المرسومة في محكيات قصيرة يكون فيها التطابق مع الواقع هي الغاية الأسمى. وبالنسبة إلينا فهذه المحكيات تشكل دراسة فريدة للعادات بفضلها ننفذ لحميمية الدور.

  أما بالنسبة إلى الحب، فهو يظهر في الغالب الأعم عنيفا وهو جسدي أساسا، فقسوة الجبال تفسر قسوة الناس الذين يسكنونها. وكذا فظاظة الأرواح فريسة الشهوات العنيفة القادمة من الإنسان البدائي، والقلوب التي ليس لها ترف الافتتان -باستثناء مريريدةـ في حضن طبيعة جاحدة حيث يطغى هاجس الخبز اليومي على الحياة برمتها من الطفولة المكدة إلى الشيخوخة المستسلمة…

 إن أقر بوالو، بأن اللاتينية، في كلماتها تجترئ على الشرف، فإن مريريدة ترى بأن للشعر في دارجتها الأمازيغية الخشنة الحق في التعبير بصيغ تتاخم الفجور والفحش. فالسخافات الأكثر جرأة لا تفزعها، لذا فهي تقولها بسجية تلقائية ومهدئة، حتى أننا نحس كم ستندهش جرأتها الظاهرة وحريتها الساذجة في التعاطي مع اللغة، لمؤاخذتها على بذاءتها وعدم احتشامها.

وهكذا نسمع باندهاش لا يعادله إلا الافتتان ببعض القصائد المفعمة بالطراوة والأحاسيس قصائد تقترب من النوع الغنائي، قصائد لا تفتقر فيها بائعة الهوى الشابة الشاعرة إلى الرقة وإلى الشفقة وإلى الروح.

من المحتمل أن مريريدة، وبالنسبة إلى هذه القصائد قد وجدت الإلهام في مغامراتها العاطفية الخاصة في أفراحها وإخفاقاتها، ولنسجل بأنها كانت تتلذذ بالتذكير بأحزان الفراق. في هذه الأغاني التلقائية واللذيذة رسم واقعي وأخاذ للبيوت ولحياة جبليي الأطلس الكبير، فمريريدة لا تتحدث إلا عن الأشياء الأكثر بساطة، الأكثر يومية، الأكثر ضعة لكنها تتحدث عن كل ذلك بتأثر خشن، وبدقة تجعل الأشياء ملموسة وجلية، إنها تذكرها كما تحس بها وإن كانت الأدوات الشعرية تعوزها أحيانا، فإن الحساسية لا تغيب عنها أبدا.

  بصمت خرافات ما قبل الإسلام أغاني تاساوت كما يتخللها التضرع لله وللأولياء الصالحين ولأرواح الجبل، ويتداخل الدين بالسحر، وفي لقائهما من المرارة أكثر مما فيها من الابتهاج والنبرات فيهما أكثر صرامة من كونها باسمة. لكنها تحتفظ دوما بعمق حسي وبميل للملاحظة مثير، وهو في الآن نفسه ساخر ونافذ البصيرة.

غير أن هذا المحتوى والخيال المحدود، كما أشرنا لذالك آنفا، يجد مبررات لهناته، كما في كل شعر متوحش، فيما يجدها، في الشغف الذي يحركه، وفي وضوح تيماته وتلقائية تعبيره.

وتأتي العديد من الأمثال لتكشف هي الأخرى لنا ذهنا متنبها لطبيعة الأشياء بل إنها تكشف لنا فلسفة متشككة وساخرة حتى.

 تشكل اليوم أيضا هذه الأقوال المأثورة، مختلطة بتعليم ديني بسيط جدا، هذه الأقوال المتحدرة من حكمة تقليدية عريقة، صيغ الحس المشترك هذه والتي تشكل في مجتمع بدائي العملة الرائجة للعقل والحكمة، العمق الفكري الوحيد الذي يعيش عليه الأمازيغ المنعزلون في أوديتهم العليا.

  إنه شعر شفوي أساسا، يبدعه الكل، شعر لا يتوافق مع حذق الثقافة العالمة كما أشرت لذلك آنفا. مثلما أن كاسر الحجر الجبلي حين ينقل إلى منطقة تحاذي البحر لا يتكيف ولا يزهر. إنه شعر يسحر ويثير مثله في هذا مثل الأعمال اللامعة، خصوصا حين تتكلف موهبة مثل موهبة مريريدة بتجسيده.

قال مونتان «إن الشعر الشعبي هو شعر طبيعي خالص وله سذاجاته وهباته التي يطاول فيها ما هو أبهى في الشعر المتقن بحسب المعايير الفنية كما نرى ذلك في أغنيات غاسكون الشعبية والأغاني التي جاءتنا من أمم لا تعرف أيّ علم ولا حتى الكتابة».

 ولا حتى الكتابة! مثلما هو الحال لدى أصدقائي الشلوح المنعزلين في تجاويف الصخور والغابات.

 هذه السذاجات والهبات نجدها في»lieder» تاساوت الذي غنته لي مريريدة «الضفدعة الخضراء الصغيرة» يوما بعد يوم بحسب مزاجها ووجدها.

  هل ينبغي التنصيص هنا، وقد فهم ذلك من قبل، بأن كل قصائد هذا الديوان ليست من الإلهام الخاص لمريريدة؟ لكن القصائد التي تعود لتقليد شفوي عريق، وتلك المتأخرة التي تعود لشاعر جوال علي إيباقلوين، فقد نقلتها لي بفن لا تتقنه إلا هي. وبلهجة انتقالية حيث تخاصر»تامازيغت» وتختلط بـ»تاشلحيت» وهي ميزة المنطقة الممتدة من أطلس أزيلال إلى قلعة مگونة.

وادي تاساوت
وادي تاساوت

  مريريدة… من هي؟ بائعة هوى شابة، كما قلت ذلك، في سوق أزيلال المحاط بأسوارعالية مبنية بالتراب ومدعمة بأبراج بها كوات رمي، وكان يسمح لها بالتواجد هناك هي ومجموعة من البنات على شاكلتها. لم تكن بلغت الثلاثين بعد، هل كانت جميلة؟ لا أبدا، رغم عينيها الكبيرتين ونظرتهما المعبرة، كما أن تقاسيم وجهها الصلبة ببشرته الفاتحة جدا وبطلائع ذبول سابقة لأوانها تمنحها سمتا فريدا ومؤثرا لا يمكن نسيانه.

  كانت مريريدة وفي لحظات حبورها، لا لإرضاء زائريها، تغنّي وهي تمدد المقاطع الختامية لأبياتها الشعرية كما لو أنها تنغم الأغنية القصيرة بترتيل كنسي غريب. لكن في سوق أزيلال من بإمكانه أن يعير اهتماما حقيقيا لموهبتها؟ ولأنهم لا يتقنون تاشلحيت فضباط الصف الفرنسيون لفرقة الگوم لم يكونوا ينشغلون بقصائد وأغان غير مفهومة بالنسبة إليهم.

  أما بالنسبة إلى «الزبناء» المحليين: گوميون، سائقو شاحنات، تجار وفلاحون فقد كانوا يبدون احتقارا كاملا لشعر مريريدة، فهؤلاء وأولئك يبقون غير مكترثين بهذا الفن لأن متعته مختلفة عن المتعة التي جاؤوا يطلبونها عند بنات السوق…

إبّان توقفي في أزيلال تعرفت على الشاعرة الشابة. صديقي المأسوف عليه جوك..من الفرقة 32 للگوم، والذي جاء من دمنات قال لي «جئتم في وقتكم، لقد قمت لكم باكتشاف، هذه الليلة، سنذهب لشرب الشاي عند مريريدة، لا تطلبوا مني أزيد من هذا، فاللقاء يدّخر لكم دون شك مفاجأة لا تنسى».

  وأيّ مفاجأة! وأيّ اكتشاف! لقد ولّد لديّ هذا الاكتشاف اهتماما جديا، وبعد ذلك كانت لي فرصة لقاءات متكررة بمريريدة حيث كنت أترجم قصائدها مع الحرص الدائم على احترام ما أمكن «النص الشفوي» لأن تاشلحيت، مثلها مثل اللهجات الأمازيغية، لا تكتب، أو بالأحرى لم تعد تكتب أبدا، وفي العهود السحيقة كانت كتابتها تستعمل الحروف الليبية وحروف «تيفيناغ» الطوارق، المشتقة هي الأخرى من الأبجدية السومرية.

  صمتت أغاني تاساوت هذه وتناثرت وسط ملاحظات ووثائق وسمت المسارات التي تتبعتها ما يقارب من نصف قرن في ثنايا الأطلس. واليوم، ومع التلافيق التي أضفتها عليها حدة ذكريات أخاذة وإحساس «never more» فإن هذه الأغاني تكتسي بالنسبة إليّ تجديدا للفضول والسحر، واستحضارا كثيفا لأصدقائي الساكنين بالأودية العليا، والذين وفي كل مرحلة، يجهدون أنفسهم في تأخير ذهابي ويصيحون مثل أحد أبطال ريديار كيبلين، «لقد تحدثنا بقلب مفتوح واشتركت أيدينا في نفس الطعام وكنت بالنسبة إلينا مثل أخ…».

لا تصحو مريريدة أبدا قبل الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، ومثل الكاهنة سيديب، فإنها كانت تعتقد أن النوم هو السعادة الأكبر، كان عليّ انتظار نزول الليل لأجدها لابسة لحافا خفيفا وديباجا باذخا، مريريدة فائحة بالياسمين، ضاحكة بملء أسنانها الساطعة والمرصعة بلؤلؤ، شفتاها البرتقاليتان واللتان، وللأسف، كانتا أقل ثخانة مما يتوجب. مريريدة الجاهزة للانقياد لغنائيتها الملتهبة أو كآبتها المأتمية.

 كانت هناك صديقتان لمريريدة تقتسمان معنا دوما سهراتنا، باشا من زاوية الشيخ وبيبية من مسمغير واللتان وصلتا إلى أزيلال من بلديهما البعيدين جدا، بعد مكابدات لا يمكن تخيلها. كانت الأولى طويلة القامة ونحيفة بقدر ما كانت الثانية قصيرة وممتلئة ولكل واحدة منهما عشرون سنة بالكاد، كانتا وديعتين وبشوشتين، وفتاتين طيبتين في المحصلة رغم ميل غير معتدل للجعة وحنان خاص جعلهما لا تفترقان.

  وإبّان هذه اللقاءات المحببة كنت قد حررت بإملاء لمريريدة المحكيات والأشعار والأغاني التي كانت الأمازيغية الشابة تعرف جيدا كيف تحكيها أو تغنيها، وتقدم أحيانا لكل واحد من أشعارها صيغة أخرى، وكنت أؤاخذها على ذلك حين أقارن بين ما دونته.

  كانت مريريدة تحس، على ما يبدو، بفرح لا تشوبه شائبة وهي تبعث الحياة مجددا لنفسها ولي، في وادي تاساوت، والذي كان له في عينيها ما يشبه السحر الحسي. يهزها دوما حنين غامر وآسر له. ألا تعمل الذكريات الولهى التي نحتفظ بها لبعض الأماكن على تسليتنا تجاه مجريات أحداث سعيدة أو محزنة؟ ويحضرني هنا ومن الذاكرة البيت الشعري لبياربونوا «أريد أن أرى مرة أخرى غاو، الگوم الزرق، والماء الأخضر…» وبالحساسية المؤثرة لأولئك الذين اجتثوا من جذورهم بدفء تواصلي، كانت مريريدة تمتلك مقدرة استحضار عدة وقائع، مفرحة ومريرة لطفولتها التي أمضتها وسط السنديان، وتحت شجر الجوز العتيق على مقربة من «إغرم» المخزن-القلعة القديمة، وفي المسارب التي تحادي سيل تيموتا، وفوق السطوح المشمسة حيث يجف كوز الذرة، أو في الشتاء في قلب حجرة واطئة مظلمة ومليئة بالدخان.

  ربما وجدت مريريدة في هذه الأغاني سلوانا غير مأمول؟

لوحة: فاطمة حسن الفروج
لوحة: فاطمة حسن الفروج

 أحيانا، تنزلق دمعة نافرة فوق خدها، ويغيض صوتها، وتترك للحظة ألمها حتى يتبدد، ألمها الذي أشعلته وأذكته الحميا القصوى لاستحضاراتها، إنها وبكل تأكيد كانت تتواءم بصعوبة مع ظروف عيشها والتي لم تكن مهيأة لها إلا بعض الشيء، ظروف فرضتها عليها جملة من الإكراهات.

  ورغم أني لا أعرف إلا جزءا يسيرا من تاساوت، فإنها كانت تقتسم معي معتقد الإعجاب والحدب الذي أكنه لواديها العزيز، أجمل واد في الأطلس الكبير، بملامحه الهائلة والذي يمتد على خمسة وعشرين محطة في الجبل من العيون وسط سهول تاركديت حتى آخر الدير وطرف سهل زمران. ولكن وبين هاتين النقطتين، هناك الفجاج التي لا يمكن الوصول إليها لتاغية والمدرجات الموحشة لآيت عفان، والشعب المثير لإيشباكن بركامه الهائل، ومگداز القرية المذهلة والفريدة من نوعها، وتاسلي بأبراجها الحمراء وسط منحدرات متوحشة ومدوخة، وتاگوست بأشجار جوزها وارفة الظلال وحورها الفضي، وقصبات أوعامروت بأصالتها التي لا مثيل لها، والصنوبر العملاق لغابة آيت أونديس، والسيلان الأخاذ للأحجار بطول أزيد من ألفي متر، ولأنه شديد الانحدار، فإنه ينزل دفعة واحدة إحدى القمم الخرائبية لجبل تيسيلى. والحيطان الهائلة لإيسفولا حيث كان يقطنها سكان كهوف إلى وقت متأخر، يسكنون على بعد ثلاثمائة قدم من الجدول، الجسر الطبيعي لغجدامة، المعلق فوق وبتوازن مقلق، والمجاز الضيق لتاراست حيث يقدم نهر تاساوت في فيضانه محفلا مخيفا يرهب حتى الرجل الجسور..وكل هذه العجائب وأخريات، في الإطار الرائع لهذه الذرى المدهشة. 

  مازالت تتراءى لي مريريدة ملتحفة حائكا فضفاضا من صوف رهيف «حندير أفركشين» القديم والمحبوك، بخطوطه الأرجوانية، والقرمزية والبيضاء، والذي لم يعد ينسج اليوم. تتخذ وضعا جامدا، دون أن يزري ذلك من أناقتها وجلالها، وحين ترفع مثل عبقرية شعرية ذراعيها الجميلين والمحاطين بدمالج فضية ثقيلة، وشعر كثيف، فاحم السواد حتى أنه كانت له انعكاسات داكنة، يؤطر وجها إلى درجة أن لون بشرتها برقته التي لا يمكن وصفها جعلت الشاعرة تستحق الاسم الوديع أماريليس الذي منحتها إياه في بعض الأحيان والذي كان يجعلها، لبهجتي الكبرى، تبدو مرتبكة بل ومغتاظة…

  وأنا أسمعها تغني للجبال والوديان، مع الحياة اليومية بالقرية، مآسيها العائلية، أفراحها وأتراحها، كنت أوقن بأنها تصل في هذه اللحظات أعلى درجات التسامي في الفكر والعاطفة، وأنه وفي برحاء تحليقها الغنائي، ضرب من الثمالة يخفف من آلامها الأرضية.

 وأنا، أكون في تلاحم روحي مع هذه البنت المتوحشة والتي كنت أكتشف، وباندهاش ما انفك يتعاظم، روحا فرحة وكريمة وكم هي فريدة ولا يمكن توقع العثور على مثيل لها في قلب الأطلس الكبير. كنت أحس بأن لهبا ما يسكنها ويحرقها، كما يسكنها حب لهذا الجبل الذي تدين له بإلهام أصيل وفن وموهبة فذة كانت أبعد من أن تعيها.

  كنت أحب أن أفهمها بأن الطبيعة ليست هي التي تمنح للفن نفحته الإلهية، بل الفنان هو الذي يمجدها ويعيرها ويمنحها كل ما ترغب في أن تجسده من جلال وسموّ.

  كان لهذه العبقرية في الإحساس والتعبير الشعريين، لدى مريريدة، شيء مبلبل سيطر على قلب وروح بنت أمية، الصغيرة المتوحشة لمگداز.

  بل إنني أشتبه في كون مريريدة، وبطريقتها الخاصة، كانت تعبد قوى الطبيعة كما تشهد على ذلك بعض أغانيها وأشعارها، وهنا أيضا نجد نفسينا نحن الاثنين في نفس درب حلولية متأخرة.

  ما هو مآل آلهة شعرنا الأمازيغية؟

  بعد الحرب، كانت لديّ الفرصة للعودة مرارا لأزيلال. كانت الدور المخصصة لنساء السوق قد حولت ولا أحد تمكن من أن يقول لي أين تبخرت مريريدة وزميلاتها في التعاسة وفي قريتها مگداز البعيدة، القرية التي كانت مريريدة تنتسب لها بقيت تحرياتي بلا فائدة. ولأن أسئلتي استقبلت استقبالا سيئا، ونظرا للهيئة الغاضبة والمنددة لمحاوري، فإنني حدست بأن مريريدة كانت منبوذة من طرف ذويها، ربما بسبب أخلاقها المنحلة، غير أن بعض الجبليين أكدوا لي باطمئنان أربكني ولم يقنعني بأنها مجهولة في البلد «كنا سنعرف والديها، وعائلتها وسنتذكر هذه ‘مريريدة‘ حين كانت تلعب مع أقرانها ولم تحمل بعد لقبا».

  ربما أن مريريدة كذبت علي حين ادعت بأنها ولدت في مگداز، وبوازع من إحساس بالخجل والاحترام لعائلتها حرّمت على نفسها تحديد قريتها الحقيقية التي ولدت فيها؟ لكن كيف تأتّى لها أن تحدثني بكل تلك التفاصيل والرقة عن هذا الركن الضائع في قلب فجاج أسيف تيموتا؟

  أو ربما هي ولدت ليس في مگداز، ولكن في أحوازه، في تلك الدواوير العريقة والمعلقة في المنحدرات الضيقة لتاساوت؟ هنا أيضا كانت أبحاثي فاشلة.

 في سنة 1954، سمح لي الحظ، الهبة الأولى والأخيرة للآلهة، بأن التقي قرب آيت أوريات بآيت بوگماز، بجبلية بدت عليها علامات التقدم في السن، لكنها مازالت قوية وضاحكة، لابسة ثيابا تشهد على رغد عيش بيّن، كانت تعيش مع والدها الشيخ، وهو عملاق بلحية مخضبة بالحناء، كان مغتبطا بلا حرج من الماضي «العسكري» المريح لابنته…حوالي خمسة عشر سنـة تصـرمت بسـوق أزيـلال، كانـت إحدى زميـلات مـريريدة «الناضمة» «الشاعرة» التي تختارها عشاقها…»، قالت لي وبعد عدة محاولات لتنويري، وبعد أن وثقت بي من خلال حديث ودي ووعدي لها بمكافأة، أفضت لي هذه المومس التي انسحبت من الأعمال (otium cum dignitate) بأن مريريدة غادرت السوق المضياف لكي تعيش في حميمية خالصة مع ح.. وهو مساعد في الگوم، بعد ذلك وقعت في نزاع مع أحد قواد المنطقة فأخذها السرجان س.. إلى مركز تاگلفت وجعلها خليلته لبعض الوقت.

  قادتني التحريات الصعبة التي واصلتها إلى تاگلفت وواويزغت وبني ملال إلا أنها لم تبدد الغموض الذي يلف مصير مريريدة.

  هل عادت مريريدة، وقد أرهقتها هذه التقلبات، إلى الوادي السري مسقط رأسها؟ أو انتهى بها المطاف إلى بعض دور الدار البيضاء أو فاس؟

( السنون تدثّر أفضل من الأحجار…)
(السنون تدثّر أفضل من الأحجار…)

 في هذه الحالة، وقد ابتعدت عن تاساوت، والذي أعتقد أنه موطنها الأصلي، ستكون مثل الميتة، فعنها أيضا تمكن شاتوبريان من القول «إنها نبتة من الجبل، ينبغي أن تكون جذورها في الصخر، إنها لن تزهر إن لم تعنف من طرف الريح والأمطار. فتراب ومأمن وشمس السهل تجعلها تموت».

  مريريدة، منذ لقائنا الأول، كم من سنة تصرمت! فالزمن الذي لا ينغصه شيء، لا حب ولا حقد، تبدد حتى آخر رماد الذكريات التي نعتقد أنها «ab imo pectore» دائمة النضارة لأنه، وبقدر ما نتقدم في الحياة، فإننا نتجرع مسبقا من منابع ليليت، النسيان هذا المخدر الذي يشق الطريق نحو العدم ويطمس شيئا فشيئا الوجوه والأشياء التي تتبدد دون أن تنتبه لذلك.

  هذا ما أحست به جيدا مريريدة حين صاحت في «طريق النسيان»:

    «… أر ـ مديلن إياسگواسن إيوف إزران…».

  ( السنون تدثّر أفضل من الأحجار…)

 مريريدة! مريريدة! لتكن أغانيك، قصائدك الرعوية والغزلية، وأناشيدك، وشكاويك وابتهالاتك ولمدة أطول أيضا، وكذكرى للأزمنة السعيدة، كمثل ذلك الظل المنعش «umbra «refriger الذي تحدث عنه لامارتين…

 وقد جاءت من عالم متخلف، ها هي أغاني تاساوت إنها تصلنا مثل ذلك الدخان الأزرق الطويل، العابق بالعفصية والصنوبر، والذي يتصاعد في كل ليلة من تجاويف أودية الأطلس الكبير، البعيد جدا رغم أنه على أعتاب أوروبا العجوز.

  أتمنى أن لا تكون ترجمتي قد شوّهت كثيرا جمالها الطبيعي، الغفل لكنه رغم ذلك شخصي جدا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.