قصص

الاثنين 2015/06/01
لوحة: فائق حسن

بلا وضوء

قالت شهرزاد: بلغني أيها الشعب الشقي أنه كان كما يكون على مدى الزمان والسنين أن أصدر السلطان فرمانا بصرف هبات لمن يصلون النوافل في جوامع السلطان.

كثر المصلون حتى ضاقت بهم المساجد والطرق والحواري وتعب الكتبة والحسبة ودواوين الوقف وهم يعدون قوائم الأجور الإضافية حسب ساعات الصلوات اليومية.

يوما احتشد جمع غفير من أولئك المصلين أمام ديوان الأوقاف فخرج لهم الرجل الكامل الأوصاف – هتف بهم: خزينة السلطان فاضية أما خزينة الله فهي وحدها الباقية فلا تنتظروا أن تصرف لكم على صلواتكم أجور – أليست صلاتكم لله فلماذا يجزي عليها السلطان؟

ارتفعت صيحات وأطرقت وجوه.

– ولكن هذه خدعة – لقد صليناها للسلطان.

وهتف آخر بلا مبالاة: لقد صليناها بلا وضوء ولا يهمك.

1995

في المستشفى

هل للحروب نصيب في ذاكرة الطفولة كجدي أبيض لا تدرك شيئا مما جرى ولا تعرف لماذا هي هنا مربوطة الآن في قاعة طويلة ذات سرر صغيرة بيضاء بعيدا عن البيت. إن طفل الثالثة لا يحفظ في ذاكرته لفعل المدافع سوى دمدمتها التي تخلع القلب من الجذور.

هتفت باكية:

- دميتي، دميتي.

ركضت الأم وهي تشرق بابتسامة باكية:

- ها هي يا حبيبتي. لقد جئتك بواحدة أجمل.

تناولت الطفلة الدمية الجديدة. كانت الدمية بذراع واحدة، والطفلة بذراع واحدة أيضاً.

لا تطفئ الغضب.

“إلى من وضعوا أقدامهم على الطريق. إلى رجال العاصفة”.

نبوخذ آخر، ثم تمتصكم. وأخيرا نيويورك من جديد.

استعذبها كمال من جديد ولم يؤطرها بالحذر، فالحديث اليوم لا يخاف تهمة السياسة.

– لم تعد سياسة: إنها حياة أو لا حياة.

ومحمود غيبته قبور الأسلاك، محمود ذو الرجولة الكثة الذي كان يهدر:

- لا تشتموا أعداءكم، بل اقهروهم.

على الدرب الذي رسمته مقلتاك يا محمود لا تزال الأصداء مرنة.

في السابق كانت اللحية البيضاء تجبر كمالا على التسكع على الشواطئ الآمنة:

- لتجر الأحداث بغيره.

ولكن للعملة وجهها الآخر. فأخيرا قد أصبحت ضيعة الشيخ منتجعا لهم.

- آه جراد. قضموا كل شيء فيها.

قالها الشيخ بمرارة ثم شتم بكل لغة. وعندما اشتدت نوبة غضبه حاول أن يجر عمود الخيمة.

- (ليقتل وليأت من بعده الطوفان).

لكن صوت أم كمال الحزين لسعه فانحسر مد انفعالاته

- ليبكي.

- أبوه يبكي.

كانت المسائل تبدو غاية في التعقيد على عقله البكر:

- أن يبكي الرجال فهذه النهاية.

- قمة العجب.

وعندما كانت العائلة في العراء كان بكل بساطة يراهم يعبثون.

ألغت مدافعهم في لحظة من جنون سنين الجهد.

- ثم داسوا العرق.

لعن كمال بصوت مسموع:

- أهناك أشرف من عرق المتعبين. ثم تدعون التحضر يا أوغاد؟


لوحة: فائق حسن

في الظلمة لكزه صوت رفيقه:

- سمعتك تشتم – لاتطفئ الغضب بالشتيمة.

- همس:

- دعني يا رفيق القضية فهذا الفيض.

- واستمر سارحا بذكرياته القاسية التي لا تنسى.

- احترق الزيتون وتاهت البشرية مفتشة عن وجه آخر لها. لقد عفرها السخام. ساعتها دارت الدنيا سريعة في عينيه:

- إذن، هكذا أرادوا: تنتهي الحياة بمثل هذا السخف.

لم يكتشف الشيخ غلطته إلا يوم غزتهم العاصفة الهوجاء، وكمال لا زال يذكر بريق عينيه وهما تعطيان الأمر:

- ها، لقد وصلت العظم.

- غفر الله لك أيها الشيخ ، لقد جاءت الإشارة متأخرة بعض الشيء.

كان كمال يستحضر في مخيلته صور أبيه كما لو أنها تعرض على الشاشة. في المخيم يوما هز صوت متخاذل ودرس بأن بيان الحاكم العسكري قد أوعد بأنهم سيعوضون ما أكلته الحرب، وهو لا يزال يذكر ثورة الشيخ به:

- ماذا، تعويض؟ وهل تكفي الدنيا كلها عوضا؟

- استعد ، سيأكلون لحمك بعد أن نتفوا الريش، أنت لم تخبرهم.

لم يأبه أبوه وهو في خريف العمر للإنذار، استمر يجتمع بالرجال. كان يدرك بأنهم سيعاودون، وفي كل مجلس كان يردد:

- المحاربون الطيبون لا يجهزون على الجريح، ولكن أعداءنا غير طيبين وسيجهزون.

وأحس كمال بأن شيئا داخله يسيل.

- أن تموت يا أبي شيء فظيع حقا.

ثم غرقت عيناه ففي بحيرة من الدمع، وعندها كفكف السيل، احتضن رشيشه بقوة وحدق. كانت قبة السماء بفسحتها ترسل حزمها لتلفه. هتف:

- أي، يا سماء بلادي، لن أسمح بأن تلطخ زرقتك أجنحة الغربان.

كانت سحب من تأنيب تغزو ذهنه، فيبعدها وفاء.

- آه يا أبي لو لم تحذرني: لا تشترك.

- تعال أبصرهم ، ليسوا صبياناً يا أبي وليست فورة شباب، ولكنها حياة أو لا حياة. التنازلات.. ستجري التنازلات والقضية لازالت حبرا في صحائف ناس لا يعنيهم منها سوى الثرثرة على الموائد.

صرخ كمال في سره: استفيقي يا نعاج وإلا فليستأسد الفار ولترطن الكوميونات، فإني لا أبصر جنودهم.

لعن تكتيك الحرب الحديثة وهي تصرع رجولة المتحاربين . قبل أن يرحل محمود حدثه بصوت شربته نفسه كالإسفنجة – قال:

- هل سمعت يا كمال، هناك في فيتنام تروى عن أسير وقع في أيدي الأميركان – قصة طريفة. قال لهم الأسير:

- أيها اليانكيون أحرقوا ( فانتونكم) وسنحرق (ميغنا)

- ولنحطم آلة الحرب ولنصطرع كأجدادنا باليدين، وعندما تلتصق منا الصدور ستحسون من هو الأقوى

وعندما قالوا له: إنك قصير ضعيف فكيف تقوى على (جون) المفتول؟ قال لهم:

- إن خفقة صدري ستعيد لهذا (الجون) إنسانيته.

ود كمال ساعتها لو تحققت النبوءة ، إذن لأراهم لماذا يموت الرجال.

كان فرح يغزوه وهو يحس بأن الحياة قد بدأت تحتضنه بعد أن كانت أبعادها لا تحده.

كان ضائعا تافها كفراغ جندي الصيف وسط موجة النصح إثر السلامة، ولكن يوم يلتفت المرء فيجد أن كل ما يملك قد شوهته اليد الهمجية ، أيّ قيمة للحياة تبقى والأشياء العزيزة تحترق بمثل هذه السهولة؟

وعندها نادته الأرض التي تضاجعها عنوة أقدام الغرباء، وابتدأ الاحتدام معهم طفوليا – كانوا يتسترون بالظلمة ويصرخون:

- يا أبناء مادلي.

ويفتح المدفع الرشاش المنتشي بالنصر فمه الكريه، إذ أن أعصابه المهزوزة لا تحتمل حتى هذر الأطفال.

وفي يوم كان ضباب الغضب الذي يجتاح كمالا لا يمكنه من الإبصار بوضوح. وقف في طريق ضابطهم وصرخ ملء فمه:

- نبوخذ آخر. ثم اختفى.

كان محمود هو من أفهمه أن ذلك انتقام مثلوم لا يليق بالرجال. ويومها كانت نذر العاصفة تلوح في الأفق، فعانقها كمال. حمل رشيشه ودخل الأسلاك الشائكة ليثير الرماد في عيون الغزاة.

ومعه عرف الشعب طريقه.

1968

نود الصيف

نزل من السيارة متعبا بعد ساعات سفر طويلة. كان وجهه أغبر وقد استطالت لحيته.

كانت قمصلته متهدلة مفككة الأزرار وحقيبته ينفخ بطنها عن ملابس غاية في الوساخة، وكانت سيور حذائه الضخم محلولة وهو يخطو به بتثاقل على رصيف الشارع.

فكر بتقزز وهو يحاول أن يبعد نظره عن الأوساخ البيضاء التي تعلق بحذائه.

كان أكيدا من أنها ليست أوساخا عادية بل أمخاخ بشرية.

نعم لقد داس خلال تلك المسافات على الكثير من الرؤوس الآدمية.

حث خطاه لكي يصل منزله فيطهر حذاءه لتتطهر روحه.

لم يبق في جيبه الكثير ليكتري سيارة بعد أن سلبه سواق الليل معظم ما عنده.

راح يركض خلف حافلات نقل الركاب والسيارات الأهلية بلا جدوى.

- ما هذا المسخ؟ هتف واحد من الاثنين الحسني الهندام اللذين يتعقباه.

- أمسكا به وراحا يمطرانه بالتقريع، والتمّ حوله الناس فوجد نفسه محاصرا مذلا بين تلك العيون الغاضب والمشفق منها.

تقدمت عجوزان من الضجة – سالت إحداهما:

- لماذا تمسكان المتعب وتؤخرانه عن أهله؟

أجابها أحد المتأنقين:

- اما ترين كيف يهمل هندامه وقيافته؟

هتفت العجوز الأخرى:

- إذن فأنت تمسك به يا ابن الـ… لهذا.

- نحن ندري به من أين جاء، وندري من أيّ ماخور قدمتما أنتما الاثنان، هاكما.

هجمت العجوزان على المتأنقين بضراوة وساعدهما الأولاد الملثمون – وراحتا تمزقان ثياب المتأنقين

- ثم هتفتا:

- الآن صار هندامه أجمل منكما أيها المتسكعان هنا بلا جدوى.

1992

الأرقام السرية

حدس أنها السفرة الأخيرة له – قرأ ذلك في تربص ذلك الشبح الليلي خلف العطفة.

جلس وانتصاف الليل فحرر وصيته. وكشف عن أسرار صغيرة له وأرشد فيها أهله إلى دخل متواضع يتركه لهم في مكان ما في الخزنة الحديدية.

ثم سجل ماله وما عليه وكتب رقم خزانته السري ليعلم عائلته لأول مرة بهذا الرقم.

لا حق له أن يبقي شيئا غامضا بعد الآن.

بعد أن اطمأن على أن أولاده لن يتعبوا من بعده، أودع دفتر مذكراته الخزانة ونام.

أيقظوه سحرا واقتادوه، ولم يعد.

1991

الأم


تفصيل من تخطيط: كاظم حيدر

قرت عينا الأم فالليلة ليلة عيد وها قد التقى ولداها في إجازتيهما بعد زمن طويل.

الأول كان ضجرا، لم يخفف الجو العائلي عن روحه قساوة الحرب.

ردد مغمغما مع نفسه:

- لماذا يا إلهي؟ لم يعد لها معنى.

سمعه أخوه والذي ما زال يخدم في وحدة بعيدة عن خطوط التماس.

- لا بل صار لها معنى الآن.

وراحا يتناقشان بأفكار لا تعرفها عن الحروب والوطن وعن معنى وفلسفة الوجود وعن تجار الحروب. ثم احتدم نقاشهما وعلا، صار صراخا، تشاتما لأول مرة ثم اشتبكا في عراك وركض كل إلى سلاحه.

تدخل الأب والأم والعائلة ثم الجيران ففكوا الاشتباك وإلا كادا يقتلان بعضهما بعضا.

- هتفت الأم: حمدا لله، لقد كانت ساعة شيطان وعدّت.

بعد أيام رجعا إلى وحدتيهما – قهقها طويلا وهما يودعان بعضهما بعضا ويتذكران سخف عراكهما في موقف كهذا.

- هتفت الأم ثانية: حمدا لله – كانت ساعة شيطان وعدت. بعد أسبوع حملوا لها جثمان الأول وفي الأسبوع الثاني جاؤوها بالثاني.

1990

الجريح

“المحاربون الطيبون لا يجهزون على الجريح لكن أعداءنا غير طيبين”.

هدير المعركة لايزال يصطخب في جسمه.

حاول أن يقوم لكن شيئا في جسمه منعه وجرب أن يفتح عينيه ليحدد مكانه لكنه تخيل ضبابا حالكا يحجب عنه الرؤية وأن قبضتين قاسيتين تضغطان على أجفانه بعنف وتخيل نفسه في دولاب عيد سريع. ومن الممكن أن ما أحسه من دوار قليل في أول الأمر أعاده إلى أيام طفولته عندما لم تكن حينئذ مسؤولية وحين لم تعن كلمة الكفاح في ذهنه الصغير سوى خناقه بسيطة بينه وبين ابن جارهم.

لكن الدولاب أخذ يستدير بسرعة جنونية حتى خيالاته أخذت تتراقص أمامه بدوران عنيف، وحاول أن ينهض من جديد، لكن ذلك الشيء منعه، أوه (صرخ بألم ممض ونبهه هذا الألم إلى غريزة الاستطلاع عنه).

لم يستدم بحثه سوى ثوان، كان ذلك السائل القاني اللزج قد غطى معظم جسمه قرب الصدر وحول بطنه وحوضه وفاضت كمية منه فصبغت مضجعه.

حاول أن يتذكر موقفه، حاول أن يحس، أنّى للجريح أن يحس سوى ألمه.

واندفع تحدوه غريزة البقاء بعيدا عن الجبهة.

كانت أصوات الانفجارات وتقدم العربات وأزيز الطائرات تختلط كلها مع أنين روحه المتعبة في صخب غريب.

وقليلا قليلا تطاوعت عيناه مع غريزة حبه للبقاء. أبصر الحرائق والدخان وتذكر جزءا من ساعاته وأدرك أنه لم يعد بإمكانه أن يكون محاربا فقد سقط وجرح. عليه أن يهرب من رحى المعركة ويمم وجهه شطر الغرب.

كانت الشمس لا تزال تهب الضياء رغم أنها أذنت بالأفؤل ولأول مرة في عمره كره الشمس وأدرك أنها تفضحه للأعداء.

حاول أن يوطن نفسه على أن أعداءه لن يتبعوه. فما عاد ذا خطر. إنه جريح وما يملك الجريح من أهمية أكثر من أن تبصق فتوقه دما، أكثر من أن يضيف إلى أنات المتعبين أنة؟

وتذكر قصة كان جده قد سردها على مسامعه في الصغر. ومرت الذكريات كشريط سينمائي امامه.

كان الجد يروي لأحفاده بخيلاء ساذجة جزءا من ذكرياته مع أبناء قبيلته فقد طاردوا عصابة لصوص كانت قد أشاعت النهب في بيادرهم.

وكان صوت الجد قد تهدج بغضب وهو يقول:

لقد حطموا أعصابنا كثيرا أولئك الملاعين. إن من مرارة الحيف أن ترى رغيفك يسرق دون أن تهب لتسترده من سالبه.

لقد تتبعنا الفارين حتى التلال البعيدة وأجهزنا عليهم، وفتشنا وراءهم كل حجر حتى قبضنا على رئيسهم.

وتذكر هنا حماس الصغار المتحلقين لسماع بقية القصة من الجد.

وصرخ مستعجلا جده وقتها: وهل أجهزتم على هذا الوغد؟

لكن نبرة جده قد اكتست بمسحة حزن وتقريع وهو يقول:

لقد كان جريحا يا بني والمحاربون لا يقتلون الجريح.

هنا تبدل كل حقده شفقة وأكبر عمل جده. أحسه أثمن درس تعلمه.

واليوم وفي موقفه حاول أن يوطن نفسه على أن أعداءه لن يمسوه بسوء.

1964

الباصقون صورهم

تتجمع الأشياء ثم تبصق في وجهك دفعة واحدة، وتحس العفونة دون أن تمسح فالتكشيرة تلتصق بكل ما ألفت، وأبصر التقويم:

- ماذا؟ سبعة في الشهر، لا تزال في أولها. طيط.

ومن جديد شرع يراجع قائمة الحساب:

-الحاج عبد الرسول تعرف من رحلته أنك في الساعة الواحدة من يوم 30 في الشهر. لو أصلح هذا القفص لهانت، لكن ماسورة الأنابيب لا تزال تنز المياه وأنت مطالب بأن تدفع للمصلحة والمجاري ثمن تقصير الغير.

تحت نافذته كانت الأحداث تجري بصخبها اللامبالي؛

الأضواء والإعلانات (بطر، أحسن فيلم أحسن خراء)

الحياة تبدو وكأنها شيء منفصل له أبعاد لا تحده قد ودعها من زمان، والتناغم مات منذ أعوام، وهو مشدود إلى السلسلة في سرداب موحل لزج.

كانت الأضواء تملأ حياته فتنفخ صدره بزهو القادرين لكنه اليوم يستند بعظمة فارغة كشجرة هرمة يتآكل وسطها العث.

والصورة التي تضمها الاثنين تختفي عن إطارها وتبدل خلق جديد: الجبين الواسع يتراجع عنه تاج الفضة والعيون الغائرة التي تكاد تبكي وهي تحكي رحلة السندباد المضاع وهي الأخرى تتأوه في السرير (انبحي فالجيب أقسى من القلب يا أمينة).

أثناء الليالي كانت تلتصق به شبقة كقرادة، وللمرة الثامنة يتكور بطنها كقربة رخية الجلد.

قالت له: أحس بالطيف أن حملي ثقيل هذه المرة.

دار عنها الوجه (في المرة الأولى ترقص للنبأ وبتتابع المواسم تجبرك الحياة أن تثقل قدميك رويدا أثناء الرقص، فالموسيقى بعد أن تحلق بك عاليا تهبط بك وئيدا إلى الوحل.

تلتصق الأشياء بلزوجة متعبة وتهتف بالسماء أن تكف لعبتها عنك لكن التكور الثامن يهزأ بضراعتك.

أمس ألقت بكل ثقل أناتها على هامته. انتحبت كطفل مدلل ولكنها صادقة.

حاول أن يخفف عن نفسه بالدموع ولكنه لا يملك حتى هذه القدرة.

صرخت: لطيف، اشتريني، راح أموت.

وعصرت هامتك، تأخرت عن الدوام نصف ساعة.

وعندما هرعت إلى المدرسة سلقتك نظراته.

نظر في ساعته، وتهكم المدير يكمل معك لعبة الحياة السمجة، بالكرش ونبي التجارب وباللغة الناصعة البياض التي تخلو من العقوبات (الفراغ لا يسد إلا بالنفخة ككرة ابنك المطاطية).

وأبشع من كل ذلك تطالبك الحياة بأن تستمرئ تهكمه، وتلتفت إليها (انبحي يا أمينة فانا لا أقدر على التأخر اليوم) أمراض الترف ليست من حقنا.

- نحن: دم متساقط ، الجنين يأكل أحشاءك، ما ضر، كلنا ولدنا بالألم وحياتنا ابتدأت بصرخة. اصبري.

وتتأوه أمينة بعنف: خذني إلى الطبيب.

وتصرخ بها: وما الذي يفعله الطبيب؟

وعندما تلتمع عيناها ببلورات منفرطة يلسعك صمتها الحزين، هي لا تدري أن الاطباء بصقوا مبادئهم في أروقة الكليات، عاصروا الواقع بعد أن رأوا أن العربة تسوقها الأوراق الزرقاء: (اشتر لها هذا الدواء، وإذا لم تتحسن فعودوا مرة أخرى).

- ولكنك يا دكتور قلت ذلك البارحة وقبل وقبل وقبل.

وتعرفها بالطيف خدعة تتآمر مع الأحداث على جيبك.

أمس فقط يا للغباء أحسست بأن الآخرين كانوا قد طووا الأشرعة قبلك فاللآلئ، وسط البحار، لم تعد تشغلهم. وجدوا أن الربح كل الربح في بيع الأصداف. لم يعد السراق يستترون في سطوهم بالليالي.

- يا غريرة فلا تصلبي صدرك، ويبدو أن القاضي كان يعرفها مسرحية فليس هناك ما هو حقيقي بالعقد سوى ما قبضه وهو يبارك (اللهم ارزقها ذرية صالحة).

ولكن لم؟ لتزيد السراق أم لتزيد المعذبين؟

الصفقة خاسرة لا تربح منها السماء في كلتا الحالتين.

وهكذا تتجمع الأشياء ثم تبصق في وجه لطيف دفعة واحدة.

- بابا، بابا. وينبهك سمير من غفوتك.

- ها، ماذا؟

- نريد رؤية مدينة الألعاب، يقولون إنها حلوة، أريد ركوب الطبق الطائر.

- وتجيب ككل مرة: رأس الشهر، ويخنقك الكذب ولكنك مجبر.

ويجرجر سمير أذيال خيبته، ولكن العينين الصغيرتين لا تزالان تلتصقان بوجهك تلاحقك حتى بالصف.

وينقسم الطلبة فريقين.

من رأى مدينة الألعاب فليصفها.

وترتفع أكف بالعلة: أستاذ، أستاذ، أنا.

وتلتصق عيون بالرحلات وهي تخفي خيبة سمير، ثم تطلق العنان فيصف من شاهدها أو فليكذب من لم يشاهد. ويحتدم نقاش تتابعه بخبث لذيذ:

- والله ليس فيها قرود ترقص.

- فيها، وأنا شاهدتها.

- ليس فيها. فيها.

ويتوقف النزاع.

وفي الفرص تطالعك وعود “لانتخابات”. أمام الزملاء، تتعلق عيونك برجاء مهزوز.

وتتراكم أشياؤك دفعة واحدة ، ثم تبصق في وجهك، وتنتظر أن تمسح (النقابة) عنك عفونة البصقات.

1968

عقدة غوردوس

المزار

” إذا ضاقت بكم الصدور فزوروا القبور” فكر بهذه الحكمة وهو يشد حصانه (الرهوان) إلى العربة.

عجب لناس يجعلون من قبورهم منتزهات.

ومع هذا فحين اعتلى العربة وساق الحصان لم يتجه صوب العمل في سوق البلدة بل اتجه نحو القرية حيث المزار.

لقد حاول أن يعقد هدنة مع نفسه شهورا فلم يفلح منذ يوم ناشه سوط “الرائد” فوجد وكأنه مسؤول عن الظلم والطغيان في العالم كله؟

لقد عاش (شياع الأقرعي) ولم يعشق سوى امرأة واحدة (خسرها في أول نزال)، وما اتخذ سوى عربة واحدة، وما صاحب غير حصان واحد، وما عرف غير قبة واحدة.

حين وصل القبة الزرقاء أحس ببعض من عزاء وهو يستعيد طفولته.

ردد مع نفسه: إذا ضاقت بكم الصدور فزوروا.. لم يكمل. أحس بأن سياطا تلدغ روحه وهو يطلق على “خطوة” الدرويش الشيخ علي قبرا.

ألم يعد هناك أمل في نفسه في عودة الشيخ علي بعد أن غاب؟

منذ طفولة شياع الأقرعي وروحه تعيش قصة هذه الأسطورة أو الحقيقة (لم يصل إلى قناعة هنا بعد).

عاشت منطقته قصة درويش جليل كان كما تصفه الروايات لا يتخذ سوى الصوف ملبسا. يلبس عباءات صوف أثناء زمهرير الشتاء. يدب على الأرض كروح وسعيدون أولئك الذين ينزل في داراتهم ضيفا لسويعات لا يدري أحد متى ينزل ومتى يبارح. لا يترك خلفه سوى طيب ظل لنور صغير كنور شمعة، إلا أن كل ظلام الدنيا لا يستطيع إطفاءه في روح شياع الأقرعي.

في البداية كانت خطوة الدرويش علي تشكل منتجعا لرحلات صباه وعند سدرته كانت منتهى مغامراته وطموحاته. ظلال السدرة الوارف ونبقها يجد فيه طعم الجنة.

حين يخلو المزار من ضجة الآخرين يدلف أحيانا داخل المزار.

المزار لا يضم ضريحا كما في أضرحة بقية الأولياء فعند هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون مزار الدرويش علي رمزا للموت بل رمزا للرجاء.

كان المزار باحة فارغة إلا من دك طينة يريح عليها المتعبون ظهورهم وعند زاوية الحضرة ترتفع رفوف تضم بعض كتب ورقى وطلاسم لم يستطع أن يحل شياع الكثير من رموزها في طفولته وإن كان يستمتع بالتطلع فيها دوما علّه يجد بشرى بثوب جديد للعيد أو بمهر.

أما حين كبر فراح يجاهد لدى كل زيارة إلى الخطوة أن يتأكد فقط فيما إذا ظلت تلك الكتب والرقم محفوظة أم ناشتها يد الزمن. لكنه يجدها دوما باقية وكأنها يحفظها ضمير جمعي لا يمكن تجسيده إلا بظواهر هذه الأشياء.

عجب وحفظ للمزار قدسية في ذاته الطفولية وحين كان يرفع كفه الساذجة دعاء بثوب عيد جديد ويصادف أن يحصل على هذا الثوب في اليوم التالي.

كان يغمره فرح إلا أنه آمن أن لهذا المزار كرامات يوم دعا ان يهبه الدرويش علي مهرا جميلا.

الحصان


تفصيل من تخطيط: كاظم حيدر

كان يوما يقلّب الكتب المطلسمة فغرق في سمفونية الصمت وتاه فكره في حل متاهات هذه الطلاسم والإشارات وما أحس إلا شيئا بدأ يلحس أذنيه.

سكن أول الأمر ظانا بأن كذب الحواس من يلعب معه هذه اللعبة لكن ذلك الإحساس عاود ثانية. استدار ظانا أن واحدا من لداته يلعب معه الاستغماية لكنه فوجئ بمهر جميل يقف خلفه لاحسا أذنيه. خفق قلبه فرحا وتعلق في عنق المهر الجميل الذي شب معه وكانه يشاركه لذة هذا اللقاء.

كبر وكبر معه مهره الجميل أطعمه العشب الندي والخزامى وأوراق الحندقوق.

دربه على الوثب والركض الرهو وحين شب المهر رهوانا شارك به في السباقات وكسب العديد منها.

طارت شهرة رهوانه حتى امتزج شياع والرهوان تعبا بتعب وصيتا بصيت.

لا يأكل إلا حين يأكل رهوانه. حين يمرض يمرض وحين يصح يصح.

كانت أمه قبل موتها تردد: أيكما الحصان وأيكما الإنسان؟ لم أعد أميز.

لقد تعلمت من حصانك الصهيل وتعلم منك الخضوع.

دار بخلده أن يظل رفيق السهوب والبراري معتليا صهوة رهوانه.

طائرا على “براقه” إلى سماوات الفرح بعيدا عن سخام البلدة وهذيانها الأخرس مستمتعا بلذة الانتصار الأبدي.

هناك حيث يقوده رهوانه الرفيق إلى سدرة المنتهى الحقيقية حيث يريح قفاه متطلعا إلى سماء لا يلطخ صفاءها بشاعة سحب. وإلى حيث يهرب إلى داخل روحه كي يتصالح معها إذ حين يمتلكها يجد وكأنه قد ملك العالم كله.

لم يعترف أن صوت رهوانه يمكن أن تلجمه أصوات المدينة أو أن تقيد انطلاقاته حبال إلا يوم وجد أن الحياة تضطره إلى منطقتها.

يومها أحس بنظرات الرهوان تلسعه حين وجد هذا أن حبالا بدأت تقيده.

أدار شياع الوجه عنه وهو يربطه إلى عربة الحمل. قال في نفسه من اليوم لم تعد ذلك الرهوان الذي عشقته السهب. لقد صرت مجرد كديش يشارك كدشان المدينة الأخرى مشدودا إلى ناعورة الحياة اليومية.

وفعلا فقد بدأ الحصان يفقد صهيله ويخف وثبه. كان مضطرا أن يلجم أذنيه كيلا تجفله زمورات العربات والأصوات الناشزة وأن يحجب بصره بغمامة إشفاقا عليه من بعد المسافة وثقل الحمل.

لقد كابد الحصان في حياته الجديدة وهو يجد نفسه وسط قفص كبير بعيدا عن نداء الأحراش واتساعها اللامحدود.

لقد بدأ الهرم يدب في قوائمه وفقد صهيله الفرح وحمحمته الغضبى ورفساته القوية. من كان يصفق ويلهث هتافا لفوزه بدأ يسخر من هزاله ويحتقر ضعفه وتردده.

في فترات متباعدة كانت الحياة قد تمنحهما فرصة للهرب إلى حيث المزار وهناك يطلق شياع الحصان من أربطته ويسرّحه فيثب هذا راكضا إلى حيث العشب الندي وأزهار الخزامى والحندقوق متذكرا في طعمها أيام الرهو الأولى وذكريات الحرية والانتصارات.

أما شياع فينشغل مع درويشه الطيفى منقبا في رقمه وكتبه الصفراء عن يقين ضائع. وقد يسمع صوته واضحا وكأنه يجيب عن سؤال الطيف:

- ما الذي أشغلك عني كل ذاك الوقت؟

- العيش، أملأ بطني تجدني قريبا منك أبدا.

الرائد

كانت بداية الصلة بين شياع الأقرعي والرائد ضربة سوط.

كان شياع من المؤمنين كثيرا بالحكم التي قرأها في ألواح الدرويش علي.

أفكار لم تعرف يوما للقيد طعما. خالصة إلا من نقاء البراءة الأولى وبكارة لم تفتضها عفة القناعات المهزوزة. قناعات الخوف.

ذكر حكاية السلطان الذي قال مجيبا على سؤال وجهه لندمائه فلم يجيبوا وألجموا:

قال: سألت من أنعم الناس عيشا فلم أظفر بجواب؟

إنني أرى أن أنعمهم عيشا بدوي ضرب له خيمة بعيدا عن الحواضر لا نعرفه ولا يعرفنا.

كانت البلدة قد امتلأت بحكايات عن قسوة الرائد الجديد وصرامته تلك الحكايات لم ترهب شياعا، فكر في نفسه: ولماذا أرهب وحكمة البداوة معي؟ لماذا أرهب شخصا لا أعرفه ولايعرفني؟ صاح به أحدهم يوما:

- لكنك لست عند خيمة في صحراء.

عصر كل يوم يختال لا رائد برتبته. يتفنن في اختيار زوايا وقوفه عند تقاطعات الطرق أو قرب مدارس الفتيات ذوات الإثني عشر ربيعا .

- كان لا يعجبه من الأدب سوى الجانب المكشوف من رواية (لوليتا) وقد أدمن قراءتها.

صحيح أن الرجل حذر من أن يلعب بفكر مراهقة، إلا أنه واثق أن أناقة ملبسه ووسامة شكله محط نظر المعجبات. يكفيه أن يشرن إليه هاتفات:

- ها هو الرائد الجديد، ما أجمله وما أقواه.

يوما كان ممتلئا بهذه الأحاسيس يقف وقفة الصقر الجسور يملؤه الزهو كونه مرهوبا بمقدار ما هو مغر حين مرت به عربة شياع الأقرعي.

كان الحصان عائدا من نزهة المزار ما زال يملأ منخريه أريج أزهار الخزامى والحندقوق وتقوي روحه فسحة السهوب يتنفس هواء الحرية اللامحدود ويسمع نداء الأصوات الخفية في الفضاء فيكاد يطير. وكانت العربة تتقصف رعودا تحت رهوه ووثباته الجسور.

حين مرت العربة بجعجعتها العجول أمام وقفة الرائد لم ينتبه الحصان إلى ما أثاره من أتربة بوجه الرائد وقد عفرت له تاجه بالدقيق.

كلاهما حقه بالزهو. ليس هناك من أحد خير من أحد.

صاح الرائد وبصوت يختنق بالأتربة: قف يا حمار.

لم يوقف شياع العربة نزولا عند أمر، رغبة أن يصحح معلومات، الرائد ظانا أن الرائد قد شتم الحصان حين تصوره حمارا وقبل أن يفتح فاه بكلمة تقدم الرائد مسرعا فبصق بوجه شياع.

هتف شياع بغضب وهو يمسك بالرائد من ياقة قمصلته: لماذا سيدي؟

إن إبريق ماء يكفي لغسل وجهك من تراب العربة لكن مياه الدنيا كلها لا تمسح هذه البصقة من على وجهي.

اعتبر الرائد حكمة هذا (الحوذي) التي تعلمها من تعاليم الدرويش علي تحديا له فسحب كرباجه وساط به الحصان سوطا موجعا فهب الحصان كالملسوع.

أحس شياع وكان السوط قد نفذ في شغاف قلبه فهتف باحتجاج: آسفا. أأنت رائد وأمثالك من الرواد يصنعون الأمجاد لشعوبهم فيم تتسكع أنت مطاردا البنات.

حاول الرائد أن يتقدم من شياع لكنه أدرك من شرر عينيه أن هذا الحوذي لا يتورع عن الاشتباك معه أمام الناس بعراك فانسحب ماسا ملابسه مكتفيا بالأمر بحبس شياع.

حين خرج شياع بعد أيام من الحبس أحس وكأنه مسؤول عن كمية الظلم في هذا العالم طارحا عنه الحكمة البدوية من وقتها لم يعد ليدري لمَ لمْ يعد راضيا عن نفسه. أم لم تعد نفسه راضية عنه.

الزلزال

حين وصل المزار أوقف العربة تحت شجرة النبق ليريح (عبيان) من لفح الشمس. رفس الحصان عدة رفسات منبها شياعا كي يحل وثاقه. لكن شياع الأقرعي كان يشغله حزن عميق.

لم يلتفت كون رهوانه يتوق إلى نزهته المعتادة بين السهوب غير عارف بإن مياه الطوفان تغمر السهوب منذ فترة.

لم يعد يحمي المزار المتربع فوق نجد واطئ الارتفاع سوى سدة الطريق الترابية التي مرت عليها العربة قبل حين من الجانب الشرقي وسدة من الجانب الغربي وعدا هاتين فلم يبق من الدنيا المحيطة بهما وبالدرويش علي سوى سماء وماء. لقد أغارت المياه فكسبت جولتها في فيض لم تشهده المنطقة جيلا مثيلا منذ حقب. وما زال تطامنها يهدد.

دخل شياع قبة المزار. لقد غاب عن وجه الدرويش فترة وها هو يعود إليه مستغفرا أم لائما لا يدري: لقد طفح كيل الشر.

تحسس أثر البصقة على وجهه لا أحد عاد تحز فيه تلك البصقة.

العالم لا يبالي به. يحتفل. يصفق. يضحك وهو وحده تكبله كوابيس الذل وتقيده انتظارات القطارات التي لن تمر بمحطته المهجورة.

لقد ضاعت هتافات مهرجانات الرهوان القديمة. ماتت دايات الفرح وامتدت مشاتل الحزن. لم يعد الرهوان ذاك الرهوان. بل مجرد كديش دجنته الاثقال.

أصمته نداءات المدن وزادت من حذره مزالق الطرق.

لماذا تكرر الحياة دورتها بهذا الشكل: موت، ولادة، موت؟

اتجه نحو كتب الدرويش علي وطلاسمه محاولا أن يجد فيها من خلال نبوءات الدرويش المغلقة مفاتيح القناعات وتبدل المبادئ كما تبدل القمصان؟

لماذا كانوا يصفقون في مهرجانات رهوانه حتى تلتهب الأكف وتجحظ العيون في محاجرها وتبح الحناجر؟ ولماذا الآن ينظرون إلى رهوانه فلا يجدون فيه سوى كديش هرم لا يستحق سوى الكراهية أو الاحتقار أو ربما قليلا من الإشفاق.

أين يا شيخ علي يكمن العيب أفيهم أم في الرهوان؟

حاصره الصمت المطبق داخل قبته ورجا فعلا أن ينهض الشيخ علي من غيبته فتحدث المعجزة.

هتف صائحا خارقا هذا الصمت: لا تذلني بكبريائك واكشف لي ظهورك أنا بك فكيف فكيف لا أراك؟

أنا لن أرى غيرك، فلم لا أراك؟

ما نفعي برقى وطلاسم وحروف لا تكشف لي الحجب ولا ترفع عن عيني رهواني الأستار. لم تركتني وسط هذا التيه؟

ألواح لا أقرا فيها سوى قصص أم أساطير عن مدن لا مرئية تخرج من ليل الصحارى وعن سقوف لا تحملها عمد وعن أشجار تثمر فاكهة لا تلمس وعن حليب لا تنتجه أبقار وعسل من غير نحل وعن سكارى بغير خمور وعن راحة لا يسبقها تعب وعن أجواء لا قر فيها ولا قيض وعن وعن.

يا شيخ، لقد وهبتني مهرا وتركت لي عذاباته كديشا.

يا شيخ، من يزيل البصقة عن ذاتي، من غيرك، من؟

تحسس جبينه وقد تفصد عرقا وانطرح على دكة الطين مسترخيا بعد صراخ روحه الأبكم.

فجأة بدا كرفسات الحصان، حوافر تكاد تنبجس تحتها المياه وقيود تصلصل وتجعجع ثم ابتدأت حمحمة مخيفة يلفظها جوف الحصان الناري.

استيقظ شياع من هدأة الكرى على جموح الحصان وعجب.

هل استجاب الدرويش لتضرعاته فأعاد لكديشه سيماوات الرهوان الممحاة وأحيا عظام الأمجاد المنسية؟

أحدثت معجزة؟

خرج ليشارك في نشوات الحصان لكنه فوجئ لقد وجد على فمه زبد الرعب بدلا من رغوات الفرح، وسيماوات الخوف بدلا من استقبالات المواسم.

أذنان منتصبتان لهدير المياه القادم مياه ربما تتضامن لتغرق حتى قبة المزار.

من بعيد كانت السيول الجديدة تقتلع الشجيرات والزروع وتدفع بصدرها الأكواخ المتداعية، سيول تتجه إلى حيث تقف قبة الدرويش الزرقاء.

هتف شياع برعب صائحا: أخرج يا درويش الآن لا تدفن نفسك في بئر غيبتك.

سيجتاح الطوفان مزارك وستخنقك مياهه الآسنة إن كادت قد كفت في ذاتك مشاعر الخشية عليّ وعلى رهواني أكفت فيك مشاعر الخشية على نفسك ومزارك؟ أطلع عليها الآن اطلع وإلا فلن يتسنى لك من بعد أن تطلع.

راح شياع يهتف كالمجنون: اطلع ، اطلع ، اطلع.

كان رفس الحصان قد بدأ يشتد وأذانه تستلم نداءات الموت المقترب.

شد نفسه والعربة بقوة فانفلت بها راكضا على درب السدة.

أيقظت جعجعة العربة شياعا من ذهوله فانطلق راكضا خلف العربة.

كانت المسافة غير قريبة مما اضطر شياع معها على الاستمرار على العدو السريع وكان قد وصل متأخرا فتعلق بخلفية العربة المندفعة وراء حصان هائج مرعوب تجره نداهات النهاية.

قبل أن يتمكن شياع من الإمساك برسن الحصان كان هذا قد قارب ثغرة السدة التي أحدثتها اندفاعة المياه المتطامنة فاندفع فيها وهبطت العربة بثقلها كله وراء غلاسة عجلاتها في أطيان حمراء بلون الدماء. رفس الحصان محاولا أن يخلص قوائمه لكن رفساته القوية كانت تعمق غوصه في الطين.

رمى شياع نفسه قريبا من رأس الحصان. نزع عنه غمامتي عينيه ورفع رأسه فوق المياه مفكرا أنها الوسيلة الوحيدة كي يبقي فيه القدرة على مقاومة الغرق.

رفس الحصان بلا جدوى محاولا أن يخلص جسده من العربة كانت السيور مشدودة بإحكام ضمن عقد لا أمل بحلها في ظروف كهذه على الأقل.

حين يئس شياع من حل العقد المستعصية عاد ليرفع رأس الحصان فوق موج المياه.

حضن رأس الحصان رغم مكابدته أن يظل طافيا فوق المياه.

فتح الحصان عينيه فالتقت عيونهما، نظرات مستنجدة: من يستنجد بمن؟

من ينقذ من؟

ومع حاجته لمن يرفعه فوق وحل الطوفان وجد وكأن حدقة الحصان الدامعة تشي بالعتاب والرجاء والتأنيب، من يؤنب من؟

لقد تعادلا كفة ولم تعد حاجة لأحد منهما أن يكيل اللوم للآخر.

لقد اشتبكا حياة وموتا، انتصارات وهزائم، آمالا وخيبات.

ولأول مرة فهم الصوت بوضوح:

أيكما الحصان وأيكما الإنسان؟ لم أعد أميز.

أحس وكان دمعة حارة قد سقطت من عين الحصان على كتفه فطفق يبكي.

لأول مرة يبكي.

1998

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.