ألمٌ لا قومَ له فجرَ ينشقُّ عنكِ

أصغيتُ لليلٍ شيخٍ، في الغسَق الواقبِ من عمر الليلِ،
يقولُ لليلٍ طفلٍ:
بعدَ قليلٍ نخلعُ عنا هذا الثوبَ،
فلا شيءَ يدومْ
وإلى أن نخلعَه سبّحْ يا ولدي
قل: سبحانَ مردّينا هذا الثوبَ الأسودَ،
ما أجملَهُ!
حتّى حين تثقّبَ،
رقّعه بنجومْ.
***
تذكرُ من أكثر من عشر سنينْ
صرتَ غريبًا في المقهى
تفتقدُ المتَقَهوينْ
تذكرُ حتّى في الحانة
صارت تخدشُ سمعكَ ثرثرةٌ لا تحترمُ الخمرةَ…
ثرثرةٌ تشبه سمسرةً،
فيها طعمٌ لدكاكينْ
فلماذا تبدو منزعجًا أكثرَ مما يلزمُ؟!
هذي أشعارٌ في الحبِّ
ولكنْ تشبه ذاك المقهى
تشبه تلك الحانةَ
ليس ضروريّاً أنْ تلقى فيها شعراءً ومُحبّينْ!
***
صرتُ زبونًا في سوق العطّارينْ
أتردّد بين الحين وبين الحينْ
ألفوا شكلي،
عينيَّ اللائبتينِ على شيءٍ ما،
يبدو أنّي لا أتذكّرُهُ…
أو لا أرغبُ في أنْ أذكرَ ما أبحثُ حقًّا عنه!
وكي لا أبدو مرتبكًا،
أطلبُ شيئًا مما لا أجدُ أمامي… شيئًا ما.
في البيت تراكم عندي ما لا أحتاج إليه
وتراكمت في ذاكرتي أسماء محلّاتٍ ودكاكينْ
ما أكثرَ ما تحتاجُ إلى أشياءٍ لا تحتاجُ إليها إنْ لم تلقَ فريدَ الدينْ!
***
بلدي حزينٌ جائعٌ يبكي
وأنا حزينٌ مثله أبكي
الحمد لكْ
فأنا بشخصي لم أجُعْ بعدُ
ووددتُ لو عندي لأعطيَ. مؤسِفٌ يا سيّدي أنْ ليس لي عِندُ
فالملكُ لكْ
والآنَ ماذا عنكْ؟
صعبٌ سؤالي لو سألتكَ: هل ترى؟
وإذا أجبتَ تُراكَ هل تحكي؟
أم أنتَ مثلي: مُطرِقٌ تبكي
وكما تراني: ها هنا تحتُ
وعلى الأعالي يُطبقُ الصمتُ
والناسُ يا للناسِ متروكين، لقمةُ عيشهمْ يغتالُها وغدُ
يبدون أوضحَ ما يكونُ،
فكيف أنت الآن في وجدانهمْ تبدو؟
***
يسألُني بيتٌ نجا خلّفه الدمارْ
مزعزَعَ الأركانِ تحتَ سقفه، ومائلَ الجدارْ:
أينَ ينام أهلُهُ؟ هل وجدوا من بعده سواهُ؟ هل يؤويهمْ؟
أقولُ: ربّما…
– وجدّهمْ من بعد ما أنهكهُ الحصارْ؟ أحفادُه الصِّغارْ؟
أقولُ: دعكَ منهمُ!
يكفيكَ ما فيكَ، فأنتَ مُتعَبٌ، ولم يعُد لديكَ ما تُعطيهمْ
– أعرف يا صديقي…
لكنّني أريدُ أنْ أعرف كيف حالُهمْ… وكيف حالي عندَهمْ
من قبل أن أنهارْ
أوجعني قولكَ: إنّي، لم يعد لديَّ ما أعطيهمْ!
أكثر من ذلكَ… لا أسألُ كي أُسكنهَمْ فيّ…
أريد بعدما تعبتُ في غيابهمْ أن يُسكنوني فيهمْ.
***
كان خيارًا صعبًا أن أصطفَّ إلى جانب هذا القاتلِ أو ذاك القاتل
ثمّة ما يمتحنُ القلبَ أمامَ حبيبتهِ،
والكلمات أمام الكلمات الأولى امتُحنتْ في البدء، وقالتْ: آمينْ
ثمّة ما يُخجلُ إنْ دخل الحزنُ بيوتَ الناسِ، وألفى قلبك غير حزينْ
الأشرف للشاعر بين خيارين: القاتلِ والقاتلِ أنْ يختارَ المقتولين.
***
في الجنّة من هم أجملُ منها
هذا ما رأتْ العينان، وأخبرتُ الربَّ به:
تعرفُ أنّي أؤمنُ، لكن من بضع سنينْ
يملؤني ألمٌ لا قومَ له أو طائفة أو دينْ
لا أرغبُ في الجنّةِ
لا أطلبُ غفراناً
إلّا من أطفالٍ مقصوفينَ بغازالسارينْ؟!
***
لا لم تعُدْ تأتي الأماكنُ كي تزورَكَ
وحدَه الرسّامُ يفهمُ شكلَ شخصِكَ كيف صرتا
مدُنٌ، قُرىً، دورٌ،
شوارعُ في ثيابكَ ناظراتٌ من شبابيك العيون إذا نظرتا
أنا في انتظارِك
أكاد أرى الفجرَ ينشقُّ عنكِ
وينثر صبحَ لآلىء بيضاءَ جمّعها من محارِكْ
حجابُكِ هذا الوشاحُ من النور ، حين يشفُّ أراكِ
وأشعرُ أني كما أنا
لكنّني الآنَ أمسحُ بالراحتين غبارَ دمارِك
وأمسحُ وجهي.. مباركةٌ أنتِ
مازالَ من ياسمين الصباحِ صباحٌ
على باب دارِكْ
***
حلُمي يا سوريّا
بلدٌ تُتداولُ فيه السلطةُ سلميّا
بلدٌ أعلى فيه الإنسانُ من العرقِ، الدينِ، الطائفةِ، الحزبِ…
فأغلى ما يمكن أن ينجزَه إنسانٌ يا والدتي
هو أن يصبحَ إنسانيّا
حُلمي أن يتصالحَ فيكِ الناسُ لأجلِ الناسِ
الأبديّانِ: حياةٌ، موتٌ
بينهما لا أُؤمنُ إلّا بالحبِّ
إذا حاولَ أيضاً أن يصبحَ أبديّا
حين أموتُ غداً أرجوكمْ الّا يقتربَ الكاهنُ من جثماني
أرجوكمْ أن لا ينعاني أحدٌ رسميّا
أذكرُ أنّي إنسان جئتُ
وما أجملَ أن أمضيَ إنساناً…
إنساناً عاديا
***
لا… ليس في عينيَّ شيء
هذي غيوم، والخريفُ كما ترى قاسٍ
ويوشكُ أن يشوبَ الغيمَ ما يدعو الشتاءُ إليهِ من رعدٍ وبرقْ
لا ليس في عينيَّ شيءٌ،
غير أنَّ البردَ سوف يكونُ مرَّ الطعمِ هذا العام
كيف يكون أهلي في العراءِ؟!
ومَن يغطّيهمْ إذا بردَتْ خرائبُهمْ عليهمْ؟!
مَن يُجير طفولةَ الأطفالِ
حدّقَ فيهمُ غولٌ، وهَمْهَمَ:
ليس بين عدوِّكمْ وبني أبيكمْ أيُّ فرقْ!
لا… ليس في عينيَّ شيءٌ
كل ما في الأمرِ
أنّي قبل إطباقِ الجفونِ عليهما
في الليلِ
أسمعُ طرقَ بابِ القلبِ… تأتي
تستعيرُهما لكي تبكي دمشق
***
لا ألومُ الشتاءْ
الشتاءُ يجيءُ كما كلَّ عامٍ يجيءُ
أقولُ له: أنت قاسٍ على الأهلِ… قاسٍ على الناسِ
يفترشون العراءَ ويلتحِفونَ السماءْ
فيُغضي، ويُطرِقُ: طبعُ الحياةْ
وأنا – أنتَ تعرفُني – أستحي
وأقولُ: ابنُ عمّي الربيعُ، وإنّي حزينٌ،
ومنذ سنين أنا لا أُراكِمُ غيمي لأُمطرَ، بل مُجهِشًا بالبكاءْ
كُنْ عدوَّ الطُغاةْ.
كُنْ عدوَّ الطُغاةْ.
***
صديقاً صديقاً أموتُ
بلاداً بلاداً أموتُ
ولا شيءَ… أنتَ بخيرٍ يقول الطبيبُ
سوى أنّ في وَقْع نبضكَ ما يتخافتُ، ثمّ يغيبُ
كما لو بقلبك تنأى قليلاً قليلاً إلى أنْ تغيبَ تماماً قلوبُ
يتابع بالصمتِ “سمّاعةً”
بينما أنا أقرأ ما يتراءى على وجهه عن كثبْ
يكررُ: لا شيءَ…
لا شيءَ إلّا الذي أنت تعرفُ حمصُ حماةُ دمشقُ حلبْ….
***
قهوةُ آخر الليل
ليلٌ، ووحدَكَ، والشتاءْ
قاسٍ، فلا تبدِ الأسى،
وانهضْ وحضِّرْ قهوةً للأصدقاءْ
البيتُ محتشِدٌ بأوجه من فقدتَ
كما ترى، همْ صامتون، وأنت توحشُهم إذا أيضًا صمتَّ
اقرأْ عليهم بعضَ شعرٍ في غيابهمُ كتبتَ
فبعضهمْ طُوِيَتْ لهم أرضٌ لكي يأتوا إليكَ،
وبعضُهم طُوِيَتْ سماءْ.
شاعر من سوريا مقيم في القاهرة