أنا و "خيمة من الأسمنت"

الأحد 2025/06/01
بريشة خالد تكريتي

الأنا مفهومٌ واسعٌ ومعقّد. وأجدني مضطراً من أجل أن أتجنّب أية تشابكات بين ما يعنيه تاريخياً ولغوياً، وبالخصوص موقعه داخل المنظومة النفسية والجنسية الفرويدية وبين ما أقصده في هذا النصّ، لأن أُجرّده من ألّ التعريف، وأنقله من الحديث عن مطلق إنسان ومطلق كاتب إلى الحديث عن الفرد - الكاتب الذي هو أنا؛ أحمد سعيد نجم. و بالطبع، فلن أتحدث في هذه العجالة الأنويّة، إنْ جاز وصفها بهذا الوصف، عن كامل تعقيدات حياتي المعيشية والنفسية ومحطاتها العديدة بل عن جانبٍ واحدٍ فقط وهو: طريقتي في الكتابة وموقفي مما أكتبه، وسأنتقل بعد ذلك، وبعجالة أيضاً، للحديث عن الشروط الذاتية والموضوعية التي أنتجت كتابي المُعنون: « خيمة من الأسمنت «.

إذا   ابتدأنا من النصوص الابداعية التي أكتبها؛ وهي القصص القصيرة، فقد تبيّن لي منذ أوّل قصة قصيرة كتبتها في حياتي عام 1969، وهو ما صار بالنسبة فيما بعد مسلّمة من المسلمات، أن محيطي الشخصي، وتجاربي الحياتية على ضآلتها، هي النبع الرئيسيّ، وربما الوحيد المتاح أمامي لأنشل منه موضوعات أعمالي الفنية وحبكاتها. وعلى الدوام، كان وما يزال من شبه المتعذّر عَلَيّ أن أكتب قصصاً متخيلة من ألفها إلى يائها، نصوصاً لا تكون أحداث حياتي، أو حياة من أعرفهم من بني البشر، أقارب، أو أصدقاء، أو جيران جزءاً منها. وعندما أغرّب في قصّة من القصص، فذلك في الشكل فقط، وباللعب بالكلمات، ولكن، لن تأتي آخر جملة في النص الأدبيّ الذي أكتبه إلا ويكون جانبٌ من نفسي أو بعض أحداث حياتي، أو حياة الذين أعرفهم، قد تسلّل على نحوٍ أو آخر إلى قلب ما أكتبه؛ أحيا بهم، ويحيون بي. وغالباً ما تكون سلّة المهملات هي المآل الذي تنتهي إليه أيّة قصة قصيرة أفشل في غزوها من الداخل !

ثم إنني وبحكم الحصيلة الثقافية والفكرية التي أمتلكتُها وراكمتها طوال أكثر من سبعين عاماً من حياتي وصلتُ إلى مرحلة في الكتابة يمكنني معها الزعم بأنني قادرٌ على إنتاج كتاباتٍ أعتبرها معقولة في موضوعات شتّى غير القصة القصيرة، تمتد من التاريخ إلى النقد الأدبي والسياسة والترجمة عن الإنكليزية، بل وحتى لا خوفَ عَليّ إن جرى تكليفي بكتابة موضوعٍ فلسفي. ومع كلّ هذه المؤهلات فالمتابعٍ لمسيرتي الكتابية لا يرى سوى حصيلة هزيلة من حيث عدد الكتب التي نشرتُها إلى الآن،و يمكن لهذا المتابع، بل ومن حقه أيضاً أن ينعتني بالكاتب الكسول، وهي صفة لا أمانع بها البتّة. وشخصياً، لم أنظر يوماً إلى نفسي، لا ولم أتعامل معها أبداً باعتباري فماً يتدفّق على الدوام بالكلام الحلو، كما تتدفق الأنهار بالمياة العذبة. والسبب الرئيسيّ في ذلك أنني وبشكلٍ عام لا أنهي، طوع رغبتي، أيّ نصٍّ ما يزال عقلي وقلبي يشتغلان عليه، فماذا أفعل وعقلي وقلبي يشتغلان طويلاً، طويلاً جداً، ويكاد لا يقرّ لهما قرار. لا أنهي النصّ ولا أفلته بتاتاً من بين يديّ إلا إذا دُفِعْتُ إلى ذلك دفعاً ثقيلاً، بإلحاحٍ يقارب توجيهَ الانذارت، التهديد بالطرد من العمل، أو تنفيذُ « الفصل السابع « بحقّي. فدوماً كانت العلاقة بيني وبين ما أكتبه أقرب إلى العلاقة التي تكون في العادة بين عدوّين متصارعين، وفي البداية سيمتلكني الجبن والهول، وسأفرّ طويلاً من وجه النصّ قبل أن أتمكّن أخيراً من الإجهاز عليه بالضربة القاضية !

نعم، وبالفم الملآن، إن خرج النصّ الذي أشتغل عليه من بين يديّ، وصار في كتاب، أو مجلّة، فذلك فراق ما بيننا. ولا أعود أقرأه بتاتاً. فإن حدث وعدت إليه، كما فعلتُ مع بعض النصوص، فعندها سأحذفُ منه، أو أضيفُ إليه، وغالباً ما تكون الحصيلة الجديدة نصّاً جديداً بالكلّية. وهكذا، وطوال السنين التي مرّت عليّ في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين وأنا أكتب بالقطعة هنا أو هناك، أو وأنا أعمل في مجلة اسبوعية لأكثر من عشرة أعوام، ومعي الاسبوع بطوله لإنجاز المادة المطلوبة مني، فلم يسبق لي أيامها ولا بعدها أن أنجزتُ المطلوب منّي إلا في اللحظات الأخيرة، في الربع الأخير من الساعة، وإداريّو المجلة يجهزون مواد العدد القادم لإرسالها إلى الزنك !

وبالنسبة لي فلا مسافة زمنية محدّدة يُقاس بها الربع المحكي عنه في هذا النصّ. فقد يكون عاماً، أو شهراً، أو أسبوعاً، أو يوماً، أو ساعة. ودوماً، إن طلب أحدهم مادّة منّي وأمهلني لنقل أسبوعين لإنجازها، فسأطلب منه على الفور أسبوعاً ثالثاً. وينبغي لمن يكلّفني بالكتابة أن يمنحني تلك الرخصة – الزيادة، لأنها ربع الساعة الأخير بالنسبة لي، الربع الذي سأكتب في رحابه المديدة، وإلاّ فالمادّة المطلوبة لن ترى النور أبداً.

وفي أحيانٍ كثيرة، لا يُقاس ذلك الربع بالدقائق الزمانية بل بالكتب المقروءة في فترة زمنية محدّدة. ففي مرّة من المرار أثمر شعورٌ عامٌ أمسك بي من خُنّاقي، وكثيراً ما يُصيبني وبخاصة في هذه الأيام، بأنني قد امتلأت إلى حدّ التخمة من أفكار الآخرين، وأن كلّ ما أريد أن أعرفه من علوم الدنيا منذ أن وجدت إلى ساعة الناس هذه، قد بِتّ أعرفه، وأن كلّ ما قد يكتبه البشر من الآن فصاعداً قد كُتِبَ وانتهى الأمر، وهاهو يملأ رفوف المكتبات، ولا مجال بعد للمزيد، أثمر ذلك الامتلاء - الخواء عن قرارٍ فجائي بأن أشغَلَ نفسي، أيْ أنْ أشغلَ الأرباع الثلاثة الأولى من الساعة الكتابية الخاصة بي، بقراءة روايات عالمية قصيرة،  بحجم « موت في البندقية « لتوماس مان، رواياتٍ سبق لي أن قرأتُها مراراً، ولا تأخذ قراءتها في الغالب أكثر من بضع ساعات، وفي الكثير تأخذ يوماً واحداً. وأيامها، لم أحدّد عددَ ما سأقرأه من ذلك النوع من الروايات، ولنتذكّر أن الضجر هو الذي دفعني إلى ذلك. وما  أن وصلتُ إلى الرواية العاشرة، وأذكرُ أنها كانت في حينه: رواية « وفاة إيفان إيليتش « لتولستوي، وبعد عزوفٍ عن أية كتابة خاصة بي طوال تلك الفترة، أثمر ذلك التلّهي - الانشغال غير المقصود، بأن هرعتُ إلى اللابتوب لأكتب نصّاً سبق أن أرجأتُ كتابته مراراً، وكان على الدوام يعاند النزول لأسبابٍ مجهولة، رغم امتلائي التامّ به !

بريشة خالد تكريتي

ثم إن الانشغال في مرّة ثانية بقراءة كتاب فلسفي شديدة الصعوبة هو: « الوجود والزمن « للفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، بمناسبة ترجمته إلى العربية، وهي ترجمة طال انتظارها، أولاً من أجل استيعابه، وثانيا لكتابة عرض له، أثمر، وأنا ما أزال أصارع الفصول الأولى من الكتاب، أصارعها فتصرعني، أثمرَ ذلك التلهّي المتعب، عن كتابة نصّ  كان قد رافقني طويلاً، ولم أجسر على كتابته من قبل، لسذاجة حبكته وامتلائها بغرائب تّذكّر بحكايات ألف ليلة وليلة، وخوفي من أنه إن لم يُكتب ذلك النصّ بشاعرية فائقة، وبتحديدٍ أكثر، إنْ لم يُكتب، كما أواظب دوماً على القول، في الربع الأخير من الساعة، فستطغى السذاجة فيه على الرهافة. فكيف حدث أن ساعد كتابٌ عسير لفيلسوف بحجم هيدغر على ولادة نصٍّ يتحدّث عن أولادٍ فلسطينيّيين، لاجئين، مشرّدين، يعملون في عطلتهم الصيفية عتّالين في « سوق الهال « بدمشق ؟

لا رابط هنا على الأرجح، ولا مجال لضبط أجزاء الساعة التي يشتغل دماغي وفقاً لها، بمثل تلك الطريقة الميكانيكية، بل ربما عاد الأمر برُمّته، وهو مجرد تكهّن، إلى أن قراءة « الوجود والزمان « تحتاج من القارئ لأن يُشغّل دماغه بأقصى طاقاته، وتحديداً إلى اللحظة التي تسبق انفجاره الأكيد، لإجباره على فهم ما لا يُفهم، وفي مثل تلك الحالة سيهون أمام ذلك العقل المجهد كلُّ صعب. أم تراه الخداع، والغيرة، والتنافس والحسد، وكلها تطرح على أفكارنا الخاصة تحدّياتٍ أكبر، وأنّ القضية تصبح هكذا، على الواضحة: إن لم تقدّم أفكارُنا نفسها على أتمّ شكل وأبهى صورة، فعدمها أفضل من وجودها. فقد كتبَ البشر قبل زمننا أشياء أمثل، نصوصاً مرعبة، فما الحاجة إلى نصوص جديدة نضع عليها أسماءنا إن لم تشكّل أيّة إضافة لا  لتجربتنا فحسب، بل لتراث العالم بأكمله ؟

غير أن نجاح المثالين السابقين؛ مثال الروايات القصيرة المزعومة إياها ومباطحة كُتب شاقّة من نمط  « الوجود والزمان « لم يضمنا لي، عندما عمدتُ إلى تكرارهما على نحوٍ مقصود، سوى الإخفاق المرير. واضحكْ عَليَّ، عندما أستبدلتُ الروايات العالمية العشر السالف ذكرها بعشرٍ غيرها، أو عندما استبدلتُ كتاب « الوجود والزمان « بعملٍ أوزَنَ وأعسر منه وهو: « فينامينولوجيا الروح « لهيغل، فكان الدرس القاسي الذي علّمتني إياه تلك الكتب العظيمة إنه، في عالم البشر؛ الآن وهنا، لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال تحويل الصدفة إلى قانون. فما الذي حدث بالضبط، في مثال الروايات القصيرة العشرة، وفي الكتاب الفلسفي المُفلِق لصخرة كلّ رأس ؟ هل أرسلتْ تلك النصوص العالمية نداء ترحيب ب « نَصّي « المشاكس، وشجّعتني على كتابته، وأنْ لا خوف عليّ ولا هم يحزنون ؟ ما الذي أفاده نصّي من تلك الأعمال ؟ وهل أفادت هي بالمثل، من قراءتي المجدّدة لها ؟ وهل صحيحٌ ما يقوله الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو من أن قراءتنا لبعض الأعمال الأدبية مرّتين أو ثلاث مرّات تمنحها مرتبة « أعمال كلاسيكية « لا تُنسى أبداً ؟

ولبّ الحديث أنني لم أتطرق إلى الإنجازات التي استطعت وأستطيع إلى الساعة الراهنة تحقيقها في ربع الساعة الأخير، هذا الربع سيء الصيت، التوقيت المنذر في العادة بحروب كونية، إلّا لكي أصل في خاتمة هذه المادة إلى مرّة واحدة وحيدة خذلني فيها ذلك. ويتعلّق ذلك الخذلان حصراً بكتاب « خيمة من الأسمنت «. والحكاية الأولية لهذا الكتاب كانت قد ابتدأت عام 2016 فور قراءتي لخبرٍ يخصّ جائزة تقدمها جهة من الجهات الثقافية العربية للروايات المخطوطة. وحينها لم يكن قد بقي على آخر موعد لتسليم الأعمال المشاركة في تلك الجائزة غير شهرٍ واحد، فتوّهمت، وربما كان في الأمر ثقةٌ مبالغٌ فيها بالنفس، أو ربما لحاجتي الملحّة آنذاك، كلاجئ فقد كلّ ما يملك في سوريا، لأيّ مبلغٍ نقدي يأتيني من غامض علم الله، أو ربما اعتقدت أنّ جميع هذه الأسباب قد تجعل من الشهر المتبقي على موعد تسليم الأعمال ربع الساعة الذي أطمح إليه دوماً، بل ولا أُنهي عملاً من دونه. وكان على العمل الذي أنجزته أيامها خلال شهر واحد، واتّخذ فن الرواية شكلاً له، أن يخوض في ذلك العام منافسة شرسة مع خمسمائة رواية مخطوطة أخرى، وهو ما لم يتمكّن من إنجازه بنجاح. ولقد عشت في ذلك الشهر تجربة روحية عالية، ولكنها ظلّت خارج النص، وفشلت في التسلل إليه، بحيث تكون هي واللغة والأحداث الواقعية روافع وطيدة للنص. وفي السنوات التي تلت ذلك الإخفاق كتبت بنشاطٍ لافتٍ للانتباه في مجلة الجديد اللندنية، وكثيراً ما كنتُ، وبالأخصّ عندما لا أكلّف بموضوعٍ بعينه من موضوعات العدد، أعود إلى عملي الروائيّ المخفق، استلّ منه أحد الفصول وأعيد الإشتغال عليه، وبعض الفصول اشتغلت عليه شهرين وربما ثلاثة شهور قبل أن أُطلق سراحه، وأدفع به إلى النشر. وكما أشرتُ قبلاً فاشتغالي، وربما اشتغال أيّ كاتب آخر غيري على نصٍّ من نصوصه القديمة، إن نجح ذلك الاشتغال، فالنتيجة هي بالتأكيد نصٌّ جديدٌ بالكلّية. إن عادتي المعهودة في التسلل إلى كلّ نصٍّ أكتبه قرّبت كتاب « خيمة من الأسمنت « من فن السيرة  الذاتية بما هي « حكيٌ استعادي نثري يقوم به شخصٌ واقعيّ عن وجوده الخاصّ «. وبما أنني كنت معنيّاً بدرجة رئيسية بتأريخ ما جرى لمخيم في فترة تاريخية محده يوماً بيوم منذ ولادته إلى وقت موته، فقد شابه كتابي كتب التاريخ من حيث الدقّة والموضوعية، ولأن كتاب « خيمة من الإسمنت « لم ينسَ أصله الروائي، فقد احتفظ أيضاً بالكثير من التخييل الضروري لنجاح أيّ عملٍ سرديّ. فهذه النصوص وهي في العدّ عشرة، والمنشور أغلبها قبلاً في مجلة الجديد، الهجينة من حيث الشكل الفنيّ، انتبه لأهمّيتها في توثيق تاريخ « مخيم اليرموك « منذ نشأته إلى حين وفاته عام 2012 في إبّان ثورة السوريّين على نظام الطاغية بشار الأسد، انتبه لها صديقٌ نبيه هو الشاعر نوري الجرّاح، رئيس تحرير مجلة الجديد، والمسؤول عن جائزة ابن بطوطة، فطلب مني أن أرتّب تلك النصوص المفردة وفق التسلسل الذي أرتأتيه، وأن أقدّم لها بمقدمة أشرح فيها الأسباب التي من أجلها كان هذا العمل. ومن جانبه فقد سمح لنفسه بأن يختار للكتاب الذي لمّها سويّةً عنواناً آخر غير الذي كنتُ اخترته أنا، وكان له ما أراد، فظهرت تلك النصوص تحت اسم « خيمة من الأسمنت «، وفازت بجائزة ابن بطوطة لعام 2022 ، ونُشر الكتاب المتضمن لها في العام ذاته عن كلٍّ من داري النشر: « ارتياد الآفاق « في أبو ظبي، و» دار المتوسط « في نابولي بإيطاليا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.