الشعر والحبُّ

الشاعر صانع والقصيدة اللغز المؤنث
الجمعة 2022/04/01
لوحة: الشعبية طلال

ما الفرق بين شعر الحب وشعر الغزل؟ وما الذي يتوارى في غلالات المسافة بين العذري والشبقي في شعر الحب؟ وماذا عن وصف العاطفة، أو وصف خصال المحبوب، ووصف حضوره جسداً وأثراً من جسد؟ ماذا عن التشبب به؟ وماذا عن ألوان الرغبات في فكرة الوصل به والوصال؟ وأين يقع من كل هذه الملامح والسمات في الإرث الشعري العربي ما يسمى بالشعر الإيروتيكي (كما يتجلى في التجربة الشعرية العربية الحديثة، وبعضه بورنوغرافي بامتياز!)؟

لا أغامر لأجيب عن هذه الأسئلة أو بعضها، فهي تحتاج إلى نقاد ودارسين ألمعيين ومجلدات نقدية تستكشف ما أنجز من شعر الحب عبر الأزمنة، وتقرأ مغامرات الشعراء وتحولات القصيدة، إنما تشغلني الأسئلة، وإذ أرمي بكراتها جهة النقاد، أذهب لأيمم شطر التأمل في الأسئلة.

***

هل الشعر صنو الحب؟ وما علاقة الفقدان والموت بكل منهما؟ هل الفقد وجه آخر أكثر عمقاً لما هو لحظة قصوى للتملّك في الحب، والشعر هل هو تأبيد للحظة الهاربة المفقودة؟ ثم هل إن لمعة الذروة في الحب هي الخلود أم أنها هي نفسها برهة الفناء؟

هناك فكرة عربية معاصرة عن الشعر والحب تحصرهما بكلمات الغزل، وشعر الغزل، صحيح أنها ليست الفكرة الوحيدة، لكنها الأرجح. مع ذلك عرفنا شعر حب عربياً كتبه شعراء لم يُعرف عنهم انصرافهم إلى شعر الحب. مثل هذا الشعر الأرقى في قدرته على الاقتراب من غامض الشعور العاطفي، ومن الطيات الأبعد في القلب، يمكنه أن يرقى بنا وبفكرة الحب إلى عوالم أكثر سحراً فنياً وأعمق غوراً في الإنسان. لكن قصيدة الحب التي تقف على هذا الميل، أحياناً ما تكون برهة خوف، أعني تعويذة خائف من الفقد، فتكون بذلك فضاء هواجس وأرض اختبار شعوري وفكري للألم، تتدفق فيها خواطر الموت مجسدة في فكرة مركزية: ضياع الأنا بفعل فقدان الآخر.

ولربما يمكن للصوت في قصيدة الحب (صوت العاشق الذي يرغب في أن يكون أنا أخرى للمعشوق) أن يوحي (وينقل إلينا أيضاً) حالة انكسار تولِّدها مشاعر الفقد والغياب؛ لكن في الفن، حيث القصيدة معمار، وأثر من الكلمات بعد عمل شاق مع الكلمات، فإن الشرارات التي يطلقها نص القصيدة مصدرها طاقة من الكتابة، وإلى ختام القصيدة، طاقة متفجرة، عبر تلك المخاطبة التي تبدو عشقية وتبدو صوفية وأقول بـ”إيحاء مبتكر” لأن انشغال الروح الشعرية في قصيدة الحبّ، إنما هو انشغال بجوهر أعمق هو الألم، بجاذبيته الخطرة وقدرته الهائلة على التنبؤ بمستقبل ليس فيه إلا الفقد وقد صارت له في لغة الشعر وصوره مشاهد وظلال وحالات شعورية، وأيضاً ما هو أخطر من كل ذلك: نظام هو القصيدة.

***

إن التفكر في هذا هو تفكّر في بعض ما يقيم المسافة بين افتراضين لـ”أنت” و”أنا” ليسا في مرايا الشعر غير واحد، وفي قصيدة الحب/الموت، فإن الواحد هو بمثابة كلّ يجمع اثنين يعيشان متجاورين: هما الذات الحرة الطليقة للشاعر وراء الذات الشعرية الأسيرة في علاقتها باللغة وصراعها مع الكلمات وعلاقات الكلمات. والشاعر في قصيدة الحب هو ذاك الذي له القدرة على أن يحضر ناقصاً، ويظلّ مغرياً، ويحضر ناقصاً بجموح، وقد يتلاشى، وتتبدد صوره إلى أن يختفي تماماً، فما يعود في الإمكان تعيين وجوده لا في صور القصيدة ولا في كلماتها.

لقد توارى الشاعر وراء ما بنته القصيدة، وترك لنا السؤال الحائر: أين هو العاشق فيما ترك الشاعر من أثر عشقي فنّي، أهو في ما بنته الأنا من “انقطاع” هو النقصان، أم هو في ما حققته من “وصل” هو الفناء؟

***

لعل الأروع في معادلة الحب هو التطرف، كما أن المروّع في الشعر هو التطرُّف، حيث ما من جمال يتأتّى من حلول في الوسط، أو من فتور في المزاج، أو من قدرة وهمية على التوازن، ليس شعر الحب عندي شيئاً من هذا، إنه يتخلّقُ أعمق، لذلك هو أقرب إلى الهاوية.

كذلك هو الحب؛ الأنا الخفيفة الناقصة المأخوذة، بقدرة الكلمات إلى مصيرها، إلى مصرعها في “القصيدة” التي هي أنثى، القصيدة، التي هي ضمير مقترح لـ”أنا” في عهدة “هي” أو تهيؤ للعودة إلى “أنت”، حيث تعود الذكورة إلى مياهها الأُولى، لتفنى أو (تعيش بينما هي تفنى) في المؤنث.

قصيدة الحب، أيضاً، صورة من صور الخوف من الفشل، لذلك، هي الفشل من جرّاء الخوف من ألاّ يكون لنا مكان في مياه المؤنث، وقريباً من المرأة التي هي حارسة المؤنث، والقائمة عليه بصفته جنساً كاملاً يضم المرأة والرجل معاً.

نعم، الرجل الذي غادر المرأة لمّا كانت أماً مولدة لذكورته، وها هو يريد أن يرجع إليها بصفته شريكاً وحبيباً.

***

إن الموازنة والمطابقة بين فكرتي الحب والشعر، إنما تقصدان ما هو أبعد وأشمل مما تتيحه علاقة رجل بامرأة، وإن كانت هذه العلاقة بالذات هي الفضاء الأكثر إغراءً ووحشية ووضوحاً في أيروسيته. واستناداً إلى الخبرات الإنسانية، فإن الحب، كما الشعر، خسران وتملّك، إنه أيضاً حرية وأسر، كما الشعر، حرية خيال في أماد متخيّلة، وأسر للكلمات في نظام هو القصيدة. ولا مناص من الاعتقاد بأن الشعر كثيف كالحب، ولعبته يمكن أن تكون مثل لعبة الحب قاتلة.

وإذا كانت الكتابة في جانب منها، هي صورة من صور التخلص من كل ما تملكه الأنا في الكتابة (هو العطاء الفني)، فإن الحب في جوهره هو صورة من صور التفاني، على سبيل الفناء (أي العيش) في الآخر. وإذا كانت القصيدة في جانب حاسم منها بحثاً في الفقدان، حيث يتحقق الشعر عن طريق الرغبة في استعادة المفتقد، والوقوف على أطلاله، على آثاره، فإن الحب لا يتحقق في أمثلته الكبرى إلا مجاوراً للمآسي، إنه يتوارى في طيات الفقد والموت واللاتحقق، ولعل الاستحالات هي المداخل الكبرى إلى تحقق أسطورته: قيس وليلى، روميو وجوليت، وفرهاد وشيرين، وغير ثنائي عاشق عبر ثقافات الحب العابرة للزمن.

الحب حالة تطرّف، خوف وغبطة متطرفان، وإلا لما خفق قلب العاشق، والحب هو الحرية التي لا سبيل إلى أسرها، لذلك، فإن الثنائيات على قيمتها الكبرى، تتهدد الحب، كما في حالتي التملك والترك، والتحرر والأسر.

لكأن القصيدة كيان لمخلوق يشق طريقاً نحو فضاء تتأكد فيه هذه الثنائية المتناقضة والمدمّرة، مع إضافة أخيرة خلاصتها أن القصيدة تشكيل لعلاقات النظام والفوضى في حركة حرة خاطفة، هي بالضرورة شيء ثالث.

***

الحدائق ليست مبهجة، دائما، فالأزهار المبهجة قد تبعث على الحزن أيضاً. مرئيات الحديقة قد تكون مرتبطة بحالات موجعة. وعندما نتحدث عن حدائق، علينا أن نتذكر الحديقة كمكان للجريمة في هاملت شكسبير.

تشغلني كثيراً حالات هذه الشخصية الفاتنة، هاملت، شخصية بالغة الثراء، متمرّدة انشقاقية، مستوحدة، وهي على الأرجح موجودة في كل واحد منا، على هذه الدرجة أو تلك من الإلحاح النفسي. وعندما نتحدث في الفن الشعري تحتل الطريقة، أو الصياغة، المرتبة الأكثر جوهرية وأساسية.

ما يجب أن نتوقف عنده بعد القيمة الجمالية والتعبيرية للشعر، هو أيّ هاملت هذا؟ وكم هو منك أو من غيرك؟ من ثقافتك أو من ثقافات أخرى؟

على أن السؤال الغائب في قراءة هاملت هو، في نظري، ما يحرّض على البحث في مصائر الحب، وتجلياته: الحب “المغدور” لدى الأب، و”الحب “الغادر” لدى الأم، والحب “الضائع” لدى الابن.

***

ولو مضينا على ميل آخر، يبرقُ سؤال: هل القصيدة أنثى، أم أن المؤنث فضاء للشعري، وما القصيدة غير نظام مؤنث للكلمات؟

بصرف النظر عن هذا وذاك، فإن القصيدة سرّ عصيّ لكونها صورة اللغز المؤنث في مرآة لغزه، ولأن مصدرها، بداهة، كما يتبيّن لنا، باستمرار، وليست الكلمات فحسب، بل الخبرات الشعورية والفكرية التي تحملها الكلمات؛ وتقدُّ هذا السّر علاقات من طبيعة ما، جديدة، بينها.

لربّما إن السرّ يكمن في الطبيعة المركبة للغز التي ألّفت هذه القصيدة، ومن ثم في تلك الخبرات غير المعلنة، غير المفصح عنها، الخبرة المتوارية، التي تبقى أبداً متوارية بين السطور ووراء الصور ودلالاتها، في أكثر مناطق القصيدة إغراء وصعوبة معاً.

ليس في وسع عالم نفس الوصول إلى تلك الأسرار، كما أنه ليس في وسع ناقد أدبي حصيف، أو طبيبة تهوى الشعر. فالصعوبة، حتى لا نقول الاستحالة، كامنة (قبل أن تكون في علاقات الكلمات) في ذلك المنحى اللاعب، في المواربة التي يتسلح بها الشاعر، في الإزاحات المتعمدة والعفوية التي يقوم بها شاعر، أثناء كتابة قصيدته، على سبيل دفن الخبرة التي تسببت له بها، في غرف قصية من تلك القصيدة، لا يملك هو نفسه مفاتيحها.

ما أن تولد قصيدةٌ حتى يكون الأثر الذي قاد إليها قد امّحا. ليس لأنه زال تماماً، بل لأنه توارى، ليتيح للإغواء ان يتحقق. فالقصيدة التي لا يمكن أن تغوي هي قصيدة فاشلة بالضرورة.

يفضل ألاّ يعني هذا التشخيص للفكرة أن الشاعر يتقصّد، باستمرار، إخفاء الآثار، وإلا فإن ذلك يعني أن الشعر صناعة تخلو من التلقائية. أبداً، وعلى النقيض من هذا الاحتمال، لعل عمل الشاعر (بالطريقة التي يعمل بها ليخفي آثار الخبرات الباعثة على الكتابة)، إنما يتسلح بتلقائية كلما عَلَتْ، كلما كان الأثر الفني (كمعادل للأثر الضائع) أشدّ إيهاماً بالصدق، وبالتالي أكثر قدرة على الإغواء.

***

إن فكرة الغواية تمنح عبر (القصيدة)، وهي مؤنث بصرف النظر عن (الصوت) الذي يمكن أن يكون مذكراً، صفة جديدة للمؤنث ما كان لها أن تتحقق وتنسجم (كدال على مدلول) لولا أنها مشتقة من طاقة مؤنثة فعلاً، كامنة في الذات الشاعرة لشاعر. أتكون هذه واحدة من مناطق الأسرار في الكتابة وملمحاً طفيفاً جداً مما لا يعرفه الشعراء عن مكونات أنفسهم، وهو كثيرٌ.

إن كبرى الخطورات، وموطن أعصى الأسرار في الشعر، أن هذا المؤنث الذي هو القصيدة هو من فعل شاعر قد يكون ذكوري النزعة قبل الكتابة وبعدها لكنه أثناء الكتابة هو شخص آخر. (لا أجازف في تثبيت هذه الملاحظة بصورة نهائية. ولا بد من العودة إلى النقطة التي تثيرها لاستجلائها بدقة والتأمل في ما هو عمق فيها، وما هو سطح خادع. لكنها الآن تثيرني بشكل خاص، وبصورة كبيرة ومحرّضة على التأمل).

***

إن القصيدة التي هي نظام مؤنث للعب اللاعب المذكر، وصورة حيّة للطاقة المبدعة وهي تستعيد أشخاصها الشعراء من غربتهم في الشكل (الفورم) الاجتماعي الذي وضعوا فيه كرجال. إنهم الآن وهم يكتبون القصيدة أكثر صفاء وأكثر صدقاً، وأكثر جمالاً، أعني أكثر اتصالاً بطبيعتهم الأصلية. وبتعبير آخر لا يبقى من الرجال الشعراء أيّ رجولة في حالات شعورهم بقلق القصيدة ومخاض ولادتها ومن ثم خروجها الى النور.

إنهم، ربما، في أقل الحالات تطرفاً، يعودون أطفالاً، أي أنهم يتشقق عنهم إسار “الرجل”، ليخرج منه الطفل، أكثر المخلوقات إثارة لعاطفة المرأة، ورغبتها في منح الحب.

إلى هذه المنطقة الجمالية اللاعبة يخرجُ الشاعر: ليهيم بالمرأة، يندفع نحوها، ويرتدُّ عنها، يقبل عليها، يتعشّقها، يلاعبها، يتباهى بها، ويخاصمها، يصالحها، ويشاكسها، تأخذه، وتستبعدهُ، تعطيه وتمنع عنه، تتذلل له، وتتوعّده، لكنه، أبداً، يبقى طفلها الأكثر إثارة لما ينطوي ويغور فيها من أسرار الشعور.

في هذه العلاقة بين الشاعر والقصيدة، والشاعر والمرأة، والمرأة والشاعر، فإن هذا “الشخص” الذي يخرج من وراء القناع الاجتماعي بمجازفة قاتلة أحياناً هو ذلك الباحث الأبدي عن نفسه خارج نفسه (كما قدمها له المجتمع) إنه الميّال أبداً إلى إعادة تركيز وجوده في المؤنث، وعلى مقربة منه.

لذلك فإن الشاعر هو الأقدر اجتماعياً على فهم المرأة (بمعنى الوقوف إلى جانبها ضد صرامة المجتمع).

ولا يعني هذا أنه لا يمكن أن يذهب ضحيتها، أو أن تذهب ضحيته، فهذه مسألة أخرى!

يبحث الشاعر عن نفسه خارج نفسه الاجتماعية ولا يتمكن من تحقيق طلاقته، إلا بهذا الخروج، “الانخلاع”. ولا يجد الشاعر بديلاً من النظام الاجتماعي إلا بـ”نظام القصيدة”.

إنها إذن رحلة العودة إلى الطبيعة الأولى، وخروجٌ من الأسر، وانشقاق عن القناع.

***

بعد حصار بيروت 1982، بعد الدمار والموت، بعد مذبحة مخيمي “صبرا وشاتيلا” بأشهر قليلة، وكنت قد تخلصت من رائحة الكلس في يديَّ اللتين شاركتاً في دفن الضحايا في المقبرة الجماعية، حل عام جديد، وكنت ما أزال في بيروت، شيء ما جعلني أفكر بالحب، الحب بعد رائحة الموت في الجنازات، وأكاليل الآس على قبور المجهولين.. وفي مطلع صائفة ذلك العام كتبت قصيدة:

في الحياة، في الموت

في الحياة وفي الموت

أُحبُّكِ

أنتِ سطوةُ اليقظةِ

تمرُّدُ القلبِ

فوضى اليوم الأبدي

الأشياءُ في التبدُّل.

في الحياةِ وفي الموتِ

في نَزَق الجُنون

وفي برهات الظلمة عندَ شُرفَةِ العدم

أحبُّكِ

وفي الشارع المقْفل بالحجارةِ والجند

وعلى مفترق الحَيْرَةِ

أحبُّكِ.

القمرُ

بقلبٍ وحيدٍ

يدخلُ كلَّ الغرف

وأنا

لن أستطيع

بحياةٍ واحدةٍ

أن أُحبَّكِ.

وبرُوحٍ أولى، برُوحٍ أخيرةٍ، أُعْطِيْتُ

أَفْرُطُ ورداتِها وأمتلكُ الأبد.

في الحياةِ وفي الموت

في حدائِق الكراهيةِ وفي اليوم المريبِ

وعندما يقطُفُ البَشَرُ ورودَهم المسمومة

ويتبادلون الفؤوسَ والرصاصَ والطعنات

أُحبُّكِ.

في الحياةِ وفي الموت

وفي اليقظةِ المريرة.

صيف بيروت 1983

نوري الجراح

 

لندن في 1 نيسان – أبريل 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.