الشاعر المتمرد والفردوس الذي صار جحيماً

الثلاثاء 2022/03/01

ليس حدثاً عابرا رحيل الشعراء، حدث أشبه بانطفاء نجم، هذا ما شعرت به عندما رحل أنسي الحاج الشاعر المتمرد على لغة زمنه. كان ذلك في الثامن عشر من فبراير قبل ثماني سنوات، في قلب الرعب الذي أطبق على سوريا، غير بعيد عن نهر الدم الذي جرى في جوار بردى، وتفرع أنهاراً. يومها وبينما كان أنسي يحتضر، كتب لي صديق “أنسي مريض، مريض بشدة وينام كثيرا، ولا يصحو إلا لينام”. شعرت يومها بغصة أسى، فقد تخبط هذا الشاعر الذي طالما كان نصيراً قويا لكل حركة تمرد لأجل الحرية  بمواقف حمقاء من ذلك الباب الدمشقي للحرية والذي أخذ يدق بكل يد مضرجة. مواقف غريبة أملتها عليه ظروف غريبة!

يومها دونت في مفكرتي: بعيداً عمّا صدر عنه مؤخراً، نحو ذلك اللهب، وبدا مخزياً أن يصدر عن شاعر، كانت له، بخلاف ذلك، مواقف مشرفة من فِكْرَة الْحُرِّيَّة، وحق الكاتب والإنسان في التعبير عن وجوده وأفكاره.

أتذكر مقالته الشُّجاعة سنة 1966 التي دافع فيها من بيروت، وببلاغة نبيلة، عن حق المفكر عبدالله القصيمي في الإقامة في ما كان يُسَمَى يومها سويسرا الشَّرق، وقد سكت عن ترحيله عنها إلى القاهرة كتاب وشعراء غيره. كانت بيروت في ذلك الوقت، وكذلك بعده، واحة الحريّات وملجأً قريباً لكل طالب حُرِّيَّة وباحث عن الأمان بعيداً عن قمع المستبدين وإرهابهم وزنازينهم، على الرغم من أن أيدي هؤلاء كانت في مرات كثيرة طويلة وطائلة.

في مقاهيها، “الدولشفيتا” مثلا، كان في وسعك أن تلتقي حول طاولة واحدة بِالشَّاعِرِ الْعَرَبِيّ الباحث عن الهواء لرئتيه، والسياسي المعارض، والثائر الهارب من الملاحقة، والمفكر المطرود من جامعته بسبب أفكاره، والعسكري الذي فشل انقلابه، أو أطاح به انقلاب، فقد كان صدر بيروت يتَّسع لهؤلاء وغيرهم، ممن دفع بهم الاستبداد الْعَرَبِيّ إلى الرَّحيل عن الأوطان.

ولو أنت فتشت اليوم مذكرات هذا وذاك من الشُّعَراء والكتاب والمفكرين والسياسيين والثائرين والعسكريين العَرَب، ممن كتبوا مذكراتهم، سوف تعثر على شارع الحمراء، ومكتبة أنطوان، وشارع المكحول، ومقهى الدولشفيتا، وساحة البرج، وفندق السان جورج، والجامعة الأميركية، وصخرة الرَّوشة، وشارع الفاكهاني، ومخيم صبرا، وغيرها من المعالم البارزة في بيروت عاصمة الهاربين من قمع عواصمهم.

لَكِنَّ بيروت لطالما كانت شارعاً زائغاً، ومدينة خطرة، بكل المعاني، عرفت تحولات شتى بدَّلت في ملامحها، فبيروت الستينات التي لمع فيها نجم غير شاعر وأديب ومفكر لبناني وعربي، لن تكون المدينة نفسها في العقد التالي، خصوصاً بعد توقيع اتفاق القاهرة، وتشريع العمل الفدائي المسلح، وستعمل الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 1975 على تقسيم بيروت ونزع القشرة السويسرية عنها، وفي العقد التالي سيتكَفَّلُ الاجتياح الإسرائيلي الذي أخرج المقاومة من لبنان في خريف 1982 أن يسجل باسم أحد أحياء المدينة الذي يقطنه لاجئون فلسطينيون ما اعتبر مذبحة العصر، وتدمير جزء من عصب التمرّد في المدينة، وإسباغ وجه جديد على بيروت المغدورة التي ستطلق حركة مقاومة ضد الاحتلال، سرعان ما ستتمكن إيران من اختطافها تماماً، ومذّاك وحتى اليوم ستكتسب بيروت وجها آخر.

***

مذكرات

في السِّتينات، عندما لمع نجم أنسي الحاج شاعراً متمرداً، وواحداً من اثنين اعتبرا أبرز رائدين لقصيدة النَّثْر الْعَرَبِيَّة، كانت بيروت تشهد نهاية حقبة شِعْرِيَّة وأدبية عربية، وتؤسس، براديكالية ملحوظة، لزمن شعري جديد، خرج فيه الشِّعْر الْعَرَبِيّ بلغته وأخيلته وأزيائه وتطلّعاته عَن كل الأعراف التي ظَلَّتْ راسخة في فن الشِّعْر حتى أواسط القرن العشرين، وكان أساسها العمود الشِّعري، أو عَمود الشِّعر ذُو الطَّواطِم (الأركانِ) السِّبْعَةِ المُتوارثَة من زمنٍ بَعيدْ.

لَكِنْ ما أمكن لبغداد أن تظهِّره من إرهاصات في ثورة الشِّعْر الْعَرَبِيّ، وتحوّله إلى شرارة كبيرة تمثلت في تجارب الملائكة والبياتي والسياب، وما سمّي مع أواسط القرن الماضي بِالشِّعْرِ الحر، كانت بواكير هذه الحركة وملامحها الأولى قد بدأت طفولتها مع تجارب وحركات شِعْرِيَّة ربطت القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت بالمهجر الأميركي، منذ الربع الأول من القرن العشرين، كل هذا كانت تعوزه خِفَّةُ بيروت وحيويتها، وقدرتها على التفلّت من القيود الآسرة للقمع الْعَرَبِيّ، حتى يلقى هذا الجديد الاحتفاء به، والرافعة التي ستجعل منه حدثاً أدبياً يسافر في العواصم الْعَرَبِيَّة تحت أبصار تتلهف إلى الجديد، وتتلقفه ذائقة الأجيال الجديدة.

بيروت كانت القادرة على ذلك، بفعل وجود منابر أدبية كمجلات: “الأديب” لمؤسِّسها ألبير أديب؛ و”الآداب” لمؤسِّسها سهيل إدريس؛ و”الطريق” لأعمدتها عمر فاخوري، رئيف خوري، محمد دكروب، حسين مروة، محمد عيتاني، وغيرهم من نخبة مثقفي الحزب الشيوعي، و”شعر” و”أدب” ليوسف الخال، وفؤاد رفقة، وعلى أحمد سعيد، وأنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وغيرهم من مثقفي الحزب السوري القومي الاجتماعي، و”حوار” لتوفيق صايغ، وغيرها من المنابر الطليعية التي توالى ظهورها على أيدي أدباء يساريين وقوميين وليبراليين لبنانيين وعرب، إلى جانب صحف يومية وملاحق ثقافية، ومجلات أسبوعية، هذا الحشد المذهل من الورق المغامر، مما كانت تفتقده، أو أخذت تفقده مع وصول العسكر إلى الحكم كل من القاهرة، وبغداد، ودمشق، وهي العواصم الكبرى التي خضعت لهيمنة الحزب الواحد على الدولة والمجتمع، والذائقة العامة، هو ما جعل من بيروت تدريجياً جنّة الْمُثَقَّفِيْن العَرَب في ظل جحيم الاستبداد الجديد، ومنصّة كل جديد في الأدب والفكر والفن.

أعطت بيروت زوّارها والمقيمين فيها من الأدباء العَرَب، أكثر مما أعطتهم كل العواصم التي زاروها أو أقاموا فيها فترة من حياتهم.

لَكِنَّ هذه الصورة لبيروت تعرضت للاهتزاز مراراً، رغم مكابرتها وصمودها في وجه الحملات المتعاقبة عليها، من الداخل ومن الخارج، كان أخطرها على الإطلاق هو ما صنع صورتها الراهنة في ظل حالة اختطاف لكامل لبنان، المشلول والأسير عند مرجعية سياسية وفكرية وعسكرية تبعد آلاف الأميال عن لبنان.

على هذا القوس من التَّحولات عبرت صورة أنسي الحاج، من شاعر متمرد يصدح بـ: “لن”، و”كَلِمَات”، ويطل برأسه من قلعة الاعتدال اللبناني: صحيفة “النهار” التي كانت أبرز المنابر المعبرة عن كيان الدولة اللبنانية، كما جرى تعريفه في أدبيات الليبراليين اللبنانيين، إلى شاعرٍ نزيلٍ في صحيفة: “الأخبار” التي لا يعترف أصحابها بالكيان اللبناني إلا بوصفه خندقاً من خنادق المشروع الإيراني العابر للحدود. وهو، وإن بات يشترك مع زياد الرحباني في سكنى هذه القلعة، فإن الفارق الأساسي بين الشَّاعِر والموسيقي، أن الثاني لم يؤمن يوماً بالكيان اللبناني، بل لطالما كان ينتسب بأفكاره إلى تلك اللينينية الفانية التي لم يبق من أنصارها في المشرق العَرَبي سوى حفنة من التعساء، في حين لم يفصح أنسي الحاج يوما عن ولعه بأيّ أيديولوجيا شمولية، بل على العكس من ذلك كان، باستمرار، صوتاً مفرداً، بل وأميل إلى أن يردد مع الفوضويين: “الفرد هو الحق أما المؤسسة فهي الباطل”.

من المؤسف، أن أنسي الحاج، اضطر، لسبب ما، أن يسكن هو وزياد غرفة واحدة في قلعة تسكنها الأشباح، وتسن في مداخلها السكاكين والبلطات المرسلة من الولي الفقيه في قم.

***

أعترف أَنَّنِي، ولفترة من الزَّمَن، شغفت بشعر أنسي الحاج. لم أعد كذلك اليوم، لكنني أعتبره أحد الأصوات الشِّعْرِيَّة الْعَرَبِيَّة التي لم يكن من الولع بها بدّ لفترة من الزمن، لاسيما بِالنِّسْبَةِ إلى أولئك الشُّعَراء الذين سكنوا تلك المدينة المتمردة في مقتبل أعمارهم،  لِتلعب هذه الـ”بيروت” دوراً ما في ظهور تجاربهم وأسمائهم. أنسي كان بين تلك الأصوات المُلْهِمة لأصواتنا، نحن الذين اعتبرنا الشِّعْر أفقا للتمرد، وفضاءً جديداً وجريئاً لاختبار الحواس والأفكار.

أفكر به اليوم، أفكر بأنسي مسترجعاً بعد “لن”، الذي أضجره إعجابنا به، “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”، و”ماذا صنعت بالذّهب ماذا فعلت بالوردة”، و”الرأس المقطوع”، و”ماضي الأيام الآتية”.

لعل أنسي نفسه، كتب سيرته، وسيرة مدينته، واستشرف مصيره ومصيرها، على طريقته، بدءاً من عناوين مجموعاته الشِّعْرِيَّة. وما من شك عندي في أن في بعض شعر أنسي بعض ضوء مرسل إلى المستقبل.

***

ما سلف كان صفحات دونتها في حينه، لمّا كان أنسي على فراش الموت، ولم يكن وحده على ذلك الفراش، كانت بيروت أيضا تحتضر هناك، ترتجف وتذوي، ثم تتخبط، وإذ هي تحاول أن تنهض من ذلك الفراش، كما تفعل العنقاء، وهي تجرّبُ أن تطل برأسها من الرماد، يبرق عند شاطئ البحر الانفجار المهول. ويلتهم اللهب العمران والإنسان.

لكن العنقاء لا تموت، فنهر الدم في الجوار بات يصب في سفح الجبل، والباب الذي بكل يد مضرجة يُدق صار أبواباً.. ولئن أمسى كل شيء بين دمشق وبيروت رماداً، فالعنقاء لا تخرج إلا من الرماد.

 

لندن في آذار – مارس 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.