كيف يقرأ الشاعر قصيدته؟

حيرة الشاعر وأسئلة الشعر
الجمعة 2022/07/01
لوحة: حسين جمعان

إذا كان الشعر سؤالاً مفتوحاً على أسئلة الوجود كله، فهل يجوز أن تكون صنعة الشعر يقيناً؟ وهل يعقل أن يجيب شاعر عن سؤال يتعلق بأسرار صنعته إجابة قاطعة تحمل في الجوهر منها يقينا أو تصدر عن يقين؟

انشغل الشاعر العربي الحديث، بصورة مستمرة، بمحاولة تعريف صنيعه، وتحفل أقوال الشعراء العرب بعبارات من طراز “أنا لا أكتب القصيدة، القصيدة هي التي تكتبني”، وغالبا ما يتورّط الشعراء الجدد بتقليد الشعراء الأكبر سناً منهم باعتمادهم مثل هذه الصيغ البالية، و”الكليشيهات” المستهلكة، ثم ينقلبون عليها لاحقاً، عندما يكتشفون تناقضها مع صنيعهم الفني.

شخصياً، وعلى الرغم من إعجابي بأفكار هايدغر حول الشعر والشاعر واللغة والزمن، لم أسمع في حياتي كلها، ولربما أنتم مثلي أيضاً، عن قصيدة كتبت شاعراً، فهذه ترّهة، واستخفاف بحقيقة موضوعية مدهشة تتمثل في شخص يكتب قصيدة. هي صورة من صور المبالغة المجازية التي سرعان ما تنقلب إلى تزوير. كان يمكن في ما مضى أن يكون لها مبررها الجمالي والأخلاقي عندما كان الشاعر ما يزال مسحوراً، يسير في ظلال هذه الأسطورة، طامحاً إلى الخروج عليها حيناً (أبوالعلاء) وإلى التمتع بها حيناً آخر (المتنبي)، الشاعر الحديث تجاوز هذه الحالة وأدواتها، لأن عصره تجاوزهما.

واليوم، فإن “المتنبي الحديث”، وهو قناع تزيا به غير شاعر “حداثي”، هو كما يتراءى لي، صورة من صور النكوص المرضي إلى الماضي، وعلامة من علائم الإحباط، ودليل على تقهقر فكري وجمالي، وإعلان عن عجز العربي عن دخول الزمن بالأصالة عن الذات، وليس بالنيابة عن أحد، أو بقناعة!

***

كتبت مرة أن على الشاعر الحديث أن يكتب كتابه الشخصي، وأن يكون شخصاً، لا أن يكتب “الكتاب” المقدس ليكون دوراً، وعلى الرغم من مرور زمن طويل على ذلك، ما زلت إلى اليوم أجد فرقاً بين “الشخص” و”الدور” عن الفرق نفسه بين “الوجه” و”القناع”، وهو نفسه الفرق بين الـ”كتاب” و”الكتاب”، بين الشاعر في كينونته الأكيدة ذات الماهية الإنسانية، وبين “المتنبي” المشكوك بنبوّته، وبالتالي بوجوده الخارق للطبيعة الإنسانية.

إن السؤال حول “صورة” الشاعر الحديث في زمننا هو سؤال حول إنسانيته الأرضية، حول جوهره العميق، ومعنى وجوده في العالم، يجب ألاّ ننسى أن جميع الدكتاتوريين خرجوا من وراء أفكار “الإطلاق” وأن أسطورة مّا هي التي أعطتهم مسوّغ وجودهم واستمرارهم وربما تحكّمهم بالناس، وأن الشاعر المتورط بفكرة الرائي النبوي عن نفسه وعن عالمه الخاص هو أحد الذين مدوا الدكتاتوريين بأسباب البقاء، وبالتالي، ساهموا في صناعة المآسي.

***

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

كيف يقرأ الشاعر قصيدته؟ وماذا يجد فيها خلال قراءته، وهل يكون مثله مثل القرّاء، أم أن للقراءة حياةً أخرى لديه؟

عندما يتأمل الشاعر في تجربة كتابة شعرية سابقة له، بقصد التحدث عنها، إنما يفعل بشيء من المكر، بشيء من الوعي الإضافي على وعي ومشاعر سابقين كانا في أساس تلك التجربة، وبالتالي، فإن مستوى نضج ملاحظاته وهو يتكلم عن تجربة كتابة قصيدة قديمة له، قد يطمس بحذاقة هفوات فنية في شعره، ليس لأنه قد يقول ما ليس في قصيدته، وإنما لأنه سيقول ما في نفسه، والواقع أن الأمر معقد، ففي الطيّات العميقة من كل قصيدة أسرار ربما لا تتكشف لنا من القراءة الأولى، وقد لا تتكشف حتى للشاعر الذي كتب القصيدة.

مع كل كتابة جديدة له، يلاحظ الشاعر بغبطة مقلقة أحياناً، تحقق شيء من تطلع فني وجمالي ورؤيوي سبق أن صبا إليه وشغله يوما، إلا أن الأكثر حقيقية في الأثر الفني الجديد أن هذا الأثر يشكل “مقبرة” لتجربة سابقة لنفترض أنها قصيدة، أو قصائد منشورة في كتاب؛ فبفعل كفاح شعوري بطيء متواصل، وبحث رؤيوي مستمر، يتمكن الشاعر من قتل ما تؤسسه التجربة السابقة في مشاعره وفكره، ودفن ما جرى قتله في طبقة غير مرئية في الأثر الجديد، بل إن الشاعر يمكن أن يحس في أوقات مّا، عندما يمسك كتاباً جمع فيه قصائده الجديدة بكاءً كتيماً وبعيداً للمشاعر والرغبات والتأملات الأولى التي كانت في كتابٍ سَبَقَ، فإذا بها تتلامح هنا في كتاب جديد، لكنها لا تنفصل وتستقل عن مشاعر وخبرات وتأملات ورغبات مرتبطة بالضرورة بقصائده الجديدة، هذه مسألة مثيرة بالنسبة إليّ، وربما لا يمكن لشخص، مهما كان قريباً من الشاعر، ومهما كان مرهفاً ومتفهماً لأحواله، أن يدرك هذا الغور من التجربة وأسرارها.

الشاعر مع لحظة إدراك كهذه يصبح شخصاً معذباً بأسراره الأولى. إنها مسألة تتعلق بصراع غريب من نوعه بين زمان ظنناه انصرم، وزمان راهن ينصرم، باستمرار، وزمان سرّي متّصل هو زمن الفن الذي يصل بينهما. إنها لعبة الوقت في علاقة الفنان بتاريخه الشخصي وخبراته الشعرية، وفي هذه اللعبة، فإن الأثر الفني (القصيدة)، على قدر نضجه، يبدو خصماً ضعيفاً أو قوياً للزمن، وكذلك خصماً وصديقاً لكل ند (قصيدة أخرى للشاعر)، ثم خصماً قوياً للشاعر نفسه. وهو ما يجدد العلاقة بين القصائد والأرواح التي تصطخب فيها، على سبيل القبض على الأشياء الهاربة، وحيازة المستقبل.

***

من هنا، يمكننا الوقوف على فكرة طالما وجدناها غريبة وغامضة، هي فكرة الانتحار، انتحار الشاعر وانتحار الفنان. إن صراع الجمال في الآثار الفنية لفنان، ربما يصبح – إذ يعنف ويشتد – العتبة التي تقوده إلى الانتحار، والغريب أن النقاد يفتشون “عادة” عن أسباب خارجية، وقد يكتشفون أسباباً مقنعة لانتحار شاعر، ومن ثم يتأسس على “ما اكتشفوا” واعتقدوا أنه الأسباب المرجّحة لحالة انتحار جدل ثرثار أقربه إلى الصواب لا يعدو أن يكون عنصراً ثانوياً في شبكة الأسباب. وبدهي أن العلة تكمن في كونهم قلّما تمكنوا من اختراق التجربة الفنية إلى أعماقها، لأن الغالبية منهم تقرأ في النصوص والتجارب ما تريد أن تقرأ، وترى فيها ما تريد أن ترى، فتبقى في عتبة النص، وأحيانا خارجه تماماً، في نصوصها هي، أسيرة أولوياتها وضحية مناهجها. والقلة من النقاد هم أولئك الذين يخترقون الجمال الفني، وينفذون إلى عوالمه، ومن هناك يلامسون شيئاً من مجهول النفس التي أبدعته ويتعرّفون إليها. ومع ذلك، فإن هؤلاء الأقرب برؤاهم النقدية من الخلق الفني لطالما أبدوا حيرتهم الصادقة من فكرة انتحار الفنان.

لماذا أطرح هنا فكرة الانتحار والموت؟ لأنها تشكل منذ السطور الأولى في شعر شاعر رومنطيقي الموضوعة الأكثر جاذبية وإغراء وإلحاحاً، وهو لا يني يلبي هذا الإغراء، ويسلم نفسه إليه، فيؤلف حضوره السري بألوان وأصوات ومناظر ومعاينات وأفعال قد تلفت بعضنا فيها شتى الموضوعات والاهتمامات، ويسحرنا ما فيها من غنى يأخذ إلى مناطق بعيدة عن تلك المنطقة: الموت، فنمرّ عنها، ولا نتنبه إلى وجودها.

إنما، فجأة، وكما لو كان لغماً أرضياً وقدماً بلغته، تقع الحادثة المفاجئة ويتضرج الشاعر بدم التجربة، ولسان الشاعر العربي القديم هو لسان حاله في كل العصور:

وأنا الذي أجتلب المنية طرفُهُ

فمن المطالب والقتيل القاتل.

هكذا سقط شعراء عرب في هاوية التجربة، وما الأسباب التي ظننا أنها هي التي قادتهم إلى الانتحار غير ذرائع لنا ولهم، أو هي “الشعرة القاصمة”، إنما وراء تلك الشعرة جبال من الألم والأثقال، وأكمات غامضة تهيم وراءها نفوس تقطعت صلاتُها بالعالم.

***

اكتشف الشعراء الجدد أن انعكاس العالم في الشعر، هو خير دليل على مدى ارتباطه بعالمه وزمنه، وأن تعبير الشاعر عن ذاته الفردية، وأناه العميقة، وانفعاله الشخصي بعالمه، في لغة مبتكرة، هو أساس التجربة الشعرية، أما “الوظيفة” التي دأب بعض النقاد على مطالبة الشعر الالتزام بها، فهي تطالب الشعر بألاّ يتغير، ليواصل تقاليده القديمة، بل تطالبه بالصعود إلى سطح الأشياء، متخليا عن الأعماق التي تضطرم في اللغة والشعور والوجدان.

بالمقابل عندما نتحدث عن انعكاس العالم في اللغة وتجلي الأشياء في الشعر، إنما نلامس خواصها ومساحاتها المنظورة وكذلك تلك المتوارية في غلالات اللغة ووراء المنظور من أسرارها وأسرار الخيال الشعري.

 

لندن- الأول من تموز/يوليو 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.