أب وابن

 شادي حمادي
الاثنين 2021/03/01
تجربة حياة (غرافيكس "الجديد")

1 –  محمد

قد يبدو الأمر غريباً، لكنني لم أعرف مطلقًا الشخص الذي تعلمت منه أكثر من غيره في الحياة والذي ترك بصمة في تأهيلي.

اسمه محمد حمادي، ولد في تلكلخ، بلدة سورية صغيرة على الحدود مع لبنان. كان رجلا مؤمنا وكان جدّي.

في الفترة ما بين العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، كانت سوريا تمر بواحدة من العديد من اللحظات الانتقالية في تاريخها المعقد، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، تخلصت من الحكم العثماني لتحقيق الاستقلال المنشود. بعد الثورة العربية عام 1916 – 1918، أصبح فيصل بن الحسين بن علي، ملك العراق، ملكًا على سوريا لمدة عامين، مبادراً، أو على الأقل محاولاً إقامة ملكية مستقلة.

لم يدم حلم الحرية طويلًا لأنه وفقًا لانتداب عصبة الأمم واتفاقية سايكس بيكو التي، بدءًا من عام 1916، قسمت فرنسا وبريطانيا العظمى الإمبراطورية العثمانية السابقة، وفي عام 1920، استقر الفرنسيون في أرضنا. تم تكليف البريطانيين بالسيطرة على الأردن والعراق ومنطقة صغيرة حول حيفا، وعهدت إلى الفرنسيين منطقة جنوب شرق تركيا وشمال العراق ولبنان وبالطبع سوريا. كانت هذه سنوات من الصدامات والثأر المتبادل، من الأحقاد التي ظهرت على السطح في الأشهر التي أعقبت تغيير السلطة وغالبًا ما أدت إلى نزاعات بين الموالين السابقين للحكومة التركية والموالين ﻠ”سادة” سوريا الجدد.

في السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، كان جَدّي محمد، المولود عام 1861، يدير بعض الأراضي الزراعية ويعمل لحساب أصحاب هذه الأراضي الخصبة والمعطاء؛ بفضل مهاراته كوسيط ورجل صالح، عهد إليه الأتراك بمهمة إدارة العلاقات مع العديد من المسيحيين الذين يقطنون في تلك البقعة من سوريا. واصل جدي المفاوضات، محافظاً على هدوء الأنفس، وحلّ النزاعات المتعلقة بالأراضي، وبفضل حكمته، عرف كيف يكون جسراً بين الطرفين وبين الديانتين.

لكن مع قدوم الفرنسيين، بدأت الأعمال الانتقامية ضد أولئك الذين خدموا وعملوا مع الأتراك، ولم تفلت تلكلخ أيضاً من المذابح والعنف العشوائي. كانت هناك اعتقالات وجرائم قتل وشنق. قاموا بغربلة السكان لأنهم أرادوا محو آثار ماض باهظ للغاية تعرض فيه المسيحيون لتمييز حقيقي، خاصة في بعض أجزاء البلاد. في بحثهم عن الرجال الموالين لتركيا، وصل الفرنسيون إلى جدّي أيضًا، متهمين إياه بأنه جزء من نظام السلطة القديم؛ انتشلوه من المنزل وأخذوه بالقوة، ولكن عند هذا الحدّ حدث شيء غير عادي.

عندما انتشر خبر اعتقاله في القرى المسيحية المجاورة، بدأ شيء ما يتحرّك بشكل عفوي. تذكر الكثيرون محمد، الرجل الصالح، الذي ساعد الجميع ولم ينظر أبدًا إلى أيّ إله تميل قلوب محاوريه. بالنسبة إليه، المسلم، كان الفقراء هم أنفسهم تحت أيّ معبد، وخلال سنوات عمله العديدة للإمبراطورية لم يلاحظ أبدًا أيّ صلاة كان يتلوها الناس أمامه أو في أيّ كتاب وضعوا آمالهم.

كانت لديه كلمة طيبة للجميع، لقد ساعد الجميع، وكان أخًا للجميع. خاصة من أفقرهم الذين في تلك السنوات التي لا تنتهي من العنف والكراهية، كانوا هم أولئك الذين دفعوا الثمن الباهظ.

وصلت بعض الوفود وحتى بعض القساوسة من القرى المجاورة للتحدث مع الفرنسيين والمطالبة بالإفراج عنه. لقد اعتبروه واحدًا منهم، صديقًا، رجلًا من جماعتهم، إن لم يكن دينياً، كان من المجتمع الإنساني التي يسكن أرضًا دون سلام. وافق الفرنسيون على مطالب المسيحيين وعاد جدّي حراً، مفضلاً مغادرة تلكلخ إلى إحدى القرى التي أنقذته.

في عام 1927، قامت عائلة والدي بتحميل أمتعتها وكل طفل على بغل، وقرّرت مغادرة منزلها للبحث عن مأوى آمن جديد في مكان آخر.

ملأت هذه القصص طفولتي، كان والدي يدعونا للالتفاف حوله ويبدأ يتحدث إلينا عن جدّه، حتى نتمكن على الأقل من الاحتفاظ بذكرى عنه في دواخلنا. أكثر ما أدهشني هو آخر فصل في هذه القصة، تلك التي تخلى فيها جدّي عن تلكلخ، وكأنها نذير لشيء سيحدث لي أيضًا بعد سنوات. حتى الآن، إذا حاولت تخيل هذا المشهد، فإن قلبي يفيض بالحنين: أرى طريقًا مغبرًا، في صمت قاتم بسبب ألم ما تركوه خلفهم، تخرج أسرة مما كان حتى لحظات قليلة قبل ذلك منزلها لتلجأ إلى مكان يُعتبر، بالنسبة إلى الكثيرين، منزل العدو. مع أجدادي كان هناك والدي، البكر، الذي ولد عام 1912.

ومع ذلك، كان استقبال عائلة حمادي ممتازًا لدرجة أنهم خصصوا لجدّي مكانًا للصلاة أيضًا: تم تجريد ركن من الكنيسة من الصور والأيقونات المقدسة لتحويله إلى مسجد صغير.

هناك شخص ترك بصمة في تأهيلي
هناك شخص ترك بصمة في تأهيلي

لقد تطلّب الأمر سنوات لعودة عائلة حمادي إلى ديارها، سنوات استقرت فيها القوى الجديدة، لكن لم يكن هناك سلام حقيقي فيها؛ لكن محمد إبراهيم حمادي أوجد رابطة بين الناس، واستطاع تجاوز الحواجز، والجمع بين الإسلام والمسيحية بقوة العقل والحكمة. وهكذا أنقذ نفسه وأنقذ أجياله القادمة.

هذا الرجل، الذي لم أره أبداً، والذي لم يبق منه حتى رسم أو صورة فوتوغرافية، غالبًا ما أحس بوجوده بالقرب منّي وأعتقد أن البذرة التي تركها وراءه، بذرة دين منفتح وليس متزمّت، قد ترسّخت في داخلي بقوة وعتوّ واجب أخلاقي. توفي عام 1936، تاركًا وراءه زوجة، جدّتي، عيوش العكاري، التي عاشت بعده حوالي عشر سنوات.

لطالما سكنت العلاقة بين الإسلام والمسيحية حياتي، والبحث عن النقاط المشتركة، والحوار، وفي وقت لاحق، حتى الزواج المختلط، أصبحوا يشكلون جزءاً من طريقتي في رؤية العالم والإيمان. أنا مدين لجدّي بفكرة الدين التي حصلت عليها، والرغبة في الاستماع، والثقة في الآخرين، وحقيقة أنني قبل أن أسأل عن الإله الذي يؤمن به، ومن أمامي، أفضّل أن أعرف ما إذا كان قلبه نقياً.

اختار والدي، إبراهيم محمد حمادي، بدلاً من ذلك طريقًا مختلفًا عن مسار جدّه. عندما قرر في عام 1929 الانضمام إلى الفرنسيين، فاجأ اختياره الجميع. انضم إلى ذلك الجيش الذي بدأ بالسيطرة على المنطقة. كان جنديًا وشرطيًا وحارساً، وكان هروبه من عالم والده مرتبطًا بالرغبة في الشعور بالحرية، ولئلا يضطر للعمل تحت إمرة رئيس. لم يكن ليحتمل أبدًا، كما كان جدّي، أن يكون في خدمة الآخرين، ملاك الأراضي الذين يسيطرون على ثروات أرضنا ومصيرها. كونه جزءًا من جيش، وكونه حارسًا، فقد منحه دورًا أكثر حرية وجعله يشارك في مصير سوريا.

كان جزءًا من الجيش الفرنسي في سوريا لسنوات، وطوال تلك الفترة لم يكن يريد إطلاق النار على شعبه. كان هذا أحد أسباب تركه للجيش قبل عام 1946، عندما غادرت القوات الفرنسية البلاد نهائيًا. لقد سمعت منه العديد من القصص عن الفظائع التي شاهدها. على وجه الخصوص، أتذكر قصة أحد المناصرين من حمص الذي أسره الفرنسيون: أعدم هذا الرجل رمياً بالرصاص في دمشق، ثم صلب بمسمارين في يديه خارج البرلمان السوري، كتحذير للجميع.

على عكس والده، لم يكن رجلًا مؤمنًا، ولم يذهب إلى المسجد وكرّس حياته كلها للعمل. بعد عودته من الجيش، افتتح متجرًا، متجرًا تجاريًا كبيرًا ما زلت أتذكره جيدًا حتى اليوم، حيث اعتدنا نحن الأطفال الذهاب للعب، ثم، في سن أكبر، للمساعدة خلال أيام الصيف الطويلة والحارة. كان يبيع كل شيء: أقمشة وسلال وصابون وكل ما لا يؤكل.

في ذلك الوقت كان هناك متجران في تلكلخ، وكان متجر عائلتنا يتردّد عليه خاصة الفلاحين والناس الأكثر فقراً في المنطقة. غالبًا ما كانوا يأتون لأخذ البضائع ويخبروننا أنهم سيدفعون لنا بعد شهور، أو حتى بعد عام، أي فقط عندما سيثمر محصول القمح أو الأرز. كان الكثير من الناس يفعلون ذلك، وكان والدي يمنحهم الدين الذي يطلبونه، ويحتفظ بسجل بأسمائهم ومتى سيسددون ديونهم، والبعض لم يسدده أبدًا… المتجر الآخر في المدينة كان يتردد عليه بدلاً من ذلك أغنى الناس في تلكلخ، أصحاب الأرض، وحتى في هذه الحالة كان من المعتاد المبيع بالدين، وحتى عرض قطعة أرض مقابل البضائع. ومع ذلك، لم يكن العمل سيئًا، وقد سمح ذلك العمل لوالدي بشراء خمسة منازل والتي، كما كان يقول، ستكون تقاعده الذي لم يتمكن من الحصول عليه بانخراطه في الجيش الفرنسي.

عندما أكون معه في المتجر، كانت تذهلني قدرته على المساومة، والطريقة التي كان قادرًا على إرضاء العملاء بها واللطف الذي يبديه في كل علاقة؛ بعد سنوات، كنت أنا أيضًا أشتري وأبيع جميع أنواع السلع للعمل، كانت الدروس المستفادة في ذلك البازار من أزمان ماضية، ذات إفادة مضاعفة. سواء كانت آلات طباعة أو حقائب أنيقة أو قماش مشمّع لتغطية المحصول، ومعرفة كيفية البيع هو فن يجمع بين البراعة والثقة والقدرة على الاستماع للآخرين. أعتقد أننا، آل حمادي، نمتلكها. لقد أقام والدي أيضًا علاقات ممتازة مع الطائفة المسيحية بمرور الوقت، لاسيما مع عائلة من الموارنة الذين كانوا يعيشون بالقرب من تلكلخ، وأتذكر أنه في كل عام، في عيد الميلاد، كنا نذهب إلى منزلهم سيرًا على الأقدام لتقديم الهدايا والمشاركة في احتفالهم. أحد أبنائهم، بعد سنوات، منح ورثته أسماء إخوتي وفقط عندما ذهب إلى الكاهن لتعميد آخر مولود له باسمي، محمد، رفض القس وأجبره على اختيار اسم توراتي. تدفّقت حياتنا بكل بساطة وهادئة، عشنا في واحد من أوائل البيوت المبنية بالإسمنت التي كانت تحل محل البيوت الطينية التي تنزّ ماء داخلها وتجعل تلكلخ تبدو كقرية من عصر آخر. في المنزل الذي بناه جدي لوالدي، كان لدينا فناء به حديقة ونافورة، وأراد الجد تدشينه بجميع الطقوس والاحتفالات التقليدية الإسلامية. أخبروني أنه كانت هناك موسيقى في ذلك اليوم، ورقص الدراويش. في زوايا المنزل، كان جدي – المخلص للتصوف الصوفي – طلب غرس دروع في الحائط، وتغطيتها بالإسمنت. بينما تمسّك مقابض السيف بالثريات المعلّقة بالسقف. بعد هالة القداسة القديمة تلك، كانت علامات التفاني الصغيرة هذه ستبقي الكوارث بعيدة، وتحافظ على خيرات عائلتنا لسنوات قادمة.

هذا المنزل لا يزال قائمًا، يسكنه الآن بعض أفراد الأسرة، مجانًا كما يحدث لجميع المنازل التي بناها والدي وكما أراد أن يكون بعد أن يرثوها، ونجا من قصف عام 2012 دون أن يصاب بأذى، والذي حوّل تلكلخ إلى بلدة خراب.

ربما كانت تلك الدروع، التي كانت جزءًا لا يتجزأ من المنزل منذ مئة عام حتى الآن، قد أثبتت أنها أقوى من الجنون المدمر للإنسان.

لن أكون قادرًا على العودة إليه، لكنني ما زلت أتذكره بكل جماله، مع الدفء العائلي الذي يلفّنا، أحفاد محمد إبراهيم حمادي، في كل مرة يعبرون فيها الباب لدخول تلك الجدران الصلبة كما تخيلها الجد وأرادها لمن سيأتي بعده.

في غضون ذلك، استمرت سوريا في التغيير. بعد الحرب العالمية الثانية، من 1 كانون الثاني/يناير 1946، نال شعبي استقلاله مرة أخرى، ومع ذلك، خلال عشر سنوات، توالت عشرون حكومة بطريقة غير حاسمة، واستمرت الأمور في سنوات مضطربة ومرهقة للجميع: الانقلابات، التدخل الأجنبي، الاتفاقات مع الدول المجاورة التي انتكست بعد ذلك في غضون بضعة أشهر. في أرض بلا سلام، في 13 نوفمبر 1970، أصبح وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد رئيسًا للبلاد على إثر انقلاب. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم عائلة الأسد هي صاحبة أرضي، والجميع يعرف كم من الدم كلّف ذلك.

العلاقة بالمكان
العلاقة بالمكان

عشت في أماكن كثيرة: سوريا ولبنان والكويت وإسبانيا وإيطاليا، ولن أتمكن من العودة إلى بعض الأماكن. تعلمت على مرّ السنين أن أنسى ألم فقدان المنزل وأن أفهم أن العالم بأسره يمكن أن يكون بيتي. كل العالم ماعدا وطني.

اليوم بالنسبة إليّ، أصبحت سوريا ذكرى بعيدة، لم أعد أحس بها كثيرًا، لكنني حملتها لسنوات في صمت، وأبقيتها بعيدة عن الآخرين. في تلك الأرض انتابني الأمل، حاربت، وآمنت، اعتقدت أنه من الممكن أن أزرع أحلام الحرية، لكنني أدفع ثمناً باهظاً لتلك الرغبة.

في سنوات شبابي، عندما كنت لا أزال طالب قانون خجول في لبنان، كنت آمل أن تكون فكرتي وفكرة العديد من الرجال مثلي، هي السبيل لاستعادة الكرامة والحرية لشعب بأكمله.

كانت لهذه الفكرة قوة جاءت من المثقفين والكتاب والسياسيين (عبدالناصر وجورج حبش وليلى خالد على سبيل المثال لا الحصر الذين اتخذوا فيما بعد مسارات مختلفة تمامًا عن بعضهم البعض)، وبالنسبة إلى أرواحنا الشابة بدا أنه الاتجاه الصحيح لإعادة النهضة، ليس لسوريتنا الحبيبة فقط، بل للوطن العربي كله.

كان لهذه الفكرة اسم اليوم هو أكثر من مجرد نفس، صوت بعيد، لا يثير أيّ شيء، ولكن في ذلك الوقت كان قادرًا على ضمان أن الفتيان في سن الثامنة عشرة سيضعون حياتهم على المحك. لكن قبل كل شيء أخافت هذه الفكرة الدكتاتورية لدرجة أن النظام كان على استعداد لسجن العشرات والعشرات من الفتيان الصغار في سوريا وتعذيبهم، وانتشالهم من منزل إلى منزل، وجعلهم يختفون، وتدمير حياتهم في جو من الخوف والعنف المستمر. هذه الفكرة كانت تسمى “القومية العربية”.

القومية العربية لها أصول قديمة، تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما بدأ بعض المثقفين يبحثون عن طريقة لتوحيد العالم العربي، الذي كان يرزح تحت الاحتلال العثماني، وأن يذهب أبعد من التعريف الديني العام للإسلام. هذه الفكرة، التي تكاد تكون طوباوية، أدت على مرّ السنين إلى ولادة اتحادات وتحالفات وأحزاب وحركات، وأعطت متنفسا لقادة عظماء ودغدغت أحلام العديد من الشباب مثلي، حتى رأيناها تتحطم بسبب الخيانات (على سبيل المثال حزب البعث الذي تحول من مؤيد لها إلى عدوّها الأول)، اشتباكات بين الأشقاء وعلمنة مستحيلة على ما يبدو للعالم العربي.

هذا المثل الأعلى، تلك الوحدة التي كانت قادرة على إحلال السلام الدائم في العالم العربي بأسره لم تتحقق أبدًا، إن لم يكن لفترات قصيرة، وسرعان ما انسحقت بسبب الهجمات والانقسامات الدموية.

ربما لم يُظهر العالم العربي نفسه أبدًا على استعداد لمصالحة سلمية مع تاريخه، وأن الشعب، إذا كان لا يزال من الممكن احتواؤه تحت نفس الهوية، لم يكن أبدًا مهندس مصيره. المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لتلك المنطقة الجغرافية أكبر من ألاّ تلفت انتباه أوروبا والولايات المتحدة وروسيا والصين، وما بدا ذات يوم مصيرًا لا مفرّ منه لنا نحن الشباب السوري والمصري واللبناني، تحول بدلاً من ذلك إلى تدهور بطيء وغير ديمقراطي لا يرحم.

كان الصراع المستمر بين إسرائيل والعالم العربي محركًا للتوترات، وكانت سوريا دائمًا المركز الجغرافي والعصبي للاشتباكات التي بلغت ذروتها في عام 1956 بأزمة السويس، والتي تم فيها إعلان الأحكام العرفية. واصطفت القوات السورية والعراقية في الأردن لمنع الغزو الإسرائيلي، بينما وقّعت سوريا في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه معاهدة مع الاتحاد السوفييتي للحصول على مساعدات عسكرية واسعة. تم تحديد الطريق: تحالفات، خيارات ميدانية، أحلاف، انقلاب حزب البعث في عام 1963، وصعود الأسد إلى السلطة في عام 1970 والذي سرعان ما تحول إلى دكتاتورية.

وفي تلك السنوات من الارتباك والنضال، كان ضميري المدني يتشكل.

ولدت عام 1943 في تلكلخ، كنت الأول من بين تسعة بنات وأبناء ينتشرون اليوم مع أحفادهم في جميع أنحاء العالم، من فرنسا إلى الولايات المتحدة، ومن لبنان إلى هولندا. إنه ليس وضعًا غير عادي بالنسبة إلى السوريين، الذين كانوا دائمًا شعبًا أُجبر على الفرار، ليضيعوا في العالم، مثل العديد من الشظايا الصغيرة التي ألقيت بفعل قنبلة انفجرت ولم تترك سوى الأنقاض في مكانها. يعيش السوريون اليوم في العالم، بينما لم يعد العالم يعيش سوريا.

حصلت مقاربتي الأولى للسياسة في سنوات دراستي الثانوية، في حمص، عندما توقف فتى أكبر مني في أحد الأيام ليسأل عمّا إذا كنت أرغب في الانضمام إليه وإلى آخرين في اجتماعهم. لقد أحببت فكرة أن أكون جزءًا من مجموعة، والشعور بالانتماء إلى شيء ما زلت لا أعرف ما الذي جعلني أقول نعم، وهكذا بدأت في اكتشاف أشياء لم أكن أعرفها، وإلقاء خطابات لم أسمعها من قبل، وامتلاك أفكار جديدة فتحت عينيّ على ما كان يحدث من حولي.

في تلك الاجتماعات، التي لم نكن فيها دائمًا أكثر من خمسة أو ستة أشخاص، كنا نتحدث عن الشيوعية، وندرس أداء الدول الشيوعية وقبل كل شيء نقرأ الكتب التي تتحدث عن الشيوعية.

كنا نقرأ على سبيل المثال “الحزب الشيوعي في إيطاليا” لبالميرو تولياتي، الذي ترجم إلى العربية مثل كتابات غرامشي وتروتسكي وماركس والتي كنا نمرّرها من يد إلى يد ونناقشها، في محاولة لتحليل الاختلافات بين الأنظمة الاشتراكية العديدة في العالم من الكتلة السوفييتية، إلى يوغوسلافيا تيتو، من تشيكوسلوفاكيا أنتونين نوفوتني، إلى النهج الهنغاري لإمرِهْ ناجي. ثم كان هناك جرح فلسطين المفتوح الذي كان يعزف على وتره جزء كبير من القوميين العرب، والذي كان يحتل جزءًا كبيرًا من مناقشاتنا.

كان هدفنا في تلك السنوات من التأهيل الاستثنائي للكادر البشري هو النمو ثقافيًا من أجل بناء معارضة جاهزة يمكن أن تكون بمثابة درع للهاوية التي كانت تنتظر أمتنا. درسنا ليس لتخريب النظام السياسي، ولكن لتثقيف أنفسنا والاستعداد لنكون جزءًا فاعلًا في العملية الديمقراطية. هذا، على الأقل في البداية، كانت نيتنا، قبل أن تتغير الأمور بعد سنوات قليلة ويختار أحدهم مسار النضال كما فعل على سبيل المثال سليم عيساوي، أحد رفاقي السياسيين الأوائل في حمص.

لم يكن من السهل تنظيم اجتماعاتنا، ولم يكن هناك شيء يمكن مقارنته بتكنولوجيا اليوم: للتواصل، كان علينا البحث عن بعضنا البعض، والتحدث وجهًا لوجه، والتأكد دائمًا من عدم وجود أحد يصغي لحديثنا. كنا نعيش في عالم من المخبرين، وتتم مراقبتنا، والطريقة الوحيدة للتأكد من أن الشخص الذي أمامك لم يكن مخبرًا في جهاز المخابرات هو النظر إليه مباشرة في عينيه ورؤية بعض علامات الخيانة. كنا نتحدث بهذه الطريقة، ونحن نحدّق في بعضنا البعض، ونهمس المكان والزمان، ونقتصر المعلومات على مجموعات صغيرة، بعيداً عن أعين المتطفلين وآذانهم. لكن كل هذا قد لا يكون كافيا. أحد الأشياء التي بقيت لي أكثر من تلك الفترة هي القدرة على النظر في أعين محاوري ومحاولة فهم ما يدور في عقل الآخر من خلال التواصل البصري. في أماكن معينة من العالم، حيث يُحظر الكلام والمحادثة تخضع للرقابة، يظل النظر هو البادرة الأخيرة للحرية التي لا يزال من الممكن القيام بها. لكن كل هذا قد لا يكون كافيا لإنقاذ النفس.

ذات يوم من عام 1965، وصلت برقية من المخابرات في حمص إلى مقر شرطة تلكلخ يظهر فيها اسمي. استدعتني الشرطة إلى الثكنة. عندما وصلت وجدت شابين أو ثلاثة من مجموعتي، بينهم سالم، محاطين ببعض رجال الشرطة. في تلك السنوات، في سوريا، كان لأيّ شخص موقوف الحق في الدفاع عن نفسه، ويمكنه الاتصال بمحام لحضور الاستجواب أو أن يكون له محام معين من الدولة. أيّ شخص، باستثناء من تم اعتقاله لأسباب سياسية. في سوريا يمكن (ولا يزال من الممكن حتى اليوم) أن يُقتل الشخص في ثكنة دون أن يحدث أيّ شيء أو يكتشف ذلك أحد. اعتقالي الأول، الذي لن أنساه أبدًا، دام خمسة أيام، أيام اتسمت بالضرب والتعذيب، وحقيقة أنني ما زلت فتى صغيراً كان لا قيمة له، بالنسبة إلى النظام كنت عدوًا.

بعد تلك الأيام، التي رافقتي طوال حياتي، تم إطلاق سراحي وذلك بفضل ما فعله والدي خارج السجن، حيث كان يتنقل بين معارفه، ويحاول معرفة مكاني وما يحدث لي. لم يلمني والدي في ذلك الوقت، ولا في السنوات التي تلت ذلك، على الخيارات السياسية التي انتهجتها، بل كان صامتًا، لكنه لم يلمني أبدًا على هذا النزوع النضالي. في نظري، كان تعليق حكمه غير مفهوم في جزء منه وداعمًا في جزئه الآخر. ربما لم يكن يريد أن يعرف، ومع ذلك كان يعلم ويبذل قصارى جهده لحمايتي عندما يستطيع ذلك، أو ربما لم يجد طريقة ليخبرني أن ما كنت أفعله كان خطرًا لأنه، بداخله، كان يعلم أن خيارنا كان خيارًا صحيحاً. ومع ذلك، لم يأت منه اللوم أبدًا، فقط توصيات مثل تلك التي يعطيها كل أب لابنه. لم يكن هناك تشجيع سوى ذاك الذي يختبئ وراء ستار من صمت ثقيل الوطأة.

عندما استعدت حريتي، استأنفت الحياة مسارها، المدرسة، في بعض الأحيان المتجر، ولكن أيضًا تلك الاجتماعات السياسية، مع إيلاء المزيد من الحذر، لكنني كنت أشعر دائمًا بالحاجة إلى إعطاء الحياة لتشكيل سياسي شعبي من شأنه أن يعلّم مواطنينا مدى قيمة الديمقراطية وأهميتها. كنا نعلم أنه ليس من المنطقي إعطاء السلاح للناس إذا لم نُعلّم أنفسنا أولاً لماذا كانت هناك ثورة يجب القيام بها، ولكن قبل كل شيء كنا نعتقد أننا لو علّمنا أنفسنا سبب الثورة لما كنا بحاجة إلى أسلحة أبدا لتنطلق. كان يكفي أن تعرف، تعلم، ترى عوالم أخرى ممكنة لفهم الدولة وعلاقتها بالفرد. عندما وصلت إلى إيطاليا قرأت ذات مرة جملة لأحد الكتّاب، جيزوالدو بوفالينو، هكذا يقول فيها “يمكن هزيمة المافيا على يد جيش من معلمي المرحلة الابتدائية”، وهناك، في تلك السنوات في سوريا، أراد الشباب من مجموعتي أن يكونوا بالضبط هؤلاء المعلّمين.

في غضون ذلك، كنت قد أنهيت دراستي الثانوية والتحقت بكلية الحقوق في بيروت. لم يكن أبي يريدني أن أعيش في شقة واختار لي فندقًا كان بإمكانه دائمًا أن يجدني بمكالمة هاتفية ويعرف أخباري حتى لو كنت خارج الغرفة. في الفندق سيجيب شخص ما دائمًا وسأضطر إلى الإبلاغ عن كل حركة إلى مكتب الاستقبال.

 لقد بدأت في لبنان إقامة علاقات مع مجموعات سياسية محلية، ومن خلالها تمكّنت من إدخال المواد الإعلامية إلى سوريا ليتم تداولها بشكل سري. كانت منشورات كما يتم استخدامها آنذاك، أوراق بسيطة كانت تصل مع الحافلات التي كانت تمر عبر تلكلخ كل يوم، وكان ذلك على الحدود، بعد حوالي عام من الاعتقال الأول، تم إيقافي للمرة الثانية.

رأيته من بعيد، كان رجل مخابرات، أعتقد أنه كان ينتظرني بالضبط وما حدث بعد ذلك، لم يكن مصادفة أبداً كما أراد أن يكون هذا اللقاء. عندما اقتربت منه سألني «من أنت؟ من أيّ أنت قادم؟ تعال وقم بجولة في الثكنة غداً”.

كنت أعرف ما يعنيه، لكن لم يكن بوسعي الهروب، لذا ذهبت وحدي في اليوم التالي إلى الثكنة حيث تم استجوابي لساعات. عندما بدا أن رجال الشرطة فعلوا ما يكفي وكانوا على وشك إعادتي إلى المنزل، تدخل رجال المخابرات، قائلين إن هذه ليست طريقة التعامل مع الخونة، وأنه رغم أنني كنت في أوائل العشرينات من عمري، إلا أن هذا لا يعني أنني لست خطراً. لم أكن خطرا. وقالوا “إنه أخطر من شخص لديه سلاح في المنزل، لأن سلاحه الكلمة”.

تجربة السجن
تجربة السجن

تم نقلي، مروراً من يد إلى يد، بلا حقوق، بلا حماية، وحدي. غير مدرك لما سيحدث لي.

عذبوني لمدة ثلاثة أيام.

لا أروي ما حدث في تلك الغرف ولسنوات أخفيت عن الجميع ما مررت به، ملتزماً الصمت مع عائلتي أيضاً. لكن هناك، بعد أعمال العنف، اضطررت أخيرًا إلى ذكر بعض الأسماء، أسماء خمسة أشخاص ينتمون إلى مجموعتي. التعذيب هو ألم لا معنى له حيث لا يمكن تحمله لفترة طويلة. يستسلم الجسد، والعقل يريد فقط أن ينتهي كل شيء. وينتهي كل هذا بالاعتراف. إن الشعور بالذنب لذكر تلك الأسماء هو الظل الذي أحمله من الأيام الرهيبة التي قضيتها في ذلك السجن.

علمت في وقت لاحق فقط أن الكثيرين في مجموعتي قد مروا بنفس الشيء، وأن الجميع انتهى بهم الأمر إلى الاعتراف؛ في النهاية، خرج نحو ستين اسمًا، وبعد أيام قليلة، توجهت حافلة للشرطة إلى تلكلخ، بيتًا بيتًا، لاعتقال هؤلاء الأشخاص. كانت القرية صغيرة ولم يكن هناك أيّ عائلة لم تعان من تلك الاعتقالات العشوائية. احتجزوا الجميع في الزنزانة لبضعة أيام، وضربوهم أو استخدموا معهم المزيد من العنف الوحشي، ثم أعادوهم إلى منازلهم. ولكن، عند هذا الحدّ، تقطعت أوصال المنظمة، وتم تطهير مجموعاتنا وانتهى الأمر.

بعد أربعين يومًا في السجن، تم إطلاق سراحي. كان ذلك عام 1967 وبالتحديد في ذلك العام ولدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، وفي نفس الوقت كانت عشرات الجماعات والمجموعات الصغيرة تخطو أولى خطواتها نحو الكفاح المسلح في مناخ تسوده الأيديولوجيات والارتجالات والاضطراب السياسي كما هو شائع في العالم العربي، حيث كان العنف يأخذ مكان التأمل والإعداد الثقافي. إن فكرتنا عن حركة لاعنفية وتشكيل قادر على التثقيف من أجل الديمقراطية قد جرفها النظام والخيارات الراديكالية لبعض الأشخاص. المعلّمون الذين أردنا أن نكون قد حيّدتهم اليد الثقيلة للنظام. كان كل شيء يشي باللؤم، ولم أستطع البقاء في سوريا، ولم يعد ذلك منزلي، ولا مواطنًا يُنظر إليه بعين راضية من قبل حكومتي. لقد تركت الجامعة أيضًا، وكان عليّ الابتعاد عن هذا العالم.

كان لديّ طريق للهروب إلى الكويت حيث كان يعيش زوج أختي، لكنني كنت بحاجة إلى وسيلة لمغادرة البلاد، وثيقة تسمح لي بالمغادرة رغم أنني كنت مستهدفاً من قبل المخابرات، وبالتالي أصبحت أحد إخوتي؛ باسمه وجواز سفره غادرت إلى الكويت.

عندما غادرت سوريا تخيلت أنني سأعود بعد فترة طويلة فقط، ولم أكن أعتقد أن سفري سيكون تقريبًا وداعًا. ذهبت وأن أنظر إلى تلك الأرض بمزيج من الحنين إلى الماضي والحاجة إلى الهروب، ثم عبرت الحدود مع لبنان وحينذاك أدركت أن عالمي أصبح أكثر صعوبة وإرباكاً.

2 –  شادي

شاهدت الصور الظلية من بعيد. “انظر إلى الصوامع. خذها كنقطة مرجعية”، قال لي ابن عمّي عمر، محاولًا تتبع مسار مثالي بإصبعه من أجل إيصال نظري إلى النقطة المحددة: تلكلخ كانت القرية السورية، التي وُلد فيها والدي قبل سبعين عامًا، والتي رأيتها آخر مرة قبل عشر سنوات تقريبًا، أمامي، على الجانب الآخر من الحدود. اقترح ابن عمي “لنذهب إلى الأعلى لنرى بشكل أفضل”. بدأنا نسير نحو تل صغير ليس بعيدًا عن المنزل الذي كانت تعيش فيه عائلته، الذين هربوا من تلك النقطة من سوريا التي كنا نتوق إلى النظر إليها.

على هذا التل الصغير، كنا محاطين بأشجار الزيتون. “من الأفضل عدم الذهاب إلى أعلى من ذلك. يمكنهم إطلاق النار علينا من الجانب السوري”.

كنت أنظر، حتى لو كان هذا الفعل لا يصف ما كنت أفعله، لأنه لم يكن فعلًا يتم تنفيذه بالعين فقط، ولكن أيضًا من خلال الذاكرة والقلب. بينما كنت أمعن النظر في تلك الصورة الظلية البعيدة – منازل منخفضة، بعض التجمعات الأكبر حجماً، بعض أعمدة الإنارة – كنت أحاول أن أتذكر في ذهني الطريق المؤدي من الصومعة، حيث يتم تخزين محصول القمح، إلى منزل جدتي. لقد كان تمرينًا، حيث قبل سنوات، كنت قد مارسته عدة مرات، ولكن بمرور الوقت تراجعت الصور الواضحة سابقًا مفسحة المجال للضباب.

فكرت بها: جدتي. كانت هناك، في سوريا، على بعد بضعة كيلومترات، على بعد خمسة كيلومترات كحدّ أقصى، من المكان الذي أقف فيه. كنت أعرف من جار لها أنها كانت تجلس غالبًا على الشرفة، تشرب القهوة، لم تكن تحب الشاي. أخبرني أنه كان يضحك وأرسل لي بعض مقاطع الفيديو لها أمام التلفزيون على “واتساب”.

لو كان بإمكاني عبور الحدود في تلك اللحظة بالذات، لو سمح لي الجيش السوري بالعبور عند الحاجز، لكنت ذهبت لرؤيتها. ثم لجلبت الورود إلى قبر جدي. تحية صغيرة من أبي ومنّي لأخبره أنه لم يُنس.

في المرة الأولى التي قابلت فيها جدتي في عام 2006، ذهبت مع ابن عمي. طرقنا الباب، وعندما فتحته أغلقته ظناً منها أنني لص. كنا اثنين من الغرباء ننظر لبعضنا البعض لأول مرة. بالكاد تعرفت على صوتها لأنني سمعته مرة واحدة فقط. سلمني والدي سمّاعة الهاتف. كان ذلك عام 1997، كنت في التاسعة، وكنا جالسين على السرير.

لقد اتصل بها وسمعت اسمي يتكرر عدة مرات. لم أعرف ماذا أقول. قال أبي “إنها جدتك، بادلها التحية”. لكنني لم أكن أعرفها، لم يكن لديّ وجه لأربطه بهذا الصوت، تمامًا مثل المرة الأولى التي التقينا فيها. أغلقت الباب. لم تكن تعرف من أنا.

شرح لها ذلك القريب أنني ابن محمد، ابنها. بدأت تتحدث بالعربية ولم أفهم شيئاً. كان للغة العربية آنذاك مكان في أذني وقلبي، لكنها لم تصل إلى ذهني أو لغتي بعد. كنت أحب الاستماع إليها، لأنها تمنحني راحة البال والشعور بالألفة، لكنني لم أكن أفهم كلمة واحدة. كان الأمر كما لو كنت في منزل تعرفه، لكنه محاط بظلام لا يمكن اختراقه حيث يستحيل التنقل.

كان أمامنا، أنا وجدتي حاجزان لنتسلقهما. كان الجدار الأول هو جدار اللغة الذي لم يسمح لنا بالتحدث. ثم كانت هناك المسافة التي ولدت من الافتقار إلى الذكريات المشتركة. وهكذا، سيطرت الإيماءات على اللقاء الأول. سمعتها تكرر اسم والدي محمد، قالت ذلك مرارًا وتكرارًا، وما تناهى إليّ كان ترنيمة لطيفة جعلتني حزينًا.

بعد بضع سنوات، في عام 2009، عندما ذهبت إلى سوريا وبوعي أكبر، تمكن كلانا من بناء أساس العلاقة. سألتني عن العمل الذي يمارسه والدي في إيطاليا، إذا كان بصحة جيدة، وطلبت منّي أن أخبرها عن المنزل الذي نعيش فيه، المدينة. ثم أرتني غرف المنزل “كان والدك ينام هنا”، أتذكر، مشيرة إلى سرير في غرفة حيث اليوم، إذا تم إعادتي إلى ذلك المنزل، فلن أتمكن من الإشارة إليها. هناك، قالت لي، كان والدي قد نام، وقد دمّره التعب، يوم إطلاق سراحه من السجن. انحنت عندها على نفسها وبدأت في البكاء. كان والدي قد استيقظ على بكاء والدته.

صورة لجدي مطبوعة على ملصق انتخابي عندما كان يترشح لمنصب رئيس البلدية معلقة في الخزانة. في منزلنا في ميلانو، كان هناك نفس الملصق البرتقالي الصغير الذي احتفظ به والدي كتذكار، لأنه كان أحد الصور القليلة لجده التي أحضرها معه من سوريا. من أجل الحفاظ على منزلين بعيدين جدًا ومختلفين جدًا، كانت هناك تلك الصورة.

الشهادة الوحيدة على ذلك الشغف السياسي الذي ميّز جدي وأبي كانت بالتالي ملصقًا مجعدًا، لكنني ما زلت لا أعرف شيئًا تقريبًا عمّا حدث، وماضي والدي، وجدّتي لم تقل لي شيئًا، سوى يوم رجوعه من السجن.

كانت الشاهدة الأخيرة لزمن انحسر، واستمرت شهادتها حتى توفيت بعد ظهر أحد أيام الصيف دون أن ترى أبي مرة أخرى. كانت علاقتهما علاقة لطالما تساءلت عنها. ما هو الدور الذي لعبه الغياب؟ وما مدى إيلام الحنين؟

لقد فعل والدي الشيء نفسه معي أيضًا: لقد وضع حياته في سوريا بعيدًا عني.

لم أكن أعرف أيّ شيء عن ماضيه وبدأت في تخمين شيء ما في عام 2009 من أقاربي الآخرين الذين ألمحوا إلى بعض القضايا السياسية ذات الطبيعة غير المحددة للغاية. لم يتفوهوا بأكثر من ذلك، وكادوا يأسفون لأنهم ألمحوا إلى قصة كان من الأفضل عدم تذكّرها. فقط مع اندلاع الثورة السورية، التي تحوّلت إلى حرب أهلية، بدأ والدي يخبرني عن ماضيه، حتى لو أنّ بادرته تلك لم تكن عفوية، بل شيئًا ما كان قد حفّزه، استمرّيت في طرح الأسئلة عليه، وربما بإلحاح شديد، ولكنها نشأت من حاجتي الحقيقية لفهم والعثور على رأس الخيط في لفيفة بدا لي أنها لا تنفصم. كانت الحرب مثل فتاحة القناني التي نزعت سدادة إناء الذكريات. دونها لم تكن هناك قصة، وربما كنت سأظل هناك أتساءل ماذا ما حدث في حياته وحياتنا.

أتذكر كيف بدأ كل شيء. ذات يوم، لفّ أبي جواربه وأظهر لي الكعب مشيراً إلى بقعة ظهرت فيها ندبة صغيرة. “لقد فعلوا لي ذلك في السجن”. نظرت إليها وبقيت صامتاً، لكنني في الداخل شعرت بفورة غضب تحول إلى شعور بالكراهية العميقة تجاه الجميع. حرك إصبعه على طول خط الندبة. “كان السجن مأساة حياتي” ثم صمت.

كانت المظاهرات في حمص، المدينة السورية التي تتبع إليها قرية تلكلخ، قد اندلعت منذ عدة أشهر ورأيت أبي متورطًا جدًا في ما يحدث. كنا نذهب كل يوم جمعة إلى مظاهرات السوريين في شوارع ميلانو لأننا كنا نشعر بالحاجة إلى أن نكون موجودون هناك. ثمة صورة جميلة له وهو يرتدي بدلة وربطة عنق في زاوية من ساحة لوريتو بينما كان يتحدث عبر مكبر الصوت. كان قد قدّم نفسه كواحد من المهاجرين القدامى الذين يعيشون في إيطاليا منذ عقود. كان يحث الجميع على الاستمرار في التظاهر، وعدم التراجع، وعدم التوقف عن المطالبة بالاهتمام بقضية شعبه. لم يقدم نفسه أبداً على أنه معارض سياسي قضى وقتًا في السجن، ربما بدافع الشعور بالكرامة من الألم، ولم يتحدث أبدًا عمّا حدث وعن نشاطه السياسي السابق.

بدأ نشاطه النضالي لأن بعض رفاق المدرسة من تيار القومية العربية تقرّبوا منه، لكنّ جذور هذا الانجذاب للسياسة تكمن في نشاط جدي السياسي. يمكن فهم مقدار ارتباط أبي به من الصور الموجودة في المنزل. واحدة، على وجه الخصوص، التقطت في بيروت. إنهما متلاصقان، كتفاً بكتف، شاب في العشرين من عمره ووالده. كلاهما ينظر إلى العدسة. ما لا تقوله تلك الصورة هو أن الجد ذهب لزيارة أبي في لبنان وأخبره أنه لا يريده أن يعود إلى سوريا لأنه لم يكن ثمة مستقبل هناك، وفوق كل شيء لم يكن يستطيع تحمل فكرة سجنه مرة أخرى.

تلك الصورة، وبالتالي نوع من الوداع، التقطت عندما أدرك أبي أن سوريا لن تكون وطنه بعد الآن.

لا أعرف كل شيء مر به أبي في السجن وعندما تحدثنا عن ذلك حاول دائمًا العثور على جانب مثير للسخرية في الأمر. ربما ليجنّبني المزيد من الألم. السخرية في الحديث عن السجن هي أداة نفسية للبقاء على قيد الحياة التي رأيت أن العديد من النزلاء السابقين يستخدمها، الذين يضعون قناعًا بينهم وبين ما حدث، وكأنهم يشيرون إلى أن كل هذا الألم والجهد قد لا يؤخذ حتى بجدية. لكن يكفي النظر في أعينهم لتفهم أن هذا ليس هو الحال.

في المرة الأولى التي توضّح لي فيها ما حدث له، كنت لا أزال في سوريا. أحد أعمامي دخل في مزيد من التفاصيل حول قضية أبي وبعد أن سمعت روايته، وأنا في طريقي إلى تلكلخ، أتذكر أنني بكيت في السيارة. نظرت إلى الظلام من النافذة وتخيلت أن أبي يُجبر على مغادرة المنزل الذي ولد فيه. كيف فعلها؟ “علينا أن نكون أقوياء”، قال لي ذات يوم، متذكرًا الأيام الأولى من منفاه.

“علينا أن نكون أقوياء في الحياة”، مثل تلك المرة التي أطلق فيها سراحه. جدي وصديق لأبي كانا ينتظرانه خارج السجن المركزي في حمص. “كنت لا أتمكن من الوقوف على قدمي. سندني صديقي مع جدي الذي طلب منّي الوقوف بشكل مستقيم والمشي لأننا يجب ألا نرضي هؤلاء الأشخاص لأنهم جعلوك تنحني”.

أصبح الانحدار إلى كابوس تلك الأيام من السجن بمرور الوقت احتفالًا حيث غالبًا ما كان يقام في المساء عندما كنا نجلس أنا وأبي على شرفة المنزل لتدخين النرجيلة، والاستماع إلى الأغاني القديمة لفيروز وأم كلثوم.

كنت قد نشرت للتو كتابي الأول، وأتخيل فكرة أنه سيكون ناجحًا. بين استنشاق وآخر من أنبوب النرجيلة، بدأ أبي يخبرني. كانت ومضات، ومضات من الظلام والنور مختلطة معًا. كان يعود بالذاكرة إلى الماضي، يتجول ويضيع. ثم، في مرحلة معينة، تنقطع الطقوس فجأة “لا أستطيع الاستمرار”، “لا أتذكر”. لقد انتهى بنا الأمر دائمًا هكذا.

ذات مرة حلمت بنا نحن الاثنين فوق سطح منزلنا في تلكلخ. كنا مستلقيين، ننظر إلى النجوم وبجوارنا راديو صغير. كان الصخب يهدر من مكبّر الصوت. كان أبي يتحدث ويروي لي. كنا هناك، حيث كان يرقد مع جدي عندما كان صبياً، لنتخيل المستقبل ونحن ننظر إلى نفس النجوم.

لقد كان مجرّد حلم، لم يتحقق أبدًا: لن نعود إلى ذلك المنزل أبدًا.

بالنسبة إلى جدي، لا بد أن كل شيء كان سخيفًا. لقد كان جنديًا رأى ابنه يتعرض للتعذيب من قبل نفس الدولة التي خدمها وساعد في بنائها. الآن تلك الدولة تضع ابنه في السجن بسبب أفكاره.

تصادف أن رأينا معًا مقطع فيديو منذ سنوات عديدة تم تصويره في قريتنا أثناء الاحتفالات بالوحدة مع مصر، وكان ذلك في عام 1958. وكان الناس قد تدفقوا على الساحة أمام البلدية وفي الميدان القريب من السكة الحديد. كان أبي هناك مع جدي، في تلك الشوارع، بحثت عنهما بكل الاهتمام الممكن، لكن لم يتم رؤيتهما في الفيديو. كان ذلك يوم احتفال للجميع، وأتذكر أن تلك الصور جعلته يقفز إلى الماضي، في السنوات التي عاش فيها حلم القومية العربية. ولدت القومية العربية على أنها يوتوبيا سياسية، من الأفكار التي طرحها العديد من المثقفين العرب الذين كانوا يلتفون في الجامعة الأميركية في بيروت حول معلميهم لمناقشة المستقبل والحرية. كان قسطنطين زريق، من بين الجميع، من أكثر المفكرين الذين أيدوا فكرة أن العرب لديهم مهمة تاريخية يجب عليهم تحقيقها: تحقيق وحدة الأمم المختلفة.

عندما كنت طفلاً كنت بعيدًا جدًا عن مفهوم “العالم العربي”، لأنه بدا لي أنه شيء لا يخصّني. لم أكن أتواصل مع العرب، وإذا حاول أبي التحدث معي باللغة العربية، ليعلّمني بضع كلمات، فكنت أكررها على مضض.

حتى اليوم توجد مكتبة كبيرة في غرفة المعيشة في منزلي في سيستو سان جيوفاني. عندما كنت صغيراً، كانت تعلوني شامخة في بساطتها، وما زلت أتذكرها هكذا. تحتوي هذه الأرفف على الكتب العربية التي جمعها أو حفظها أبي على مدار حياته. إنها تخفي مفاجآت ورؤية مختلفة للعالم عن تلك التي عشت فيها لسنوات عديدة. تلك الكتب، التي كانت ظهور أغلفتها غير مفهومة في ذلك الوقت، كانت “العالم العربي”، شيء كان يجذبني دون أن أفهم السبب، ولكن على أيّ حال كان جزءًا من عائلتي، لا لشيء سوى أن قطعة الأثاث تلك كانت كبيرة جدًا لدرجة كنت أنظر إليها كجبل يستحيل تسلقه.

كانت هناك ليال تطارد فيها الكوابيس والدي، خاصة عندما بقينا نحن الاثنان بعد وفاة والدتي. عندها كان يصرخ في نومه. كنت أستيقظ وأهدئه. السجن أشبه بكهف يصعب الخروج منه. ما يقرب من نصف قرن قد فصله عن ذلك الوقت، تلك اللحظات تعيش معه دائمًا، ربما إلى جانب الشعور بالذنب لذكر أسماء رفاقه. لا جدوى من معرفة أن الآخرين تحدثوا بدورهم أيضًا لأن التعذيب لا يتم لتدمير الجسد، ولكن الروح ودفاعاتها. شخص ما، لا أعرف من، يجب أن يكون قد مات أيضًا، لكننا، أنا وأبي، لم نتحدث أبدًا عن هذا الأمر.

الموت في السجن، والاختفاء في صمت، وأن يلقى بك، مثل النفايات، في قبر جماعي مجهول: حفرة يُحرم فيها الوالدان من أداء مناسك الألم، هذا موضوع آخر أثّر فينا بعمق.

حدث هذا لعمتي لمياء، وهي امرأة بسيطة ورقيقة، فقدت ابنها الأكبر مصطفى، الذي اعتقل على حاجز تفتيش خارج حمص ذات صباح في طريقه إلى العمل. اختفى منذ ذلك اليوم. في كتاب سابق تحدثت عن مأساته، لكن ذاك الذي ما لا يزال يدهشنا ويكرر نفسه في التاريخ هو اختفاء الناس في اللاشيء. قُتل مصطفى، بحسب ما علمناه لاحقًا، على يد سجين سابق، خلال ما يسمّى الاستجواب. سرعان ما دفن الجسد أو حتى أنه تم حرقه. بقيت خلفه عائلة مفككة، محرومة من أيّ نوع من أنواع العدالة. في إيطاليا يسمونها جريمة دولة: لسوء الحظ إنها جريمة وقعت في بلد شرق أوسطي وبالتالي لن يكون هناك مذنب أبدًا. ولا حتى أولئك الذين يطلق عليهم هنا “من الدولة”. وبالمثل، لا يوجد مذنبون للقتلى الذين قتلوا خلال سجن والدي. هذه الأسماء لن تعرف أبداً.

لكن ليس رفاق والدي فقط هم الضحايا، بل إن أفكارهم تعرّضت للتعذيب والقتل على أيدي الدكتاتوريات والسلطة السورية. القومية العربية نفسها كانت ضحية: في البداية استخدمتها العديد من الدكتاتوريات كغطاء لارتكاب جرائمها الخاصة، ثم انتهى بها الأمر في طيّ النسيان أو تركت كإرث لا معنى له في خطابات دكتاتور ما.

كان ذلك في عام 1963. تولى أمين الحافظ السلطة في دمشق، وأصبح أول رئيس ينتمي إلى حزب البعث. لم يستمر طويلاً، ثلاث سنوات فقط. نزل شباب من الريف، وخاصة من حمص وحماة، إلى الشوارع للتظاهر ضد الحكومة. كان والدي هناك. كان يؤمن، مثل كثير من هؤلاء الشباب، بالتجربة التي اختتمت لتوّها عن الوحدة العربية التي ربطت بين سوريا ومصر من 1958 إلى 1961 لمدة ثلاث سنوات. البعث، بعد التجربة الفاشلة، بسبب الأجندات السياسية الداخلية السورية والمصرية التي أرادت الحفاظ على الحكم الذاتي المحلي، كان قد وعد بـ”النهضة” والانتصار ضد إسرائيل. ومع ذلك، كان هذا يعني القضاء على جميع أنواع المعارضة. نشأ أبي في أوساط القومية العربية. قاده جدي إلى ذلك الطريق، ثم التقى في مدرسة ساليسيان حيث كان يدرس بعض الطلاب الذين أقنعوه بحضور اجتماعاتهم، فقط للاستماع.

كان جيله أوّل جيل مستقل عن القوى الاستعمارية الخارجية، وكان يمر بمرحلة التأسيس. بالنسبة إلى تلك المجموعة من الشباب الذين اجتمعوا في فصل دراسي لمناقشة كيفية الوصول إلى الوحدة المنشودة، كان يبدو كل شيء ممكناً.

كيف تلومهم؟ عاش العرب لقرون تحت الاحتلال المستمر: العثماني، الفرنسي، الإنكليزي. في تلك الفترة الأولى ما بعد الحرب تم منحهم الحرية. كان الخيار الأكثر منطقية هو إعادة مناقشة الهوية المغلقة داخل الحدود التي رسمها الأوروبيون بالمسطرة. فلماذا لا يكون سوري وجزائري جزءًا من أمة واحدة عظيمة؟ كان الأوروبيون، أثناء سيطرتهم، قد أثاروا الطائفية متبعين سياسة “فرّق تسد”، وكانت فكرة الانتماء إلى المواطنة العربية لذلك الجيل هي الترياق للطائفية التي كانت ستزعزع الأمم الهشة الخارجة من نير الاستعمار.

بعد سنوات، حوالي الستين، كنت أسير باتجاه محطة الباص في الكولا في بيروت، وشاهدت مبنىً على جدرانه صور عديدة لجمال عبدالناصر. كان المسجد المكرّس له يقع في المزرعة، إحدى ضواحي العاصمة اللبنانية. كانت النشرات، بعضها مخربش، ذات مظهر عتيق للغاية جعلني أبتسم لأنها كانت بمثابة علامة على أن الوقت لم يمر بالنسبة إلى شخص ما.

بين شوارع تلك المدينة، لم يتبق سوى عدد قليل من الآثار لمفاهيم مثل “الأمة العربية ” و”ناصر” و”الوحدة”،، التي احتفظ بها البعض ممن يحنّون إلى الماضي، في حين أن الاختلافات الدينية في كل مكان، يُرمز إليها بقلادة عليها صليب أو سيف علي، كانا ولا يزالان واضحين للغاية. وهذه الطائفية على وجه التحديد، التي ولدت من تفكك الدول القومية العربية إلى كيانات عشائرية أو طائفية، هي موضع التساؤل منذ الربيع العربي 2010.

رأى جيلي، حتى من وُلد في أوروبا، في هذه الحركات الاحتجاجية فرصة لإعادة مناقشة كل شيء بفضل مساحات الحرية الصغيرة. لقد رأينا الفرصة لخلق سوريا من السوريين، من جميع السوريين، من خلال الخروج من عقلية طائفية موجودة بالفعل في البلاد. “في دمشق، هناك كنائس قريبة من المساجد، ولم تكن هناك بوادر للتوترات الدينية”، كما يقال، وهذا صحيح وخطأ في نفس الوقت. بعد انتهاء الانتداب الفرنسي، ورثت الطبقة السياسية الجديدة بلدًا كان فيه التعايش بين الأديان ميزة حقيقية، لكنه هشّ لأن الفرنسيين أنفسهم قسّموا سوريا إلى مناطق مختلفة على أساس الانتماء الديني لأغلبية للسكان. وكان الانفصاليون قد عارضوا هذه العقلية التي جسدها على سبيل المثال الجنرال الفرنسي هنري غورو الذي، عند دخوله قبر الزعيم الكردي قرب الجامع الأموي وسط العاصمة السورية، هتف قائلاً “لقد عدنا، يا صلاح الدين”.

لا يفكر جيلي في سوريا اليوم في العروبة، بل في بناء حس المواطنة، بدولة للجميع، ربما ليس بالمعنى العلماني للمصطلح ولكن في البحث عن توازن اجتماعي ديني.

لهذا السبب غالبًا ما أغضب عندما أسمع محلّلين ومعلّقين يتوقعون، كحلّ وحيد للصراع، تقطيع الأوصال. “فلنقسم حلب عن دمشق. دعونا نضع السنة هنا والعلويين هنا”، يقولون، أمام جمهور المستمعين. ألا يشبه هذا المنطق إلى حد كبير ما كان عليه قبل قرن من الزمان؟ هل ما زال من الضروري القسمة للدمج؟

ولد جيلي وترعرع في المنفى وبدلاً من ذلك هبط إلى مستوى العواطف، والتي تأتي بالنسبة إليّ من ذكريات أبي وكيف قمت بإعادة صياغتها. في ذهني، تشترك سوريا في الشعور بالحنين إلى شيء لم يكن أبدًا من قبل، أكثر مما تشترك فيه مع رؤية ملموسة ومعروفة. ولدت وترعرعت في أوروبا، أشعر أنني ابن البحر الأبيض المتوسط الذي يتساءل لماذا في أرض عائلتي لا يمكن أن تكون هناك انتخابات حرة أو صحف مستقلة أو دولة القانون. مفهومي عن المواطنة مرتبط بالخبرة المكتسبة في إيطاليا، أي النقاش الحر. بالنسبة إليّ، تعني سوريا تحدي فكرة أن “الآخرين” لا يمكن أن يتمتعوا بنفس الحقوق الواضحة التي نتمتع بها “نحن”. ولكنه يتمتع أيضًا بنكهة الذاكرة، والرابطة المقطوعة والعودة التي تتلاشى كل يوم أكثر قليلاً، لأنّ عالمي في هذه الأثناء أخذ يميل أكثر إلى الطرف الآخر.

الترجمة عن الإيطالية: يوسف وقاص

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.