أرملة وحيد القرن

الثلاثاء 2019/01/01
لوحة: سهيل بدر

ليس شائعا أن يموت شخص لسبب من الأسباب، وأن تحترق قلوب لرحيله، وأن تُعلّق صورته على الجدار، وأن تمرّ السنوات، وأن يُنسى شيئا فشيئا، ثمّ يعود إلى الحياة فجأة! تستيقظ زوجته ذات صباح، لتجده مستلقيا إلى جانبها. الرجل نفسه الذي مات، وكان يُفترض ألّا يعود.

ستصرخ مفزوعة، تقفز عن السرير، تقف على بعد خطوات عنه، ويدها على فمها، ثمّ تفرك عينيها، وتتشمّم الهواء من حولها.

وخلال أقلّ من دقيقة ستكون قد هدأت. أعصابها المشدودة ترتخي. والصرخة التي كانت على وشك الانطلاق تذوب داخل فمها.

زوجها تعرفه جيّدا. لا يراودها أدنى شكّ في أنّه هو، لكنّه متعب جدّا. مستلق على ظهره مصوّبا نظراته الذابلة إليها. يدان مسبلتان، عنق مائل، فم نصف مفتوح. قد يساورها القلق قليلا تجاه ذلك، لكنّها ستتذكّر أنّه الموت. من غير المتوقّع إذا بعد سنوات الموت الطويلة هذه أن يبقى كلّ شيء على حاله. العينان والجمجمة الصلعاء والنخور التي أصابت العظام هنا وهناك.

تناولت المرأة سمّاعة الهاتف، واتّصلت بمعارفها تخبرهم بما جرى قبل قليل.

بعد ساعة واحدة كان المنزل مزدحما بالضيوف. تحلّقوا حوله وهو ممدّد على فراشه. تفحّصوه بإمعان. استأذنوا المرأة في أن يلمسوه. مرّروا أصابعهم على خدّيه. وأداروا وجهه يمينا ويسارا. طلبوا إحضار مصباح، حيث سلّطوا الضوء داخل فمه، وراحوا يحصون أسنانه.

خلال ذلك لم يكن يتكلّم. ظلّ صامتا. وهم بدورهم تفهّموا الأمر، ولم يعلّقوا. كانت حنجرته متضرّرة جدّا. تفسّخت، ولم يبق منها سوى قطعة صغيرة من اللحم عالقة في رقبته. غضّوا النظر عن مشكلة صمته، إذ لم يكونوا في حاجة إلى سماع صوته للتأكّد من أنّه هو حقّا.

كان اهتمامهم منصبّا بالدرجة الأولى على هذا النتوء العظميّ في منتصف جبهته، والذي يشبه قرنا صغيراً ضامرا. لطالما ميّزته هذه العلامة عن الآخرين. لقد عانى من هذا القرن أشدّ المعاناة، في طفولته خصوصا، لأنّه كان موضع سخرية دائمة من أترابه. وعندما حاول في ما بعد التخلّص منه كان الأوان قد فات كما ذكر الطبيب.

- استئصال القرن مستحيل، لأن العظام توقّفت عن النموّ، إلّا إذا غامرنا بإبقاء مكانه مفتوحا. ثقب مفتوح في منتصف الجبهة. يعني ذلك أنّ الدماغ في الداخل سيظلّ معرّضا للهواء والغبار. مغامرة لا نضمن نتائجها.

هكذا توجّب عليه أن يتكيّف مع قرنه الوحيد بقيّة حياته. وما ساعده على ذلك أنّ الناس الذين يحيطون به اعتادوا على قرنه إلى درجة أنّهم لم يعودوا يرونه أصلا. تبقى فقط المضايقات الصغيرة التي يتعرّض لها مع الغرباء الذين يلتقيهم أوّل مرة. ولحسن الحظّ أنّهم قلّة بحكم أنّ المدينة لا يأتيها الغرباء إلّا نادرا.

تضاف إلى ذلك العلامة الأخرى. الإصبع السادسة في كلّ من كفّيه. صحيح أنّها أقلّ أهمّيّة ووضوحا من علامة القرن، وأنّ هذا العيب الخلقيّ منتشر نسبيّا، لكن لا يجوز إغفال الوقوف عنده لمزيد من التدليل على حقيقة شخصيّته.. يذكرون كيف كانت تتملّكهم قشعريرة خفيّة كلّما شعروا بهذه الإصبع الزائدة بين أكفّهم عندما يضطرّون إلى مصافحته.

يبقى العامل الأخير الذي حسم المسألة برمّتها، خلوّ قبره من جثمانه. أرسلوا من يتفقّد القبر، فلم يجدوا شيئا هناك. وكان هذا كفيلا بتبديد آخر الشكوك حوله.

- نعم، هو.

أكّدوا لها أنّه زوجها فعلا. هنّأوها بسلامته، وغادروا.

ودّعتهم المرأة وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة صفراء ساخرة. والواقع أنّها لم تكن في حاجة إلى كلّ هذه التأكيدات. لم تكن تنتظر شهاداتهم. كلّ ما فعلوه قبل قليل كان عبثا، ومجرّد هدرٍ للوقت. لقد عرفت الحقيقة بنفسها منذ اللحظة الأولى. سنوات طويلة من الموت، لكنّه لم يفقد رائحته التي لا يمكن أن تخطئها فيه. رائحة خاصّة لا أحد يعرفها سواها. حاولت أن تصفها لصانع العطور بعد موته، علّه ينجح بتركيب شيء مماثل لها. قالت له:

- كيف أصفها لك؟ رائحةٌ تجعل الدم يصدر خريرا مسموعا أثناء جريانه في العروق.. هل تخيّلتها جيّدا؟

واجتهد الرجل كثيرا لصناعة عطر يجعل الدم يصدر هذا الصوت. جرّب العشرات من الوصفات والتركيبات. اضطرّ إلى إضافة موادّ لم يكن يتخيّل أنّه سيستخدمها يوما في صناعته. غراء ومسحوق الذرة وأظافر بشريّة محروقة، والماء المستخلص من صور له في طفولته بعد نقعها أربعا وعشرين ساعة، وقطع معدنيّة أثريّة مذابة بالأسيد، والكثير من أحشاء الحيوانات وفضلاتها. ومع ذلك ظلّ الصوت الذي يصدر عن الدم جرّاء استنشاق هذه العطور بعيدا جدّا عن الوصف الذي قدّمته. صوت فحيح، غليان، صوت مطر، صوت أغصان تتكسّر، أو صخور تتدحرج.. ما من دم له صوت الخرير.

- لا، ليست هذه رائحته.

كانت تؤكّد له كلّ مرة، وترجوه باكية أن يعيد المحاولة، إلى أن أقرّ بعجزه، وطلب منها أن تعفيه من هذه المهمّة.

خيبة أمل كبيرة عانت منها المرأة بافتقادها لرائحة زوجها الراحل. لم يعد لدمها صوت. دم يجري في عروقها هادئا صامتا. لا تشعر به.. واضطرّت في النهاية إلى تقبّل الأمر على أنّه قدرها الذي لا مفرّ منه.

أمّا الآن فقد تيقّنت أنّ هذا الرجل الذي عاد إلى الحياة صبيحة اليوم هو زوجها. رائحته التي لا يملكها سواه. دمها عاد يتدفّق مصدرا ذلك الصوت القديم نفسه. الخرير، العذوبة، التوهّج. لذلك لم تتردّد. احتضنته. ورغم تهرّؤ شفتيه فقد حاولت تقبيله.

ولكي تصبح حياته رسميّة وقانونيّة فقد راجعت دائرة الأحوال المدنيّة، وأبطلت شهادة الوفاة التي نُظّمت له من قبل. كانت عمليّة معقّدة استغرقت شهورا. لجان طبّيّة، ومحامون، وشرطة، وشهود، وفتوى من الأوقاف، وموافقات أمنيّة، وإقرار من صانع العطور، والمئات من الأوراق والوثائق والشهادات، إلى أن تمّ الأمر على خير في النهاية.

حرصت على أن تنهي ذلك كلّه قبل أن تحتفل بعودته إلى الحياة.

تخطيط: حسين جمعان
تخطيط: حسين جمعان

وكان عليها بعدئذ أن تُنزل عن جدار الغرفة صورته القديمة التي تحمل شريطا أسود في زاويتها اليسرى العليا، وتضع عوضا عنها صورة حديثة له. لم يبدُ وسيما في الصورة، إلّا أنّها قطعت على نفسها وعدا بتغييرها حالما يكتمل شفاؤه.

عُلّقت الصورة الجديدة في مراسم خاصّة ضمن احتفال دعت إليه بعض الأقارب والأصدقاء.

- العودة إلى الحياة مناسبةٌ تستحقّ الفرح. لا يحدث ذلك كلّ يوم.

برفق تمّ إنزال الصورة القديمة. وُضعت في صندوق خاصّ من الخشب المبطّن بالمخمل الأزرق، ثمّ أُحضرت الصورة الحديثة على مخدّة حمراء صغيرة، وثُبّتت في مكانها على الجدار وسط تصفيق حادّ، ودموع فرح غزيرة انسكبت حتّى بلّلت الأعناق والصدور.

كانت المرأة سعيدة حقّا. شكرت الحضور، ووعدتهم ألّا تنسى لهم وقفتهم النبيلة معها.

لكنّ هذه السعادة سرعان ما بدأت تتخلّلها بعض المنغّصات. هؤلاء الفضوليّون الذين لا يكفّون عن السؤال.

سألها بعضهم عمّا إذا كان زوجها قد أخبرها شيئا عمّا يحدث أثناء الموت، فأجابت إنّه مازال متعبا. لا يتكلّم. حنجرته متضرّرة كثيرا، وتحتاج إلى وقت ريثما تلتئم من جديد. ثمّ إنّها لا تتوقّع منه أن يتحدّث في موضوع كهذا. قد يشكّل ذلك خطرا على حياته الجديدة.

- ومع ذلك فالأمر متروك له. انتظروا قليلا.

البعض الآخر كان يريد أن يعرف كيف يأكل ويشرب، وكيف يقضي حاجته.

سئلت كذلك عن ملابسه القديمة، هل مازالت على مقاسه؟ ثمّ عن عمله، هل ينوي العودة إليه؟

وهناك من سأل عمّا إذا كانا ينويان إنجاب أطفال.

الأطفال.

هذا السؤال بالذات استفزّها، لكنّها نجحت في تجاهله. تعاملت معه كما لو أنّها لم تسمعه. خطر في ذهنها أن تعترف أمامهم برغبتها في إنجاب طفل منه، لكنّها خشيت أن تُسأل أيضا عمّا يحول دون تحقيق رغبتها. لم تشأ أن تخبرهم بأنّ قضيب زوجها كان متضرّرا أيضا. بدا لها ذلك محرجا جدّا.

- ليس مناسبا التكلّم علنا في تفاصيل دقيقة وخاصّة كهذه.

كانوا يحاصرونها بالأسئلة. وكانت تتهرّب قدر المستطاع. كما أنّها بدأت تتحسّس من إلحاحهم في طلب التقاط الصور معه. رأت في ذلك تجاوزا لحدود الاهتمام الطبيعيّ، ليصبح نوعا من التطفّل والتدخّل في الشؤون الخاصّة.

كان لا بدّ إذا من اتّخاذ ذلك القرار الصعب. مقاطعتهم، واعتزالهم نهائيا.

- مزعجون، يصعب تحمّلهم.

وأغلقت الباب عليها وعلى زوجها. استقبال الناس ممنوع تماما. والخروج من البيت للضرورة فقط. لشراء ضمادات لحنجرة زوجها وقضيبه، أو لدفع فاتورة الكهرباء أو لتقديم شكوى ضدّ جيرانها الذين يرمون القمامة أمام باب منزلها، كما لو أنّه منزل مهجور ومظلم، لا يقيم فيه أحد.

*

اختتمت المرأة حكايتها بالقول إنّ قضيب زوجها لم تتحسّن حالته، لكنّ الحنجرة بدأت تتماثل للشفاء رويدا رويدا. أخذ يصدر أصواتا، إلى أن تكلّم أخيرا.

لسوء الحظّ أنّها كانت كلمة وحيدة وأخيرة.

- أحبّكِ.

قالها، ومات ثانية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.