إلى جبل قاسيون

الثلاثاء 8 جانفي 2013
يا مهابة الجبل الجليل!
يا حاضن الشام!
كيف أنت يا قاسيون؟ كيف حال الشام؟
وماذا بقي من دمشق العشق والياسمين؟
… هل مازال ابن عربي يرقد في سفحك؟
وهل ما زالت التراتيل وأناشيد الصوفية تنبعث من مسجده؟ أما زال صحنه الواسع المرخم منبسطا لأقدام المريدين كما كان؟ .. هناك، أين صليت ذات غروب، قبالة المنبر، والمصابيح المنيرة المتدلية بين الأقواس، وقد حملني عشقي إليه من آلاف الأميال رافضة الابتعاد والصلاة في تلك الغرفة الصغيرة المغلقة، حاجبة أنوار الجامع، المخصصة للنساء.
كيف حال شباب دمشق، بعيونه الملونة بألوان قوس قزح، سليل الملوك والأمراء والعاشقين والشعراء؟
أما زال يجول في دروبك، وهو يمسك الذرّة المشويّة الساخنة؟.. أم تركك وحيدا، لوحشة الذكريات، ولسماء يعتّمها الدخان الصاعد من حرائق ثورته المهدورة؟
أما زال في ريف دمشق، ذاك النهر الآسر الخرير، جاريا في انحداره، بين البساتين والجنان، مارا بمجلس الأدباء، حيث تناولنا الغذاء ذات يوم، يجمعنا الأدب على موائد عامرة بلذائذ الأكل الشامي؟ أما زال بردى يركض بصفاء مائه الكريستالي، تحت الشجر الباسق العتيق، أم تلوثت مياهه بالدم السوري المهدور؟
ويا فلسطين في قلوب كتابها، أما زالت دمشق تجمع شمل مبدعيها هناك في مخيم اليرموك وفي فرع اتحاد الكتاب الفلسطينيين مع شهداء الأرض الحقيقيين من الكتاب والمبدعين المعلقة صورهم على الجدران؟
والسائق الشامي أبوالنور الذي قادني إليك قبل الرحيل، وأخذني في سيارة الأجرة إلى جبال الجولان، علّي أطّل من هناك على سفوح فلسطين. هل ما زال يركن سيارته أمام نزل الأدباء الضيوف منتظرا المسافرين القادمين ليجول بهم في ضواحي الشام ويأخذهم إلى صيدنايا ومعلولا، ويودعهم أمام باب المطار أين توادعنا ذات مساء؟
أم ترى قصفت سيارته بفعل صاروخ طائش ليلحق بغيره من الضحايا في غياهب الإعاقة أو الردى؟
قاسيون!
حين ودعتك ذات مساء شتوي بارد مع الغروب، لأمضي بعدها في سيارة “أبوالنور” إلى لقاء مع الكتاب الفلسطينيين، قبل الرحيل إلى المطار، كنت حزينا، وحيدا، خاليا إلا من بعض الأضواء الملونة تترقب زوارا لا يأتون.
حين ودّعتك ونزلت من عليائك ذاك الشتاء، لم أكن أدري أنه سيكون اللقاء الأخير، وأن وحشتك الغامرة تلك، كانت نبوءة، لتظل شاهدا، في وحدتك على دمشق التي أصبحت تبكي بدموع من دم.
ومع ذلك، رغم ما يجتاحنا كل يوم من أخبار الدمار والتقتيل على سفوحك، أشتاقك!
أشتاق سيّدة المدن وأبكيها!.. أشتاق أرصفتها العامرة بالشباب والمحبين والسيّاح، في شارع الحمراء، في باب توما، في الحميدية… أشتاق دخول المسجد الأموي والوقوف قليلا أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي وقراءة الفاتحة هناك.
ولكن، تأتي أخبارك هذه الأيام، تدمي الروح.
أضغط سريعا على موجه التلفاز، أطرد أخبار الجرائم والتقتيل والتفجير، فما عاد بي احتمال لكل هذا الدم المسفوك، وهذه الطفولة تواجهني بنظرات الدهشة والحزن والإدانة في الوجوه الصغيرة الشاحبة.
ما عاد بي احتمال لمواجهة هذه الطفولة المجرورة باكية إلى الخيام أو الراحلة، في الأكفان إلى القبور.
ما هذه دمشق التي تركتها ذات مساء، مودّعة شوارعها الحافلة المضاءة، وأنت بجلالك ومهابتك تطل عليها، تنشر أذرعتك العالية حاميا، مرددا أصداء جوامعها وكنائسها المتجاورة، المصلية لإله واحد رحيم.
ما هذه دمشق، تلقي بجميلاتها، أمام بعض مساجد تونس، وحيدات، مع أطفالهن، وقد وصلن ﻻجئات، والصوت الخافت المقهور يعلن بانسحاق ذابح، الهوية للمصلين: “سوريّة!” بينما الوجه الصبوح يحاول الاختفاء بخجله خلف الوشاح، واليد ترفع جواز السفر.
يا حارس دمشق الأبدي!
أغلق عليك أجفاني. أغلفك بدموعي. يمتدّ الأفق أمامي. أراك في آخر الطريق الدمشقي الطويل، في ضباب المساء الأرجواني، تعلو جليلا صامتا، نجوم تتناثر على كتفيك، وسلاسل أضواء تتلألأ خضراء وزرقاء وحمراء.
أراك، صامتا، حزينا، وصخورك العارية الشهباء، ترنو بدهشة وذهول إلى السفح، شاهدة على جرائم البشرية تدمّر سيدة المدن، تكتسح كل البلاد، تجرف كل عريق وجميل وشامخ إلى الحضيض، تحطم رؤوس تماثيل الشعراء والكتاب والمفكرين، قاصفة كل حضور مشرق للإنسان، فاضحة المؤامرة الكبرى.
أراك يا قاسيون، وبعض روحك هنا، في عيني الطفل السوري الواقف مع أمّه اللاجئة، على باب الجامع. أراك في النظرة الكسيرة الحزينة للصبي ملخصة المأساة الأكبر من أن تتحملها الطفولة.
النظرة الندية للطفل ترنو إليّ، في مزيج من حزن ووجع، واستعطاف ولمعة أمل متردد، تسأل الرحمة لهذا الإنسان المقهور، المطارد بالموت العبثي، الرافع – رغما عنه – جواز السفر.
كاتبة من تونس