إنّ اللهَ لا يغيضُه أنْ أتواصلَ معهُ وحذائي في قَدمَي!

(أصواتٌ مفقودةٌ على الجانبِ الآخَر)
الأحد 2023/01/01
لوحة: حسين جمعان

حدّثتني نفسي: تخرجُ أمّي من البيت، تقفلُ البابَ، تقفُ متنهدةً أمامَه، تتمتمُ أشياءَ في نفسها، أعلمُ لاحقاً أنها كانتْ تُتَمْتم وتسِرُّ لِـ(العَجَمي) بأنها ذاهبة إليه حافيةً لتوفي نذراً أو لتدعو دعاء. تخلع حذاءَها وتضعُه في حَقيبتها، كنت أراقبُ الشارِعَ الذي تدوسُه بأقدامِها الحافية إن كان به شظايا زجاجٍ أوْ حصىً، فأسارعُ لإزالتها قبلَ أن تجرحَ قدميْها، وفيةً لما تعلمناه في درسِ الدّيانة، أن الجنِّة تحتَ أقدامِ الأمّهات.

سنقطعُ أنا وأخي برفقة والدتنا، طريقاً طويلاً باتجاه الكروم حيث المزار، نتجاوزُ أثناءَه قسميْ البلدة؛ الشرقي الحديث والغربي القديم. تبدو بيوتُ بلدتنا في كلا القِسْمين كما لوْ أنَّها سقطتْ من أعلى وتناثرتْ في بقعةٍ مقعرة. الامتداد الشرقي للبلدة يتدرجُ بالارتفاع خجولاً ليلتقي بحوافِ قريةٍ هادئة تطلّ على مساحة من عراء، بينما تبدو الحجارة البركانية كحلاً أسود يعتلي الطّرف الغربي من القرية، يطلَق على هذه المنطقة اسم اللّجاة، أتراها استمدَّت اسمَها من كونها ملجأ للمظلومين؟ أم لأنها تبدو سوداء كلجَّة من ظلام؟

بيتنا غدا في ذاك التقْعير كما لوْ أنه العَيْن! متوسطاً الخطّ الفاصل بين شرقِ القرية وغربِها. عندما أراد والدي بناءَ بيتنا، بدا لي موقعُ حفر أساسِ بيتنا هو الأكثر عمقاً في مقعّر البلدة، فقد استمرَّ العمالُ بالحفر مطولاً علَّهم يجدون صخراً يثبتون فوقه أساسَ البناء، إلى أن أعلنوا إفلاسهم، فالمكان لا بحص فيه ولا حجارة، سمعتهم يخبرون والدي حينها أنهم لم يجدوا إلا (كمَخة)، إشارةً إلى طبقةٍ رقيقةٍ رماديةٍ تميلُ إلى البني، قشرةٌ يوحي شكلُها ولونُها بوجودِ صخرةٍ كبيرةٍ تحتها، إلا أن ضغطةً صغيرةً من قدمِ عاملٍ منهم حطمتْ القشرة وتبددَ حلم الصخرة! قررَّ والدي حينها أن يلجأ إلى نسج حصيرةِ من الحديد والفولاذ ثم دعَّمها بأعمدةٍ من حديد عبأها لاحقاً بالإسمنت. يومها سمعت العمال يؤكدون أنْ لا حاجةَ للقلقِ على بيتٍ كهذا مبنيٌّ بالحديد المسلح. معايشتي لحفر أساس المنزل والمخاوف من عدم إيجاد أساس صخري يمنع جدران المنزل من الاهتزاز والسقوط، مخاوفٌ لم تفارقني حتى بعد أكثر من سبعة أعوام من بنائه. كانت الامتحانات النهائية للسنة الأخيرة لي في الجامعة عندما حلمت أن فيضانا ضخما رافق ذوبان الثلج في الجبل فتدفق في تجويفات وادي (اللّوا) وإذا به ينهال على القرية، أخذت جدران البيوت بالتململ وبيتنا من ضمنها، اختلط صوت تململ البيوت بصوت وقع أقدام فيَلةٍ ضخمةٍ آتية من اللّجاة، أخذت الحمية برجال البلدة وخرجوا إلى ساحات القرية وشوارعها لا يعلمون أي مصيبةٍ يواجهون؛ السيولُ أمِ الفيَلة! وإذا بي أرى رؤوس رجال تناثرت على عتبات البيوت! استيقظت ليلتها فزعة، أنظر إلى جدران بيتنا إن كانت لاتزال قائمة، ما زال ذاك الحلم يخيفني، فأتابع بقلبي أخبار قريتي المقعرة تلك!

في بدايةِ آذار من كلِّ عام، عندما يريد وادي (اللِّوا) بلوغ قريتنا المقعرة، يطأطئ رأسَه العنيد ليتمكن من النفاذ تحت القناطر الرومانية الثلاث التي ترسم حدود ضيعتنا مع منطقة الجوبي البركانية في الجنوب. مع مجيءِ الوادي يسقي الأهالي كرومَهم ذات التربة الحمراء النّاعمة، كرومٌ غيرُ مشذّبة، متروكةٌ للطبيعة وللَّجاة، مسيّجةٌ بسورٍ من حجارةٍ ثقيلةٍ، لا يزيدُ ارتفاعهُ عن نصفِ متر.

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

ها قد اقتربنا من حرم (العَجَمي) نطالع شقائقِ النّعمانِ والأقحوانِ الأبيض وتضادّها اللَّوني مع سوادِ حجارةِ البركان الخامد، حيث سننعمُ بجلسةٍ هادئة بجانب مقام (العَجَمي) نراقبُ الزخرفات الملوّنة على حيطانِ المزارِ ونتمّلس ذاك الغطاء الحريريّ الأخضر بأيدينا الصّغيرة.

نصلُ متعبين فتطرقُ أمي بابَ المزارِ بالرّغم من أن لا أحدَ في الداخلِ، تسلم على (العَجَمي) وتخاطبه: جئتكَ قاصدةً! أرجوكَ لا ترجعني خائبةً بجاهِ سيِّدنا إبراهيم!

أجولُ بنظري في فراغِ الغرفة حيث لا أحدُ ينصت.

– “أمّي مع من تتحدّثين؟

– مع دخيل اسمه سيدنا (العَجَمي) دستور من خاطره!

– ولكنه قبرٌ وهو ميْت!

– لا يا ابنتي لا جثّة مدفونةٌ هنا لـ(العَجَمي)! إنه لم يمت بل صَعد إلى السماء لأنه تقيّ!

– إذاً لماذا بنوا له هذا المكان؟

– لأنه مرَّ من هنا!”

يرافقني هذا (العَجَمي) في هواجسي وأفكاري أثناء طفولتي، فهو حاضرٌ في بيتنا وفي أحاديثِ الجاراتِ وفي أدعيتهنَّ عند كلّ ضائقةٍ وفرجٍ مرجو. سألتُ أمّي: “وماذا قدم للناس حتى بات تقيا لا يموت؟” أخبرتني عن معاركِه مع الشّيطان وكيف انتصرَ عليه، فقد كان يشق الجبال ليخبئَ سارة الجميلة أمّ الأنبياء في أحد كهوف تلة شيحان.

في ظهيرةِ أحد الأيّام وبينما تضع أمّي رأسها على المخدّة، تستلّ من بين أصواتِ صخبِنا أنا وأخي خيطاً ناعماً من قيلولة، وبينما كانت تغفو اقتربَ أخي منها وبدأ يتلو رقيتَه ويتلمّس جبهتها وشعرها الأسود المطوّى الناعم: “بسم الله الرحمن الرحيم، أمّي طيبةٌ وجميلةٌ، أمّي متعبة، يا شافي يا معافي، انطلق يا غراندايزر!”. اندفعت من فمي أمي ضحكةٌ عالية، كما لو أنها إشعار يسمح لي بالضحك على أحد المقدّسات، وبينما أخي مصاب بالدهشة! نطق بخجل: “غريندايزر أيضا لا يموت! إنه يصعد إلى السماء دائما وربما أكثر مما فعل (العَجَمي) في حياته!”. استغفرتْ أمّي ربها بصوتٍ مسموعٍ وطلبت من (العَجَمي) أن يسامح ابنها لأنهُ لا يعي ما يقول! مخيفٌ ذاك (العَجَمي) ، فأمي تطلب منه ألا يغضبَ على طفلٍ لما يتجاوز سنواته الأربع بعد!

كان (العَجَمي) رفيقُ دعائي قبل كلّ امتحان، أعدُه في حال حصلت على عشرة من عشرة بأن أضعَ له ليرة سورية كاملة في صندوق أمواله. في إحدى المرات حصلت على تسعة وثلاثة أرباع، قال لي الأستاذ أن علامتي تعتبر عشرة وأن لا داعي للبكاء، فاحترت من أمري فالعلامة ليست عشرة، مما يعني أنني غير مَدينة للعجمي بليرة! ولكن ماذا لو أن (العَجَمي) يعتبر علامتي عشرة؟ ترى ما هي أعراف المزارات في مثل هذه الحالة؟ راودتني نفسي على الليرة مبررة أن شكل التسعة وثلاثة أرباع مكتوبة لا يشبه العشرة بشيءٍ مطلقاً. إلا أن إحساس الذنب لازمني عندما مرضت بحمى اللوزات فبتّ أرجو أمّي أن تذهبَ إلى مزارهِ وتعطيه الليرة قبل أنْ يقضي علي. عندما استعدت صحّتي عدتُ لمشاكسة (العَجَمي)، وتساءلت ماذا لو أنني لا أريد أن آخذ مكان سارة في هذه الحياة، بل مكان (العَجَمي) ذاته، فهو بطلٌ لهُ مزاراتٍ في القرى ويكسب النقود أيضاً، ولكن كيف يصبح المرءُ كـ(العَجَمي)؟!

قبيل امتحان الشهادة الإعدادية ذهبت أسرتي مع عائلة جدي لأمي في رحلةِ تعبّدٍ إلى مقام شيحان، القابع على قمة تلة رملية رمادية تسبب بها بركان خامد قديم. من أعراف زيارةِ المقامِ ذاك الصعود إليه حفاة. تمشي النساء حافيات إليه، فهنّ من يؤرّقهن جمرُ أمنياتٍ لا سبيل لتحقيقها إلا بالدعاء والنذور. أصرت والدتي أن عليّ مرافقتها رحلة المشي حافيةً والدعاءَ لأجل النجاح في امتحانات الشهادة الإعدادية. كنت أراقبُ ارتفاعَ التلة ومشقة الوصول حافية إليهِ، غير مقتنعة بالدعاء بل بإنهاء دراسة المقرر فقط. تبرّعت بنات خالاتي بمرافقتي، فسرنا في مجموعتين؛ مجموعة النساء الكبار المتزوجات البطيئات، ومجموعة الفتيات الصغيرات، أخذنا نسترقُ السمعَ إلى أحاديثهن الكئيبة، بينما نعلق ونضحك، فيأمرننا من الخلف بتذكرِ أننا في رحلةٍ دينية، وأن علينا الخشوعَ، وليس إلقاء النكاتِ والضّحك! أسرعنا الخطو أكثر كي نباعد بيننا وبينهن، وعند مفرق في التلة تبادلنا النكات حول مصداقية وجود شيحان، ومصداقية قداسته، وحول الفائدة التي سينالها شيحان من مشيتنا هذه. نظرت إحدانا إلى طريق قصيرة عامودية باتجاه المزار في الأعلى، تساءلنا إن كان الدعاء سيكون مقبولاً إنْ مشينا بالطريق المختصر ذاك، أم أن شيحان يحبذُ الطرق الطويلة، قررتُ أن أسلك طريقَ (ليلى) القصير مبررة للفتيات أن الطريق الذي شقته جرافات شركة قاسيون الفاسدة والمرتشية لا يمكن أن يتطابق مع قداسة شيحان وأنه لا بد سيفضل الطريق الذي شقته أقدام البشر والحيوانات. وبالفعل صعدت بالطريق العامودي القصير، كان حادا جداً، أمشيه وحيدة، أتدحرجُ، ثم أتشبث بصخرةٍ صغيرة ناتئة، إلى أن حصل وتدحرجت دحرجة قويةً وتعفرَ جسمي وثيابي بالتراب وسقط حذائي بعيدا. وصل الجميع إلى المزار وبدؤوا بذبح الذبيحة وسلخ صوفها، بينما أنا ما زلت أعاني مشقة الوصول إليهم، كانت أمي أثناء ذلك تحاول إخفاء قلقها عليّ، وعيناها معلقةٌ بمركز الحراسة العسكري، فإمكانات شيحان الخارقة ربما لن تمكنه من إنقاذي من الحراس هناك، ولا حتى تأمين كهفٍ لي ككهف السيدة سارة. وإذا بي أصل والجميع ينظر لي كما لو أنني خرجت من تحت الأرض، عابرة إليهم من زمن آخر! لم أسمعْ منهم كلمةً واحدة، فقط توبيخَ أمّي، وأسئلة لم أفهم مقصدها، فتصرّ أن أرفع صوتي وأجيبها عن سؤالها إن كنت قد مررتُ أو قابلتُ أحداً من مركز الحراسة العسكري، فأرفع صوتي: “وحياة (العَجَمي)، لقد وقعت فقط، وتدحرجت، ولم أمرّ بجانب مركز الحراسة ولم أتحدث إلى أحدٍ ولم أرَ أحداً!”. كان الجميع ينصت دون تحريك ساكنٍ، حتى أنهم لم يحاولوا مساعدتي وغسل التراب الذي دخل أنفي وفمي وعيناي! تعيد السؤال بطريقة اخرى: “هل هناك ما يؤلمك؟” أقول: “لا، فقط رضوض من السقوط والتدحرج، لكنني خائفة منكم، لماذا تنظرون إليّ هكذا؟”.

قضت العائلةُ يومَها في شيحان تقطّع اللحمَ وتشوي وتطبخ، ولا سيرةَ لهم إلا مخالفتي لشيحان واستهزائي به وانتقامه مني: “شفتي! هكذا هو مصير من يخالفهم! إنهم أتقياء!”. سنوات لاحقة وما زالت نكات العائلة تتناولُ مخالفتي لقداسةِ شيحان.

ثلاثةُ عقودٍ مرتْ! وها أنا ذا كلما ذهبتُ برفقةِ زوجي وأطفالي إلى البحر، أصرّ على ألا أنزعَ الحذاءَ من قدمَيّ، رافضةً أن تطأ قدمَاي رمالَ البحر وشعورَ الرمالِ أو الترابِ الذي سيتخللُها! يصرُّ أطفالي أنه لأَمرٌ ممتعٌ أن تتمشى على شاطئ البحر بقدمين عاريتين! أهمسُ لنفسي: “ما زلت أحبّ تحدّي (العَجَمي) وشيحان وجميع الأتقياء الذين يتطايرون في السماء حول الشاطئ، يترقبون دعاء مني بقدمين عاريتين!”. أسير على الشاطئ ناظرة إلى الأعلى: “إن الله لا يغيضه أن أتواصل معه وحذائي في قدمَي”.

أن يُقذف بك خارج مجتمعك لأنك لم تؤمنْ بما يؤمن به، هو ما حدثَ معي يوماً ما!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.