إيمانويل غريفوني.. الشاعر في العالم

السبت 2020/08/01
غرافيكس "الجديد"

إيمانويل بوتّاتسي غريفوني، مواليد 1977. شاعر وأكاديمي إيطالي دكتور في الفلسفة منذ عام 2010. في رصيده عدة مجموعات شعرية منها “الشخص الملتبس”، “الضوء القاصر”، عمل في تدريس هندسة المعرفة في جامعة ترينتو وفي “معهد العلوم والتِّقْنِيَّات المعرفية” و”معهد الضَّوئيَّات والتِّقْنِيَّات النَّانيَّة” التابع لمجلس البحوث الوطني منذُ 2002 وحتَّى 2019. وفي عام 2008 كان باحثاً زائراً في قسم الفلسفة بجامعة كولومبيا في نيويورك.

كَتَبَ ونَشَرَ في الفلسفة الاجتماعية وعلم الاجتماع والذكاء الاصطناعي، ويتعاون مع دار النشر العربية “المتوسِّط”، ومقرُّها ميلانو. تركَّزت اهتماماتُهُ في السنوات الأخيرة على الأدب والفلسفة السِّياسيَّة للأدب، وهو يعيش في ميلانو. في هذا الحوار معه نتعرف على شاعر ذي شخصية معرفية واسعة، خصوصاً في ميداني الفلسفة والعلوم التقنية. وعلى ملامح إنسانية معادية للمنتج الفكري والسلوكيات الثقافية الصادرة عن نظريات المركزية الغربية في صيغها الحديثة التي أخفت وجهها العنصري وراء أقنعة القسمة بين أقوياء الشمال وضعفاء الجنوب، ناهبين ومنهوبين، هاربين من الدكتاتوريات وحراس حدود، أسواق تطحن جميع الأعراق وتجد ترجماتها الحديثة في التعقيد التكنولوجي للرأسمالية المتوحشة، فبدلا من الأيدي العاملة الرخيصة، باتت لدينا اليوم عقول خلاقة رخيصة وأبرز أمثلتها ورش التكنولوجيا الصغيرة الماهرة في الهند. ما سلف يشمل ويشكل اهتمامات الشاعر وهمومه.

إيمانويل بوتاتسي غريفوني، شاعر من طراز خاص، رقيق ونزق، سريع البديهة، عندما يتحدث عيناه تجولان في مرآة محدثه، وفي مرايا أخرى غير منظورة، وتشعان بالبهجة، وقد أفعمتهما بالحيوية تلك الضحكات المرحة المتلاحقة التي ينهي بها كل جملة من كلامه، لكأنه عندما يتلفظ بالكلمات كان يكتشفها مع سامعه ويتأمل فيها كلمة كلمة، كما لو كان هو نفسه، في تلك المحادثة، شخصاً آخر. في هذا الحوار معه نحن في رحلة مع المسارب والخلايا المعرفية للشاعر، أكثر مما نحن في رحلة حول كتابة الشعر في ذاته، وكفى. فالشعر، ولكأن الشعر، في عرف بوتاتسي غريفوني إنما يتحدر خلال رحلة الشاعر مع حواسه وخيالاته عبر تلك الشبكة الذهبية للمعرفة الإنسانية، وانطلاقا من العلامات التي جرح بها الإنسان الجغرافيا بالوقائع التي أهملها التاريخ.

لن أصادر على القراء فحوى هذا الحوار المتدفق الغني بالأفكار والتصورات، لشاعر إيطالي يعتبر مصادفة لقائه في ميلانو ذات أمسية بثلة من الشعراء والكتاب العرب المهاجرين، فرصة ثمينة لعبور المرآة وصولا إلى كينونة الآخر بلحمه ودمه وخيالاته، وموعداً افتتح معه صفحة جديدة في حياته كشاعر. أخيراً لا بد أن أبدي شكري للروائي السوري بالإيطالية يوسف وقاص الذي قام بترجمة نص الحوار ونماذج من شعر الشاعر إلى العربية.

قلم التحرير

الجديد: في شعرك ميل لخلق تفاعل من نوع مّا بين الحسي والفكري من خلال تصادم عناصر تنتمي إلى هذا وذاك. هناك بالتأكيد أثر ما لدراستك الأكاديمية وللبعد الفلسفي والسيكولوجي على خياراتك الشعرية.. ولكن كيف توازن بين خيارات من طبيعة صارمة “للأكاديمي” بإزاء حرية الشاعر وانفلاتاته؟

غريفوني: سأستعين بالشاعر صموئيل تايلور كوليردج، عندما سُئل عن سبب حضوره الكثير من دروس الكيمياء، فأجاب “لزيادة احتياطي من المجازات”. إن الاستجلاء العقلاني للواقع هو تحديد للواقع نفسه من خلال تفاصيل جديدة وصور جديدة. يعيش الشعراء، مثل جميع البشر، في نهاية المطاف، في الواقع. ومن الواقع يمكنهم فقط البدء في تأليف أعمالهم.

لطالما كنت منذ طفولتي، منجذبًا إلى العلم. ولطالما عشت هذا الانجذاب بطريقة قوية، وكان – كما هو الآن – إذا جاز التعبير، نوعًا من الهوس الشعري، حيث تتداخل العناصر الحسية للعالم مع شكلها العقلاني. عندما كنت طفلاً، جذبتني النجوم وعلم الأحياء بشكل خاص، وقبل كل شيء علم الأحياء البشري. بعد سنوات عديدة، عندما كنت على وشك التخرّج في الفلسفة، بدأت في الاهتمام بفلسفة الذكاء الاصطناعي والعمل في مختبر تابع لمجلس البحوث الوطني الإيطالي، باقتناع عميق من جهتي بأنه فقط من خلال مسار بحث عقلاني، كان بإمكاني تطوير حدسي بشكل أفضل لفهم جانب يصعب التعبير عنه، إن لم يكن في الشعر، وهو ما أسميه “ظلال الواقع”، مكان يلتقي فيه العقلاني وغير العقلاني.

سأجيب عن هذه الأسئلة، التي طرحت عليَّ قبل الإعلان عن أزمة الفايروس التاجي في إيطاليا (في شهر شباط/فبراير الماضي)، الآن نحن في شهر تموز/يوليو وستهلّ علينا أولى أيام شهر أغسطس، بعد هذا الحبس الذي ربما لم يكن بعد النواة المظلمة للأزمة نفسها. أول صورة رأيتها عن الفايروس كان لها تأثير مدمّر على ذهني. الكلمة الإيطالية “كورونا”، وهي لاتينية، لا تزال تستخدم في الإيطالية للإشارة إلى الزينة (التاج – السيادة) التي يضعها الملوك على رؤوسهم. في هذه الأيام الصعبة في جميع أنحاء العالم نرى كيف أن الكارثة هي السيادة الحقيقية.

حتى وقت قريب، بدا لنا أن السلطة تكمن في المؤسسات، لكن المؤسسات نفسها تهتز حتى أسسها عندما تكون أجنحة المستشفى غاصّة بالمرضى، وعندما تظهر الدولة أنها لا تستطيع حماية سكانها. ولكن هناك تيجان أخرى لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الإحساس الترابطى بالشعر، حتى لو تمّ تحديدها من قبل العلماء. تشير الهالة الشمسية (التاج الشمسي، بالأصل) أيضًا إلى الجزء الخارجي من الغلاف الجوي للشمس وتمتد ملايين الكيلومترات في الكون. الهالة المشعة (التاج المشعّ، بالأصل) هي بدلاً من ذلك مجموعة من الألياف العصبية شبيهة بشكل المروحة المميز الذي يربط القشرة الدماغية بنواة المادة الرمادية الكامنة في الدماغ البشري. هذه الترابطات هي، في اعتقادي، مادة الشعر نفسه. بالطبع هناك شكل هذه الأشياء المختلفة التي توحّدها، ولكن هناك أيضًا دور الهيمنة المناط إليها: الشمس التي تضيء كل شيء، الدماغ الذي يسمح بالتفكير، وأخيرًا، الحالة التي أنتجت هذا الجزء الصغير من الحمض النووي الريبوزي على شكل تاج يمارس سلطة مطلقة على وجودنا. أعتقد أن هناك ما يكفي للكتابة للسنوات العشرين القادمة.

العملية الشعرية ليست في حد ذاتها عقلانية، بالضرورة. إنه الاستقصاء العلمي الذي يجب أن يكون. لكن الواقع الذي يتحدث إليه الشعر هو نفس الواقع الذي يبحث عنه العلم. العلم الذي يفتح الهاوية الجديدة للمعرفة والجهل في كل اكتشاف من اكتشافاته، ولكن لا يمكنه أن يقول شيئًا عن الإحساس الترابطي والحسي بتجربة العالم، من الإحساس الذي يستيقظ فينا عندما نكون على اتصال مع لا محدودية الكون، أو السلوك غير المتوقع للجسيمات دون الذرية. هنا، أعتقد أن هذا الظليل الذي تختلط فيه معرفة الواقع مع المشاعر، هو الهوس الذي يحاول شعري أن يَنْسَكّ فيه.

أعتقد أيضًا أن الشعر يكمن في التوتر بين العناصر المتناقضة. مثل التوتر الموجود بالتحديد بين الجوانب غير المفاهيمية والمفاهيمية للتجربة الإنسانية. لذا، على سبيل المثال، قد أكون مهتمًا بالفخذ الداخلي للمثلث. يجب ألا يعطي الشعر تفسيرات. هذا لا يعني أنه في بعض الأحيان لا يعطي تفسيرات، لكن تفسيراته دائمًا ما تكون على خيط الموسيقى، لارتباط الإحساس، كما هو الحال عندما يشرح لوكريتيوس في كتابه “في طبيعة الأشياء” بشكل صحيح بعض الظواهر الفيزيائية شعراً، على سبيل المثال بعض ظواهر انكسار الضوء، لكنّه يفعل ذلك باستخدام المادة الصوتية للغة، دون إعطاء وصف بسيط للواقع. لكن الشعر ليس حتى إحساساً. هذا ينتج عن هذا التوتر بين الوصف والإحساس. يمكن خلق هذا التوتر بطرق مختلفة. يمكن أن نفعل الشيء نفسه عن طريق المقارنة، مثلاً الموت مع نعومة أزهار الكرز ورِقّتها.

وهذا يعني إخضاع حدود اللغة، أي إظهار هذه المحاولة المشتركة بين جميع البشر للتنصل من كلماتهم: اعتقاد غريزي أن هناك شيئًا آخر، عندما نتحدث، يختفي، ولكن تبقى آثاره، على سبيل المثال، في النبرة التي تُقال بها الأشياء أو في شكل وصوت الكلمات. بالطبع، تحتوي اللغة على مكوّن مفاهيمي بشكل لا لبس فيه. إذا عدنا إلى المثلث، على سبيل المثال، دون أخذ “فخذه الداخلي” في الاعتبار، نجد أنفسنا مع شكل هندسي يمكننا وصف خصائصه بدقة. مثلا، يكون مجموع زواياه الداخلية بالضرورة، على سطح إقليدي، مئة وثمانين درجة. هذه الحصيلة أساسية للبشرية كما نعرفها على مدى الخمسة آلاف سنة الماضية. لا يمكنك قياس مساحة أيّ أرض دون الحصول على هذا النوع من المعرفة.

دون هذا الإجراء، إجراء قياس الأراضي، لا يمكن تحصيل الضرائب وبالتالي لا يمكن أن توجد دولة. دعنا نفكر في المثلث على أنه شيء له تأثير على علماء الرياضيات فقط، لكن الهندسة تحكم في الواقع تفاعلاتنا بطريقة حاسمة. وينطبق هذا أيضًا على أجهزة المتصفحات (Navigator) لدينا، التي نستخدمها يوميًا للتجول بالسيارة. دون رسم هندسي لسطح الكرة الأرضية لن نتمكن من تحديد أيّ نقطة في الفضاء بدقة. على الرغم من كونه أداة أساسية للعلاقات الإنسانية، إلا أن المثلث يبقى شيئًا تجريديًا. التجريد لا يعني عديم الأهمية، إنما يعني أننا استوعبنا شيئًا أساسيًا في الواقع. لكن هذه الضرورة التجريدية تعيدنا إلى حدودنا.

إنه العالم الذي يتبع، ضمن حدود معينة، قواعد الهندسة الكلاسيكية. أي أنه في حدود معينة يمكننا أن نفهم بعضنا البعض عن طريق الرياضيات: أن نلتقي، على سبيل المثال، في نقطة من الأرض من خلال الحسابات الرياضية. ولكن لا يمكن تمثيل كل شيء بالرياضيات عندما تواجه الواقع من خلال قياسه أو بالفيزياء أو بالعلوم بشكل عام، إن لم يكن من حيث المبدأ. ضمن هذه الجملة: “إن لم يكن من حيث المبدأ” نضع وجودنا كلّه على المحكّ. يبدو أن النظرية العلمية الأكثر دقة الموجودة في العالم هي الديناميكا الكهربائية الكمومية. بهذه النظرية، يخطو العلماء خطوات كبيرة في تحديد التفاعلات الجديدة بين الجسيمات دون الذرية.

ولكن ما الذي يجعل هؤلاء العلماء أنفسهم يعيشون؟ وماذا يمكننا القول عمّا يحدث في حياتهم وفي كوابيسهم وفي أحاسيسهم العاطفية؟ هنا تبدأ اللغة بالغموض. إن الوصف الدقيق لما يحدث عندما يلتقي شخصان، يتجاوز في الوقت الحالي أيّ مشروع علمي، وبالتالي يتجاوز ما يمكن أن تفعله اللغة. تبدأ الكلمات في مناقضة بعضها البعض. لم تعد هناك حاجة إلى النظريات. هنا يأتي الشعر. نحن مضطرّون للشعر. ربما يكون الشعر أيضًا تمردًا ضد حقيقة أننا لا نستطيع أن نتعامل بشكل أفضل مع مفاهيمنا. نحن نتمسك بالفخذ الداخلي للمثلثات في محاولة للهروب من السجن الذي بنيناه بأنفسنا عندما استحوذنا على النطق. لذلك أهتمُّ بالعنصرين الحسي والعقلاني. لا أعتقد أن الشعر يمكنه الاستغناء عن هذا. لإنجاز هذه المهمة أجريت طواعية دراسات فلسفية وعلمية، ليس بالاصطناع، ولكن بالصراع، وعملت لسنوات عديدة في مركز بحث علمي يتعامل مع مشكلة كيفية تمثيل المعرفة في الذكاء الاصطناعي. كان الشعر معي، مضغوطاً، منذ أن كنت طفلا، مثل الإغواء للعلم. بالنسبة إليّ كان لوكريتيوس دائمًا سيدًا، لأنك لا تشعر بهذه الطاقة الكونية التي تخترق لغز البشر لدى لوكريتيوس.

اللحظة الاستثنائية

ليس من قبيل المصادفة أن الشعر، في عالم تشويه الزمن، هو ظاهرة أقلية

الجديد: قلت لي إن ارتباطك بصداقات مع شعراء وكتاب عرب ينتمون إلى مصر وفلسطين وسوريا وربما بلدان عربية أخرى، كانت موعدا لانتباهات مهمة مكنتك من أن تطلّ على نفسك كشاعر إيطالي من زوايا جديدة كلية.. هل كان هذا الموعد مدخلا لمراجعة من نوع فكري؟ أم من زوايا تتصل بالمغامرة الشعرية؟

غريفوني: كان لقائي عَرَضِيَّاً تمامًا. ذات مساء في شهر أيار/مايو قبل عامين، كنت قد قصدت مع شريكة حياتي في ذلك الوقت مطعماً لطيفاً في الهواء الطلق في ميلانو. بغتة بدأت تمطر، نهضنا للبحث عن مائدة محمية، الطاولة الوحيدة التي كان فيها مكانان شاغران كانت تلك التي وجدت حولها ثلاثة شعراء وكاتبين: خالد سليمان الناصري، عماد الأحمد، غياث المدهون، يوسف وقاص وحسن بلاسم. بالنسبة إليّ، لم تكن هناك أيّ أهمية على الإطلاق من أيّ بلاد ينحدرون، فلسطين، سوريا، العراق…، كنت مهتمًا بدلاً من ذلك بما يقولونه، في الشغف الذي ينبث من أحاديثهم، وقبل كل شيء، جوّ الاحتفال والصداقة الذي كان يسود بينهم. كل هذا أصبح مصيرًا، كما أعتقد، أيضًا بسبب كل ما حدث لي من قبل، أثناء تأهيلي ونشاطي الفكري. لقد قضيت سنوات على اتصال بالفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الرياضيات والمهندسين وعلماء الكمبيوتر.

ثم لسنوات عديدة كنت قد ابتعدت جزئيًا عن تلك البيئة لتعميق بحثي الأدبي. قبل سنوات عديدة كنت قد اقتربت أيضًا من العالم الأدبي الإيطالي، لكنني شعرت ببعض التعب. أتحدث هنا عن السنوات الأولى من عام 2000، سنوات صعبة من وجهة نظر سياسية وثقافية. إنما في ذلك المساء، شعرت أنه لم يكن هناك أيّ نوع من التعب في هؤلاء الأصدقاء الجدد. لقد كانت لديهم حيوية دافقة، وهو بالنسبة إليّ مكون أساسي للكتابة نفسها. أعتقد أنه لا يمكن فعل أيّ شيء في الشعر والأدب، دون تطبيق كمية خطيرة (وأؤكد على هذه الكلمة) من الطاقة في إنتاجها.

لذلك أريد أن أؤكد أنني لم أرغب في تعميق معرفتي بهؤلاء الناس من وجهة نظر أدبية وشخصية لأنني متعطش للإيكزوتيكي (تُظهر دراساتي ذلك: أنا لست مستشرقًا). صحيح أن إيطاليا بلد متأثر جدًا في هذه الفترة بالشعر الأميركي وقليل جدًا بالشعر العربي. أدركت على الفور أن هذا الاتصال الفريد بهذه الثقافة كان يمكن أن يجعل مخيلتي أكثر خصوبة. لكن اهتمامي كان ولا يزال دائمًا منصبّاً على الأشخاص المحددين أمامي. شعراء وكتاب ينبضون بالحياة، مع أفكار تتدفق باستمرار، خاصة مع الإحساس العميق بالسخرية والطعم الفطري للاستفزاز، حتى لو لم يكن غاية في حد ذاته. باختصار، كانوا الأشخاص الذين أبحث عنهم.

هذا لا يعني أنني لم أحاول القراءة والتوثيق بنفسي، وكذلك البدء بتعلم اللغة العربية. لا يمكنني، في هذه الحالة، إلا أن أذكر البروفيسور وائل فاروق من الجامعة الكاثوليكية في ميلانو، الذي كان وما زال عوناً كبيراً لي في هذا المجال. إنني أدرك أن هذه الدراسة بأكملها كانت وستظل طريقة لإثراء إمكانياتي التعبيرية، أكثر من إيجاد طريقة للحديث عن ماهية العالم العربي أو ما يعنيه هذا العالم. لا أعرف ما هو العالم العربي. إنه سؤال لا يهمني. ما يهمني حقًا هو ما يقوله الأصدقاء الذين أتفاعل معهم حيث، في هذه الحالة، هم عرب.

أعتقد أن كل ثقافة تحفّز طريقة معينة للتعبير عن نفسها على حساب ثقافة أخرى. بهذه الطريقة، يتم تأسيس التعليم بشكل عام. حتى في شكل التعليم الذي يعطى للأطفال. يتم القيام ببعض الأشياء، وتهمل أشياء أخرى. كل ثقافة ترسم حدودها، وبالتالي يمكن أن يحدث أن نوعاً معيناً من العمل مجاني في سياق ثقافي معين، ومحدود في سياق آخر. هنا، أعتقد أن أهمية التبادل الثقافي تكمن في هذه النقطة على وجه التحديد، ليس لإنشاء جسور بين الثقافات المختلفة، ولكن لاكتشاف، من خلال ثقافة مختلفة، أن هناك أشياء معينة في تلك الثقافة الأخرى ممكنة. ما سمعته من ذلك الاجتماع ومن العديد من الأشخاص الذين التقيت بهم لاحقًا هو أن بعض الأشياء التي لم يتم أخذها بعين الاعتبار أو التي تحظر ضمنيًا في الشعر الإيطالي أو الأوروبي، يُسمح بها أو حتى يتم تشجيعها في آداب أخرى، كما في الشعر العربي مثلاً. كان لهذا تأثير متفجر للغاية في نفسي. بعد كل هذا التجريد الذي انزلقت فيه للسيطرة على نفسي كمحطة للطاقة النووية، كنت محظوظًا بما يكفي لمواجهة طريقة مختلفة في الكتابة وتجربة الكتابة. لا أعرف بالضبط ممّا تتكون هذه الطريقة في الكتابة: لحسن الحظ، اكتشفتها، بشكل حدسي، في تطورها الخاص. بالطبع، تجربة الحرب والقمع السياسي التي مرّ بها العديد من هؤلاء المثقفين تضع، على مستوى مختلف، تجربة الكتابة التي تكتسب حتمًا نفسًا ليس فقط أكثر مأساوية، ولكن قبل كل شيء أكثر اتساعاً. هذا غيّرني كشاعر، ليس أقله من خلال التعرف عليك، نوري، الذي أثر، في التبادل الشخصي وقراءة أعمالك بعمق، على فهمي لما يمكن القيام به في الأدب.

التناقض والمغادرة

الجديد: سأعف عن التعليق على إشارتك إلى شخصي أو شعري، وإلى لقائي بك في أمسية رائعة، وأسأل: هل تعتبر أن الشعراء، إلى أي ثقافة انتموا، هم مجتمع متمايز لكونهم يقيمون في اللغة أكثر مما هم يقيمون في الأرض، وإن هذه الخصوصية في الانتماء إلى اللغة (وهي أرض علوية) تجعلهم أكثر انفتاحا على الكينونة البشرية وأعمق اتصالا بالوجود بحيث يشكلون هوية كونية مضادة لكل العصبيات الصغرى المنتجة بالضرورة للفاشية والانغلاق الأحمق؟ وعليه.. هل يمكن للشعراء أن يوحدوا العالم خارج القصيدة؟

غريفوني: أشارككم خوفكم من هذين الاتجاهين: الشعبوية والقومية والفاشية من جهة، والشمولية التافهة من جهة أخرى، وأضيف نفاق المجتمعات الرأسمالية التي نعيش فيها. إننا نراها بشكل مأساوي مع العواقب القاسية لاستغلال الهجرة، بالعنصرية أو بالأزمة الناجمة عن الوباء. فإذا ما كانت الحماقات الترامبية (نسبة إلى ترامب) واضحة بالتأكيد، فإن التناقضات التي يحاول فيها الدفاع عن النظام الرأسمالي الذين يحاولون منحه وجهًا جيدًا ربما تكون أكثر شراسة، لأنها تبرر أكثر وجود الترامبية نفسها ولأنهم يساهمون بهذا في الحفاظ على الامتيازات وعدم المساواة. هذه الامتيازات والتفاوتات تترجم إلى حياة مهدورة ومدمرة. ولكن ماذا يعني هذا؟

إن الخسارة التي يتعرّض لها المُسْتَغَلّون، على كل حال، هي دائمًا نفسها، خسارة الوقت. العمل على رعاية المصالح الاقتصادية للآخرين، والاستهلاك لإثراء القلة، ودفع الإيجار والرعاية، وفقدان الأحباء، والوحشية من العنف، وإرغامهم على الهجرة، والإصابة بالعدوى من خلال العمل في سوبر ماركت، وتنظيف منزل البعض الآخر، إحضار طرود أمازون: كل هذا وقت مسروق مما يؤدي إلى حياة مشوهة. في مقال كتبته مؤخرًا بعنوان “الأناركية الاصطناعية” حاولت أن أشرح كيف يجب أن تكون هذه الأزمة البداية لإيجاد طريقة مختلفة للخروج من هذا الديالكتيك (الترومبي أو المعتدل) الذي بدأ مساره الآن. أعتقد أن الجواب يمكن أن يكون فقط أناركيا، أي التحرر من الحكم والسلطة، من جميع السلط ومن انحراف الملكية الخاصة، فوضى لا أفسرها على أنها عودة إلى الطبيعة، ولكن على أنها مواجهة التحدي الذي ترغمنا عليه التكنولوجيا من خلال بناء برنامج بحثي جديد يجمع بين التفكير السياسي والذكاء الاصطناعي من أجل إيجاد الأدوات التي تسمح لنا بإحداث أناركيا مصطنعة.

بالعودة إلى التفكير في الشعر، صحيح أنه يمكن القول إن الشعراء يسكنون اللغة، بالضرورة، أكثر من الآخرين: تأليف الشعر، بالطبع، يقوم على اهتمام باللغة من جميع جوانبها. وصحيح أيضًا أن الشعراء يشعرون أنهم ينتمون إلى مجتمع يرونه متميزًا عن المجتمع نفسه. ولكن علينا أن نكون حذرين. لأن الخطر هو أنه في هذا التمييز عن المجتمع، هناك انفصال عن المجتمع نفسه يُفهم على أنه مكان لتشويه الوقت، والتضحية بالأرواح البشرية.

لكن اللغة التي تسكنها هي أيضًا صحيحة للسياسيين ووكلاء الإعلان والمحامين وجميع المهن التي تعمل فيها اللغة لنظام الاستغلال والاسترقاق. ليس من قبيل المصادفة أن الشعر، في عالم تشويه الزمن، هو ظاهرة أقلية. إنها، مهما كانت خطيرة، لعبة، استخدام مجانيّ جوهريًا للغة، حيث القيود هي فقط تلك التي تفرضها اللعبة نفسها أو المؤلف وليس من قبل نظام، مثل النظام الاقتصادي والسياسي الذي نعيش فيه، بناءً على الكفاءة. في الشعر، من ناحية أخرى، تنطبق الفعالية، أي التنويم المغناطيسي الذي يثير اللغة عندما لم يعد أمرًا أو ضرورة للبقاء.

وبالتالي، فإن الطريقة التي يعيش وفقها الشعراء في اللغة ربما تتيح إمكانية، ضعيفة (نظراً إلى التفاوت في القوى المعنية) لبناء هوية مضادة عالمية. يذكرنا الشعراء بأننا أكياس من اللحم الحيّ، وأننا بحاجة إلى تجربة المتعة والعواطف، وأننا نحتاج إلى اللعب، وأننا بحاجة إلى أن نكون معًا أحراراً. وذلك لأن الشعراء يعارضون اللغة نفسها في أكثر مكوناتها المفاهيمية، وقبل كل شيء في التعبير عن لغة الدولة والشركات والدعاية التي تحوّل الوسائل إلى غايات بدلاً من ذلك. الشعر هو المكان الذي يكون فيه التناقض ضروريًا. كما قال شارل بودلير، هناك قضيتان مهمتان للغاية في مجال حقوق الإنسان “الحق في التناقض والحق في المغادرة”.

منظور كوني

يذكرنا الشعراء بأننا أكياس من اللحم الحيّ، وأننا بحاجة إلى تجربة المتعة والعواطف

الجديد: حدثنا عن كتابك الشعري المقبل.. ما هي الموضوعات الشاغلة أكثر من غيرها في قصائد هذا الكتاب.. وهل يشغلك أن يكون لهذا الشعر اختلافه عن الشعر المكتوب اليوم في الإيطالية.. كيف تنظر إلى خصوصية الصنيع الشعري؟

غريفوني: ديوان الشعر الذي أنا بصدد الانتهاء منه يحمل عنوان “الضوء القاصر”. كلمة “قاصر” مشتقة من الفعل اللاتيني تصغير (Minorare)، وهي كلمة ما زالت تستخدم في الإيطالية، حتى لو كانت غير شائعة الاستخدام. التصغير هو التقويض، التقليل، الإعاقة. في صيغة الماضي، يصبح الفعل قاصرًا، بوظيفة اسم، ويشار به إلى شخص محروم – لأسباب خلقية أو مكتسبة – من بعض الملكات البدنية أو الفكرية أو النفسية. لذلك فإن المعوق هو العاجز لأنه تقوّض إلى حد ما. أجد هذا الوصف قاسيًا إلى حد ما. لقد بدأت كتابة هذا الديوان في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، في المقهى بالقرب من المنزل الذي عشت فيه حتى وقت قريب جدًا، في ميلانو. مكان غريب، تديره جمعية تتعامل مع تأهيل الأطفال المعوّقين في عالم العمل، حيث يعملون كنُدُلٍ. أولئك الذين يعملون في الجمعية وينسقون بين هؤلاء الأطفال يعتنون بهم باهتمام كبير وكفاءة بالرغم من أنني، للأسف، تمكنت من حضور اللحظات التي عومل فيها هؤلاء الأطفال بقسوة معينة. الصلابة التي لطالما أذهلتني كثيرًا، وهو الموقف الذي ظهر كثيرًا في مَنْ يجب أن يساعد الآخرين من خلال المهنة، والصلابة التي تمكنت من ملاحظتها، على سبيل المثال، في مشغّلي المنظمات غير الحكومية مع المهاجرين. تقريبا كل واحد من هؤلاء الصبية متعلق بإحدى هؤلاء المنسقات، اللاتي، في لحظة معينة، تعلّقت بهنّ أنا أيضًا. في تلك اللحظة ولد الكتاب. كنت أجلس إلى المنضدة لأراقب وأراقب، شاهدت وكتبت، إذا جاز التعبير، مباشرة. لكنني كتبت من منظور كوني. منظور تأثر أيضًا بحقيقة أنه في ذلك الوقت طُلب مني عقد محاضرة حول فلسفة الضوئيات، وهو موضوع لم أتعامل معه أبدًا بشكل احترافي. لقد أثّرت دراسة الضوء فيّ بعمق. وهكذا ولدت دائرة قصيرة غريبة من الأفكار والأحاسيس: في حين كان يقاطعني أحد هؤلاء الصبية في المقهى لتلقّي الاهتمام أو يربّت على كتفي بحنان، كنت أشعر بسرّ سوء فهم الواقع، وهو واقع شعرت به في تجسيده المطلق.

لذلك أصبح الكتاب انعكاسًا شعريًا لفيزياء الواقع من خلال الضوء، ومع ذلك ليس فهماً فقط بالمعنى الشعري، ولكن أيضًا بالمعنى العلمي والسياسي.

وفيما يتعلق بهذا الأخير، بالمعنى السياسي، يُفتتح الكتاب باقتباس من دنغ شياو بينغ، زعيم الصين ما بعد الماوية، “تجنّب النور، وازرع الظلام”. يشير هذا الشعار إلى استراتيجية الصين بين أواخر السبعينات وأزمة عام 2008. وهي استراتيجية تقوم على بناء هيمنة عالمية تعتمد على الابتعاد عن الأضواء ورفض الدخول في الصراعات المسلحة وبدلاً من ذلك استغلال الوقت لتنمية الموارد والقوى الإنتاجية. بالنسبة إليّ، يعكس هذا الشعار حاجة الدول بشكل عام: الحفاظ على السرية. فقط من خلال هامش معين من السرية تمكّنت الدول من البقاء وهذا ينطبق ليس فقط على الصعيد الدولي، ولكن أيضًا عندما يتعلق الأمر بالسكان أنفسهم. يوجد دائمًا في الدول مكان يخفت فيه الضوء، أي يصبح قاصراً.

يبدأ الكتاب ويختتم بالبعد السياسي، وينتهي خلال أكثر فترات الحجر الصحي قسوة التي مررت بها في ميلانو، أهم مدينة في مقاطعة لومبارديا، وهي المنطقة التي برزت كواحدة من أكثر المناطق تأثراً بالفايروس في العالم. كما أصبح الضوء الأقل هو ضوء السجن المتناقص في منازلنا. الفترة التي قضّيتها معتكفاً مع امرأتين، صديقتين مع بعضهما البعض، كانت إحداهما شريكة حياتي لمدة عشر سنوات تقريبًا. علاقتي مع هاتين المرأتين هي أحد الموضوعات الرئيسة للكتاب، حيث يختلط البعد الشبقي مع فيزياء الضوء، وحيث يتم القضاء على الفلسفة، وهي جوهرية في حياتي، وتستثنى من الكتاب بطريقة وحشية أيضًا. أعتقد أن الفلسفة، ما لم ترغب في صنع فلسفة فنية مثل الفلسفة التحليلية من أصل أنغلوساكسوني، يجب أن تكون انعكاسًا للسياسة من خلال الأدب. هذا، ليس في الشعر، ولكن في النثر، أي كخطاب نقدي.

لذلك هناك محاولة في هذا الكتاب لطرد الفلسفة من الأدب. في الواقع، في نقطة معينة أكتب، في قصيدة لم أدرجها في الكتاب لأنني أعتقد أنه من الصعب للغاية تحويلها إلى لغة أخرى “الفلسفة الحقيقية هي الرياضيات، والشعر الحقيقي هو المادة”.

إذا كان عليّ أن أتحدث عن علاقة هذا الكتاب بالشعر الإيطالي المعاصر، أشعر بالحرج. إحراجًا لا أعيشه بالتأكيد أثناء الكتابة، لكنني أشعر به في كل مرة أحاول فيها التواصل مع السياق الثقافي الخاص بي. كما قلت من قبل، فإن أسلوبي في الشعر يكمن في توليد توتر بين الشهوانية الحارقة والنظام الكوني، وهو التوتر الذي لا أشعر بوجوده في الشعر الإيطالي المعاصر. أي أننا نعود إلى داخل فخذ المثلث، الذي كان أيضًا المثلث الذي مررت به مع هاتين المرأتين اللتين انتهت علاقتي بهما فجأة وبشكل مأساوي مع نهاية الحجر الصحي.

الطفرة المستمرة

..

الجديد: يعتبر ت إس إليوت أن الشعر ليس تحريرا للعاطفة ولكنه وسيلة للتخلص من العاطفة، وأنه ليس وسيلة للتعبير عن الشخصية ولكنه وسيلة للفرار من الشخصية؟ هل تظن أن الشاعر يخلق في الشعر كيانا موازيا لكيانه؟

غريفوني: ملاحظة إليوت هذه، من نواح كثيرة، قريبة جدًا مني. إنها مستقاة من مقالته الشهيرة “التقاليد والمواهب الفردية”، التي نُشرت لأول مرة منذ قرن وعام مضى حيث لا ينسى إليوت في التذكير كيف ينتهي الأمر بتشابه الشاعر والعالم على حد سواء، في عملية نزع الطابع الشخصي. الحقائق التي تحمل طابع السيرة الذاتية الدقيقة التي ذكرتها لا تتعارض على ما يبدو مع اعتقادي، كما يقول إليوت، “إن عاطفة الفن غير شخصية”. في رأيي، فإن نزع الطابع الشخصي يحدث من خلال الصراع (وأعتقد هنا أنني أختلف عما يقوله إليوت) أي التوتر بين منظور شخصي ومنظور سياسي أو كوني، على سبيل المثال. وبالتالي، فإن الواقع الذي تم إنشاؤه ربما لا يكون موازياً لواقع الشاعر، ولكنه ناجم عن هذه القوى المتضاربة. نتيجة يصعب وصفها، وهي ليست مرآة للتجربة الفردية البسيطة. تجاوز هذا، يعني صراحة ما هي رسالتك، وأعتقد أنه خطأ فادح في المجال الفني.

هناك المزيد على ما أعتقد. كما قلت، قد يوفّر الشعر كعمل تحرري، وإن كان ضعيفًا، فرصة لتخيل بُعدٍ اجتماعي تم تحريره للجميع، لكن هذه ليست رسالة من إنتاجي الفني، إنها نشاط الشعر نفسه الذي يمثله.

أعتقد أن الشعر يمكن أن يساهم بهذا المعنى في تحرير هذا العبء الذي هو الشخص. في الغرب، ساهم القانون الروماني بشكل كبير في وصف مفهوم الشخص. مجموعتي الشعرية قبل الأخيرة – التي اخترت منها أربعة نصوص لمجلة الجديد – تسمّى “الشخص الملتبس”، مفهوم قانوني للتشريع الروماني. الشخص غير المؤكد هو، إذا جاز التعبير، أيّ شخص، الشخص الذي ليست لديه حقوق قانونية لأنه غير محدد. على سبيل المثال، ليس من الممكن، في القانون الروماني، نقل الميراث لأول من يصل إلى جنازة الميت، لأن هذا ليس شخصًا محددًا، إنه شخص لا يُعرف من هو وبالتالي هو شخص غير مؤكد.

أنا أفسر الشخص غير المؤكد بأنه شخص بدرجة صفر. آمل في عالم يمكن أن يكون فيه الجميع أناسًا ملتبسين، حيث لا يكون فيه البشر بهوية محددة طوال حياتهم. كتبت سيمون فايل صفحات ذات قوة عظيمة عن الشخص. بالنسبة إلى فايل، الشيء هو، على سبيل المثال، رجل معين، وآخر هو شخصه. شخصه يحمل الحقوق والواجبات ولديه وثائق مرتبطة بالاسم وتاريخ الميلاد وما إلى ذلك. باختصار، يتمتع الشخص بهوية اجتماعية وقانونية يحملها معه طوال فترة وجوده ويتم تخصيصها له من خلال السياق المحدد الذي يعيش فيه هذا الرجل.

بالنسبة إلى فايل، ليس شخصه هو المقدس، ولكن هذا الرجل المحدد، في فرديته وبكلّيته. تقول فايل، إذا قمت باقتلاع عيني هذا الرجل، فسيكون هذا الإنسان إنسانًا تمامًا كما كان من قبل، لكن هذا التشويه سيدمره في وجوده المحدد. هنا، هذا الجزء هو الذي يهم الشعر، وليس الشخص، ولكن الكائنات الحية المحددة التي تعيش وجودها في تفردها غير القابل للتصرف، والتي هي أيضًا كائنات في طفرة مستمرة.

الميراث والموت

الجديد: نحن نكتب وفي خيالنا قارئ مّا، كينونة مّا نتصل بها على نحو غامض.. وكلما كان ما نكتبه ملغزا كان هذا الشبح البعيد الذي نكتب له ملغزاً، ولكن ما الدافع لهذه المغامرة الخطرة مع الكلمات (التي لن يقرأها ذلك الكائن) وعلام نمزق سكون الورق بما نسميه الكتابة؟ وما الكتابة في جوهرها العميق؟ أهي علامة انتصار في صراع شرس مع الصمت، أم عراك عبثي مع الموت من قبل وجود زائل هو الكاتب؟

غريفوني: أتذكر المرة الأولى عندما تعلمت القراءة وأنا طفل وتمكنت من فك شفرة أول كلمة. أتذكر انتفاء القدرة على الرجوع إلى الوضع السابق. لم يعد بإمكاني التوقف عن القراءة. الكتابة حقيقة لا رجعة فيها. حسب ما نعرف، يعود ظهور الأنواع البشرية الحديثة إلى حوالي مئتي ألف سنة مضت. نوع لا يظهر معدوم التقنية. وقد اخترع البشر البدائيون النار بالفعل منذ بضع مئات الآلاف من السنين. انتشرت هذه الأنواع البشرية حول العالم لآلاف من السنين، وقبل أكثر من خمسة آلاف عام، بدأت في استخدام الكتابة في بلاد ما بين النهرين لأغراض اقتصادية وإدارية: دفع الضرائب. عندما نتحدث عن الكتابة، يجب ألا ننسى أبدًا أنها نشأت من أجل هذه الاحتياجات الاقتصادية السياسية وليس من أجل الاحتياجات الأدبية. وعلينا ألا ننسى أننا يجب أن ننتظر خمسمئة عام على الأقل بعد ولادة الكتابة حتى نراها تستخدم لأغراض يمكن أن تسمّى أدبية. الأدب، في شكل قصائد وروايات، كان موجودا بالتأكيد قبل الكتابة، وبالتالي قبل الدول، ولكن ليس في شكله المكتوب. هذا الاعتبار أساسي بالنسبة إليّ. استخدام الكتابة لأغراض أدبية يعني الخروج من منظور الدول. هذا يعني إدخال بُعد من الاستكشاف الإبداعي والاجتماعي. وبالتالي فإن السياسة حاضرة، كتعارض، أيضًا في الكتابة الأدبية التي تتجاهل السياسة تمامًا في الموضوعات التي تتعامل معها.

إن كلاّ من شكلي الكتابة – سواء تلك الرسمية أو الأدبية – يخضعان بالتأكيد لسوء الفهم، أي لما يسمونه غير قابل للتشفير. سوء الفهم هو جوهري للغة، سواء أكان مكتوبًا أم منطوقًا وهو في مستوى لا يمكننا التحدث فيه، بعبارات دقيقة، عن سوء الفهم: لدينا في الواقع فقط اللغة لنكون قادرين على فهم ما إذا كنا قد وقعنا في سوء الفهم أم لا. هنا، أعتقد أن لودفيغ فيتغنشتاين ما زال أمامه الكثير ليعلّمنا إياه. نتعلم معنى الكلمات من خلال استخدامها. عندما نتعلم كلمة جديدة، فإننا ندخل في علاقة مع الآخرين: نقول شيئًا وما نقوله يثير رد فعل معين في الآخرين. إذا لم يكن رد فعل الآخرين سيئًا، إذا قبلوا استخدامًا معينًا نستخدمه لتلك الكلمة المعينة، وبالتالي يبدو أنهم قد فهموا ما نعنيه بقول ما نقول، فعندئذٍ يبدو لنا أننا قد شاركنا شيئًا ما، سيبدو لنا أن معنى ما نقول قد وصل إلى الآخرين، ولكن لا أحد يضمن أن هذا المعنى قد وصل بالضبط بنفس الطريقة التي تصوّرناها. على سبيل المثال، تعلمنا كلمة معينة في سياق معين مع تجربة معينة. يجلب هذا السياق وهذه التجربة معه مجموعة كاملة من العواطف والصور التي لا يمكن الوصول إليها بشكل طبيعي للآخر، الذين عاشوا، جنبًا إلى جنب مع تعلم نفس الكلمة، وسياقًا آخر كاملًا وإرثاً زاخراً من العواطف والصور.

يبدو أن هذه مشكلة بالنسبة إلى الكاتب بالطبع، لكني أعتقد أنها، للمفارقة، أقل أهمية بالنسبة إلى الأدب من مجالات الكتابة الأخرى، وأقل من ذلك بالنسبة إلى الشعر. في الواقع، يحتوي الشعر على مكوّن يتجاوز معنى الكلمات، وهذا العنصر له علاقة بالإيقاع. الإيقاع في الشعر هو ظاهرة سليمة في المقام الأول. بالطبع، يمكننا أيضًا التحدث عن إيقاع الصور المرتبطة بمعنى الكلمات، ولكن لا يمكننا أن ننكر، على المستوى الأساسي، أن الشعر يعمل مع التنويم المغناطيسي الذي يثيره صوت سلسلة من الكلمات. ولا أشير بالإيقاع بالضرورة إلى الأوزان التقليدية. الشيء المهم هو أننا بإيقاع معين نتفوق على الوقت، إذا جاز التعبير، في الوقت نفسه. لذا إذا كان من الممكن أن يُساء فهم معنى الكلمات (حتى لو لم نعرف أبدًا إلى أيّ مدى) فإن الإيقاع، المادة الصوتية، يحتوي بدلاً من ذلك على مكون أكثر موضوعية. إيقاع الشعر هو الجانب الأكثر اجتماعية من الشعر نفسه.

أخيرًا، تتحدث عن العلاقة مع ميراثك، أي مع الموت. ماذا نترك عندما نكتب؟ في ضوء ما قلته حتى الآن، السؤال غير قابل للحل. أي أننا يجب أن نتقبل أننا غير متأكدين من المغادرة ونجمع ميراثاً ملتبساً وغير مؤكدٍ.

بعيداً عن التقييمات

أعود إلى جلجامش، مقتنعًا أنه يقول عنا أكثر ممّا نودّ أن نعرفه

الجديد: نكاد لا نعرف نحن العرب عن الشعر الإيطالي إلا القليل. هل لك أن ترسم لنا لوحة للشعر الإيطالي في النصف الثاني من القرن العشرين وفي هذا المطلع من الألفية الثالثة، أسماؤه، اتجاهاته، تطلعات شعرائه، واهتماماتهم اللغوية والتعبيرية؟ وهل يمكننا الحديث عن اتجاه لغوي وتعبيري وجمالي في الشعر الإيطالي مرتبط بجغرافية المتوسط بما يتجاوز حدود إيطاليا في إطلالتها على البحيرة؟

غريفوني: أطلب الصفح، لكني لا أشعر حقًا بالإجابة على هذا السؤال. تعتمد طريقتي في تناول الأدب بالتأكيد وبشكل أساسي على المقارنة مع أدب اليوم، بما في ذلك اللغة الإيطالية، ولكنها كانت تتميز دائمًا بوقاحة معينة لازمة لكتاباتي. استخفاف مطلق ولكن خاص، أي الذي يشكّل مختبر إنتاجي الأدبي. لذلك لا يمكنني أن أملك، من عدة نواح، مقاربة نقدية أدبية. أبحاثي محددة: قد أكون مهتمًا بالعمل على مؤلف معين، لأنني أجد فيه بنية بمعان ذات صلة بشكل خاص، لكنني لست مهتمًا بمسارات المشهد الأدبي الحالي، المسارات التي يستحوذ عليها العديد من الشعراء والنقاد الإيطاليين اليوم. أعتقد أن ثمة ضعفا ثقافيا في هذا المسار وأن هذا يغذي هامشًا معينًا من الشعر في مجتمع عصرنا. آمل، في الآونة الأخيرة، في الشعر الذي كتبته النساء، والذي أرى فيه الآن قوة تعبيرية مفقودة لدى العديد من الرجال في إيطاليا.

كما قلت، إن تجنب رسم مسارات لا يستبعد التدخل النظري، بل على العكس. على سبيل المثال، أعتقد أن في أعمال جورجيو كابروني، الذي كتبت عنه مقالاً في العام الماضي – أن تطلق النار على الإله، جورجيو كابروني وعدمية الواقع – نشأ سؤال لا يزال يمرّ عبر الأدب الإيطالي وما بعده أي مسألة العلاقة بين الواقع والأدب والصدمة. في أعمال كابروني، الذي شهد أهوال الحرب العالمية الثانية بالكامل، بدأنا نرى إدراكًا للتشويه الناتج عن التجربة الصادمة، وهو وعي غير كامل على الإطلاق: ينتهي المؤلف إلى كونه ضحية هلوسة لتجربة الواقع دون أن يدرك ذلك. إن إدراك مدى تأثير العنف والصدمات على النتاج الأدبي للواقع هو أحد الاحتمالات التي يمكن للأدب أن يلجأ إليها أكثر فأكثر.

لقد تم اعتبار كابروني مؤخرًا، ولحسن الحظ من قبل القليلين، أنه لم يعد شاعراً مهمًا للغاية. بالطبع لا أعتقد أن هذا صحيح، لكنني أعتقد أيضًا أنه عندما تفكر في عمل شاعر آخر، فإن هذا لا يهم على أيّ حال. لست مهتماً بالتقييمات المتعلقة بالجودة الأدبية، ولكن بخلق عوالم. يمكن أن يكون عالم الشاعر أو الكاتب قبيحًا أو أخرق، الشيء المهم بالنسبة إليّ هو أنه، بدوره، يخلق عوالم أخرى، عندما يستكشفها. هذا أمر أساسي بالنسبة إليّ: أن يحفز الكاتب، والشاعر، والفيلسوف، والعالِمْ على خلق عوالم أخرى. بالنسبة إليّ، ما يعنيني أي من الممكن لعالم، حتى لو كان أخرق وقد يبدو مصاباً بالهذيان، أن يقوم شاعر غير كفء بإثارة شيء ما، ويبدأ بتحريك الصور والأفكار، وأترك الباقي لانتقادات أجدها، في المحصلة، غالباً ما تكون تقليدية وبرجوازية.

الشعر المتمرد

الجديد: من هم الأحب إليك بين شعراء العالم والذين تشعر أنك تشترك معهم في همومهم وتطلعاتهم شعرية؟ وهل هناك في شعرك رسالة من نوع مّا تريد تبليغها للعالم؟

غريفوني: ربما كان أحد الشعراء الذين أثروا عليّ بعمق فرناندو بيسوا الذي، على الرغم من مواقفه السياسية التي تعارض مواقفي، واجه بطريقة راديكالية مشكلة الإنسان. بيسوا – هذا الاسم، الذي يعني في اللغة البرتغالية، شخصًا – شنّ حربًا بلا هوادة على الهوية الشخصية بكل ما فيها من مغايرات. ينشئ المؤلف عملاً يعيش في توازن مستحيل من التناقضات الموجودة في جميع شخصياته، وبالتالي الهروب من هذه الحالة الذاتية، أي من الشخص الذي يخاطر الوقوع في فخ الكتابة.

شاعر آخر كان له تأثير عميق عليّ هو اليوناني أوديسيوس إليتيس (1911 – 1996)، بروحه المتوسطية، وهاجسه بالضوء ومسألة اللغة. بالنسبة إلى إيطاليا، لقد سبق أن تكلمت عن جورجيو كابروني. وقبله دينو كامبانا، شاعر من أوائل القرن العشرين، الذي توفي في مستشفى للأمراض العقلية، كان بالنسبة إليّ مؤلفًا ترك فيّ أثراً لا يمحى: شاعر ترك نفسه أكثر من أيّ شخص آخر لموسيقى اللغة ومنسقها فيما يسميه هو نفسه الأرابيسك. حتى أنه يمكننا أن نرى فيه كيف أن الهوية الشخصية هي فخ يجب الخروج منه. واحدة من أجمل قصائده تسمى “كيميرا”، وحش هجين من الأساطير اليونانية التي تصبح لدى كامبانا صورة متناقضة للمرأة الحبيبة.

من الصعب عدم ذكر دانتي، خاصة لعلاقته بالفلسفة واللاهوت والسياسة والعلوم، وقبل كل شيء، مع اللغة. لغة دانتي سواء عادية أو محبوكة، شعبية ومصقولة. الإرث الذي أعتقد أنه لم يتم جمعه حقًا حتى نهاية الأدب الإيطالي الذي فضل الانتقال في مناطق أنقى، التراث التقليدي في أعقاب بترارك. لكن أعتقد أن أعمق دين لديّ مع شاعر هو ما لديّ مع لوكريتيوس. لوكريتيوس يجعلك تشعر بالحياة وبجمالها ومأساتها وتعقيدها وفي نفس الوقت ببساطة مكوناتها النهائية. نحن نترك الواقع في عالم حيث الآلهة بعيدة.

في هذه الفترة الصعبة لجأت إلى الشعر السومري. أعود إلى جلجامش، مقتنعًا أنه يقول عنا أكثر ممّا نودّ أن نعرفه واكتشفت أيضًا شعر إنخيدوانا، كاهنة ابنة الإمبراطور سارغون الأول، التي عاشت حوالي عام 2300 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين. إنخيدوانا أول شاعرة في تاريخ البشرية. نحن لا نعرف اسم أو أسماء أولئك الذين كتبوا، على سبيل المثال، ملحمة جلجامش. أول نص شعري يعلق عليه اسم مؤلفه هو نص امرأة، على وجه التحديد: شاعرة عظيمة. أجد من المؤسف بشكل خاص أن هذه الحقيقة المهمة ليست جزءًا من الثقافة الشعرية العالمية، وأن هذا المؤلفة العظيمة لم يتم تكريمها.

بالنسبة إلى رسالتي، لقد قلت بالفعل: لا يسعني إلا أن أكرر أن كل ما يخرج من غايات السلطة هو ما يهمني أكثر في الشعر. لكن هذا ما يفعله ويجب أن يفعله أيّ شاعر لا يستكين للدعاية.

نشوة الشعر

الجديد: الشعراء والنقاد قدموا تعريفات مختلفة للشعر في عصورنا الحديثة هل لديك تعريف للشعر ناجز ومعتمد من قبلك؟ وهل ثمة حدود معينة في تعريف ما هو شعري وما هو نثري أو حتى ما هو غير شعري؟

غريفوني: أعتقد أنه من المستحيل إعطاء تعريف كامل لما هو فن وما هو ليس كذلك. غالبًا ما يغامر الفلاسفة، خاصةً في سياق التاريخ الحديث والمعاصر، في هذه المهمة غير النبيلة، ليتم رفضها من قبل أولئك الذين ينتجونها. على سبيل المثال، ضع في اعتبارك مارسيل دوشامب و”تجهيزاته”. عمله المسمّى “النافورة”، أي المبولة، يكشف كيف يمكن للفن أن يكون إعادة توطين في سياق مختلف لما لا نعتبره فنياً. يجب التأكيد على أنه وفقًا لأحدث الأبحاث، يبدو أن هذه الثورة الفنية ليست من عمل دوشامب، ولكن مرة أخرى عمل امرأة، البارونة إلسا فون فريتاج – لورينغوفن، التي عاشت بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين والمنتمية إلى حركة دادا.

بغض النظر عن هذه الحقيقة، أعتقد أنه يجب التأكيد على أن تعريفات الفن ربما تكون بمثابة تحديات للفنانين أكثر من كونها قوانين يجب اتّباعها. هذا ينطبق أيضا على الشعر. يكفي التفكير في كل تلك التجارب التي تم إجراؤها في السنوات الأخيرة بدءًا من الشعر النثري الذي وضعه شارل بودلير، حتى النثر المتناقض في نثر الكاتب والشاعر الفرنسي جان ماري غليز. وبالتالي، بدلاً من إعطاء تعريف شامل لهذا النشاط الفني وتوفير الشروط الضرورية والكافية لتمييز ما هو الشعر عمّا هو ليس كذلك، يمكننا بدلاً من ذلك، بمزيد من التواضع، محاولة تحديد بعض العناصر الأساسية فقط.

لقد تحدثنا بالفعل عن البعد الهزلي للشعر، وليس فقط بالمعنى السياسي. إنما عوضاً عن ذلك، أود أن أستفيض أكثر عن المكون الإيقاعي.

من الصعب أن نحدّد ما هو الإيقاع بالضبط، وهي الفكرة التي عملت عليها أيضًا لفترة طويلة كباحث، بالتعاون مع كيارا باسيتي، عالمة الاجتماع في جامعة تورينتو، مقتنعًا بأن الإيقاع هو مكون أساسي للتفاعل البشري والذي هو ضروري أن تكثف الفلسفة والذكاء الاصطناعي أبحاثهما حوله..

يقول بول فاليري في المفكرات، بطريقة موحية للغاية، إن الإيقاع هو “حركة خفية تقريباً يتم من خلالها ما هو ليس موجوداً بالفعل، أو ما هو عليه تماماً”، ربما في إشارة إلى هذا العنصر من الانتظام والاختلاف الذي يخلق الترقب والعاطفة والشدة لدى أولئك الذين يستمتعون به.

أما عن دوره في الشعر فقد كرّست له مقالاً بعنوان “فكر الجنس. ملاحظات على الشكل الشعري”. في هذا المقال، أجادل بأن الشعر والجنس مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. وهي فكرة يدعمها تشارلز داروين، الذي يؤكد في كتابه “نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي”، أن التمتع بالإيقاع ربما يكون شائعًا بين جميع الحيوانات، وأنه يعتمد على الطبيعة الفسيولوجية الشائعة لأنظمتهم العصبية. لهذا، يواصل داروين، يُستخدم الإيقاع من قبل ذكور الأنواع الحيوانية المختلفة لجذب الجنس الآخر ولهذا السبب يرتبط الإيقاع ارتباطًا وثيقًا ببعض أقوى المشاعر التي يستطيع الحيوان الإحساس بها، وبالتالي، تستخدم بشكل غريزي عند التعبير عن العواطف القوية في اللغة. وفقا لداروين، هذا هو السبب في أن الموسيقى والرقص والغناء والشعر هي من الفنون القديمة. الجنس غير موجود إلا كظاهرة إيقاعية. دون إيقاع، الجنس هو فقط توتر الرغبة. في الإيقاع، يتم إنشاء الشعر بنشوة مشابهة للنشوة الجنسية. أعتقد أن هاتين الظاهرتين هما أقوى مثال على الوعي الذاتي.

حاولت أن أبين كيف يحدث هذا من خلال تحليل جزء من نصوص الشاعر اليوناني القديم هِسْيود، حيث يتحدث عن المتعة الجسدية للمرأة وكيف يحدث هذا الاستمتاع الجسدي في العقل. ملكَة أطلق عليها اليونانيين اسم “noûs”، وهي كلمة أساسية في الفلسفة، بدءًا من أفلاطون وأرسطو، لكنها اكتسبت، أثناء تطور الفكر الفلسفي، طابعاً منفصلاً بشكل متزايد عن هذا المنبت الأساسي للجسم.

أن يكون لظاهرة الإيقاع عنصر جمال هو أمر يظهره لنا العلم باستمرار، إلى جانب حقيقة أن هذه النشوة هي نتيجة تفاعل مع الآخر. ولطالما استخدم الشعر هذه الآلية لطباعة صوره في أذهاننا.

ليس بالضرورة أن يكون الإيقاع هو ذلك الذي يفرضه التقليد. كما قلت، أعتقد أن هدم أشكال الأوزان التقليدية جعل من المستحيل التمييز بوضوح بين ما هو شعر وما هو نثر. لا أعتقد أن هذا يمثل مشكلة. الشيء المهم هو أن ما نكتبه له إيقاع، على الأقل إذا كنا نرغب في التأثير بشكل كبير على مخيّلة أولئك الذين يستمتعون بالعمل الأدبي. ربما يمكن القول إن التركيز الإيقاعي في الشعر يكون على صوت الكلمة، وكذلك في إيقاع الصور التي تثيرها الكلمة، بينما في النثر الجانب الصوتي أقل تأثيراً. لكن النقطة الأساسية لا تتغير. الإيقاع ضروري لجعل قارئ العمل الأدبي “يقذف” (مجازياً)، ويجعله يصل إلى النشوة، ويجلبه إلى ذلك البُعد حيث يكون للخيال والمتعة الأدبية اتساق واقعي، حيث يصل القارئ فيه إلى حالة وعي تسمح له باستكشاف نفسه والآخرين من حوله، ليس كشخص، أي كشيء عالق في حبال بيروقراطية الدولة، ولكن كفرد في حالة تغيير مستمر، مرتبط بالآخرين، ومع الآخرين.

مسألة إيقاع

الجديد: نحن نعرف أن الشعري موجود في الرواية والرقص والفن التشكيلي والصورة وفيلم السينما وحتى في التفاتة امرأة في الشارع، ولكن ما القصيدة بالنسبة إليك؟ أعني قصيدة الشعر كنظام لغوي وبنية فنية وكيان كلي.. هل ثمة قوام ما يمكن تعريفه ومن دونه لا تكون القصيدة؟

غريفوني: أجيب مرة أخرى أن أحد العناصر المركزية هو الإيقاع. هذا ينطبق بطريقة ملحوظة على جميع أشكال الفن التي تتطور بالتجارب عبر الزمن، مثل الرواية والمسرح والسينما وبالطبع الرقص والموسيقى. في ما يتعلق بالفنون مثل النحت أو الرسم، فإن الموضوع يصبح أكثر تعقيدًا. من ناحية أخرى، لا يمكننا إنكار أن الإيقاع موجود أيضًا كظاهرة بصرية. إذ يمكننا العثور داخل اللوحة على مكون إيقاعي أكان ذلك من قبل الشخص الذي يتفحصها، أو في توزيع العناصر البصرية للوحة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، يجب ألا ننسى أن الأعمال التي نتفحصها تحتفظ بآثار نشاط الأشخاص الذين قاموا بإنجازها. يمكننا أن نرى في اللوحة، على سبيل المثال، علامة ضربات فرشاة الرسام: هذه هي الآثار التي نكتشفها من عمله الفني، وكذلك يمكننا تخمين مِشْية حيوان أو فرد من آثار الأقدام التي تركت على الأرض. كل هذا هو حركة، حركة لها إيقاعها الخاص، إيقاع ينقلنا، كما قلت، إلى ذاك العالم الذي أصبحنا ندرك فيه أنفسنا من خلال نشاط الآخرين، حيث ندرك بحدسنا حقيقة أساسية وغامضة تتصل بوعينا.

عبر المتوسط

لقد تحول البحر المتوسط في السنوات الأخيرة إلى أشد مناطق العالم خطورة

الجديد: تنتمي إلى بلد متوسطي، وإلى بحيرة تجمع أعراقاً وأجناساً وثقافات مختلفة تفاعلت في ما بينها وتبادلت الأزهار والسيوف عبر عصور. هل تظن أن هذا التنوع يمكن أن يشكل هوية أدبية وفكرية وجمالية وتطلعات متوسطية جامعة على رغم التفاوت الكبير أحيانا في ظروف الناس وقدراتهم ومصائرهم بين جنوب المتوسط وشماله؟

غريفوني: هذا ممكن. ولو كنت سأتحدث انطلاقا من الوضع في إيطاليا، فأنا على سبيل المثال من أشد المتحمسين لمشروع الشاعر خالد الناصري الذي ساهم بشكل مركز في إيصال علامات بارزة في الثقافة الأوروبية، وخاصة الإيطالية، إلى العالم العربي، عبر منشورات “دار المتوسط” التي انطلقت من ميلانو قبل بضع سنوات، وهو الآن بصدد إنشاء مشروع نشر مواز بالإيطالية، “موتا”، لتعريف إيطاليا بآداب العالم العربي بطريقة فريدة، خصوصاً أن هذا المشروع سيكون تحت التوجيه الثقافي لكتاب قادمين من ذلك العالم. هناك الكثير من العناصر التي تتناقض مع هذه المحاولة الجديدة لتأسيس هوية أدبية متوسطية. على سبيل المثال، إذا كان صحيحاً أنه في بلدان مثل فرنسا حصل الكتّاب “المهاجرون” (وهي فئة، بصراحة، أجدها – كفوضوي- مروّعة) على اعتراف أوسع بكثير في العقود الأخيرة، إلا أن هذا الاعتراف مخصص فقط لأولئك الكتّاب من الجيل الثاني أو الثالث الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وهم بالتالي فرانكوفونيون. إنه شيء محرج للغاية بالنظر إلى الماضي الاستعماري لهذا البلد. إن الترجمات التي تتم في فرنسا من اللغة العربية ضئيلة جداً، أي ما يعادل واحد في المئة فقط من كل ما تتم ترجمته. وهو رقم يبدو ممتازاً، للأسف، مقارنة بالوضع في إيطاليا، حيث من أصل ثلاثة عشر ألف عمل روائي تم نشره في عام 2018، هناك ثماني عشرة رواية عربية، إحدى عشرة رواية منها ترجمت مباشرة من اللغة الأصلية، والبقية من لغات أوربية أخرى، مثل الإنجليزية والفرنسية.

بالطبع، إيطاليا بلد متوسطي له مكانته الخاصة لكونه، باللعب بالأسماء بين العربية والإيطالية، هي تلك الأرض الواقعة في وسط البحر المتوسط. وهذا يعني الكثير من حيث المساهمات الثقافية التي يتم تبادلها بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. من ناحية أخرى، يجب توخي الحذر. على سبيل المثال، ما هي نسبة الخطاب الذي بني على هذا الواقع الجغرافي في إيطاليا؟! في غضون أكثر من قرن بقليل، تعود بي الذاكرة إلى الجور الاستعماري، أو الدور المأساوي والمضحك في الاستيلاء على البحر (“بحرنا”)، أو ذاك، المثير للاشمئزاز، لمعسكر الإبادة السائل الذي يستخدم بفضل البروباغندا ضد وصول المهاجرين عبر البحر، للآسف، ليس من قبل اليمين فقط. لقد تحول البحر المتوسط في السنوات الأخيرة إلى أشد مناطق العالم خطورة بفعل موجات الهجرة البشرية. أقول هذا، لأنه عندما يتعلق الأمر بالهوية – أيّاً كانت – تخطر ببالي ضربات السيف أكثر مما تتراءى لي الزهور، وسيء الحظ ذاك الذي سيتلقاها دون أن يكون لديه سيف للدفاع عن نفسه.

أما فيما يتعلق بفكرة “الهوية المتوسطية”، فيتوجّب عليّ القول إنني آمل ألاّ يكون هذا التعبير موجوداً أصلاً.، فمخاطر الاستحواذ على هوية تبقى كثيرة للغاية. وعندما لا يتم فحص هذه الهوية بموقف نقدي، فإنها تبرّر الاستغلال وعدم المساواة. وينطبق هذا أيضاً على الإمبراطورية، حتى  لو كانت إمبراطورية للأدب أو للثقافة. بالنسبة إليّ هذه هي مهمة أيّ بحث ثقافي: فقدان الهوية الشخصية، يعني التحول إلى شخص آخر. ميشيل دي مونتين ما زال أساسياً في هذا الصدد. على الرغم من بعض القيود التي لا مفرّ منها، كان دي مونتين من بين الأوائل في الغرب الذين نظروا بجدية في مسألة الثقافات الأخرى بالمقارنة مع الثقافة الخاصة. يكفي التمعن فقط في ما أورده “في اعتذار ريمون سيبوند” حول جمال جسم الإنسان. وفقاً لمونتين، نحن لا نعرف شيئاً عن الجمال “لأننا نمنح العديد من الأشكال المختلفة للإنسان ولجمالنا” ويقدم أمثلة على ذلك من الأميركيتين وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا. فالتنوع لا يعد وسيلة للتفاخر بفراغ نسبي، بل هو طريقة للتأكيد على الصعوبة التي نلج فيها إلى أحكامنا الأكثر وضوحاً، ومدى الحاجة إلى المزيد من وجهات النظر حتى نتمكن من فهم الواقع المحيط بنا. فقط بالمقارنة بين وجهات النظر المختلفة، يظهر الشيء المُتَمَلِّص الذي يتخطى جميع المنظورات. إذا كان هذا ما يعنيه البحر الأبيض المتوسط، فهذا يعني فهم الواقع بشكل أجدى بفضل اختلافاته، فعندئذ أشعر أنني رجل البحر الأبيض المتوسط تماماً.

*ترجمة: يوسف وقاص

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.