اسمع أيها الطين

عاد فصل الربيع إلى أميركا بعد شتاءٍ قاسٍ يشبه قسوة القلوب. أقفُ على حافة قطعة الأرض التي أنوي زراعتها. أنا مثل كل الفلاحين تشدّني الأرض. أركع فوقها وأقترب أريد أن أقبّلها. مثلما تشد الصفحة ومثلما يشد القلم الشعراء تشدني هي. أرى فيها الأفق. سماء ترابية أزرع فيها النجوم. هي الأرض وأنا أحس بالرّضى في عشق أصابعي لطينها.
قطعة الأرض في أميركا التي أعتني بها اسمها “فلسطين الصغيرة”. حجمها، مقارنة مع الأراضي الشاسعة التي حولها، لا يتجاوز حجم رقعة من القماش تغطي خرقاً على سروال يرتديه أحد أطفال اللاجئين. الرقعة تعطيه الإصرار على أن يواصل، هذا السروال المليء بأسرار المشي، ما بين الشتاء والصيف، والشقاء والخوف.
حان وقت “عزق” الأعشاب الضارة قبل أن تصير يابسة فيصعب اقتلاعها. صوت في داخلي يعترض:
– أعشاب ضارة؟ كل العشب له حق الحياة، وأن يخرج ليتنفس وترتد له الروح بعد فصل الشتاء الصعب.
صوت أعرفه يرد:
– هذه الأعشاب تعيق نمو النباتات التي تعطي الغذاء للناس، لهذا اسمها أعشاب ضارة.
الصوت الأول يُــناكِـف:
– ألا ترى أن الناس هم الأكثر ضرراً على الأرض؟ حتى أنفسهم يضرون بها.
تصاحبني أصوات متضاربة وأنا على أهبة أن أقتلع أي شيء مهما كان. تمّت محاولة اقتلاعي، وبكت لغتي من جذور كل الأفعال لمحاولات الاقتلاع هذه. تجربة لا تُمحى. فصار الألم تذكرة مفتوحة في أيّ وقت وعلى جميع خطوط الطيران. تذكرة لا تسقط بالتقادم ولا حتى بالشفاء. محاولة الاقتلاع جعلتني أقل رغبة في اقتلاع أي شيء.
يحدث هذا أيضاً في التعامل مع عنكبوت على جدار المنزل دخل من البلكونة. هل أطرده لأنني أعلنت هذا المكان ملكاً لي، ويشمل المكان حياة هذا العنكبوت لمجرد أنه أصغر مني حجماً ولا أفهم لغته. يظل خيط الحوار عن ظلم الناس للكائنات الأخرى من النبات والحيوان وظلمهم لبعضهم ولمن هو أصغر منهم حجماً ولغة وقدرة قائماً لا ينفكّ. أحضر كوباً من البلاستيك وورقة. أضع العنكبوت في داخله. آخذه إلى مكان بالقرب من منزله، الشبكة العنكبوتية الحقيقية المعلقة على حافة البلكون. أفتح بوابة الكوب وكأني سائق سيارة عمومي يفتح بوابة التاكسي، ويخرج العنكبوت أمام بوابة منزله.
أُواصل الوقوف أمام الحقل. تزهر الأسئلة في الصمت. والشك مثل الشوك يخز الوعي فيصحّيه. دفء الشمس اليوم يذكرني بدفء والدي الذي كان شمساً تمشي على قدمين في حياتي. أعود لذكراه. كان يحدق في الأرض و”يصفن” أمامها كمن يحدق في عيني عشيق. ما معنى “يصفن” بالعامية الفلسطينية؟ صفن، يصفن، صفناً، فهو صافن. وأنا أصفن معه، ونصف العالم الآن صافن لما يحدث في فلسطين. نصير أنا ووالدي كحجرين على جبل، صافِنَينِ صوب السماء.
أحفر في التراب وأضع بذور الفاصولياء. لماذا أتخيّل الحفرة على أنها قبر صغير! إنه لا شك شتاء هذا العام الغريب الذي عشته عبر الأخبار والقهر والكوابيس عن وطني السجين فلسطين، حيث الجوع صار وحشاً في البطون والعطش صيّر الأفواه صحارٍ والظلم صار نخاس العصر يشتري ويبيع في القلوب. وخلطت الحرب الحياة بالكراهية والقهر والجوع والطفولة والشيخوخة والحمل والولادة والأسئلة والنباتات والطوب واللغة وأكوام الأسئلة وأكوام الأكاذيب وأكوام الأحلام ولائحة عقوق الإنسان. تحولت الجامعات والمشافي والمدارس والجوامع والطرقات ورسائل الحب وسناسيل الذهب والحوانيت والصالونات جميعها صارت حطاماً في تلال الـ”نفايات” وتحول المكان إلى منفى. أدوات النفي في اللغة العربية أصابها الإرهاق بشراسة مثل سيارات الإسعاف.
قال لي صديق من أميركا: لا تشاهدي الأخبار التي تتعلق بالإبادة. هذا يؤثر على الجهاز العصبي عند الإنسان. هززت رأسي مثلما تهز الريح أغصان الشجر. سمعته يقول: هذا تاريخك الفلسطيني ضعيه جانباً، إنه كتاب. اتركي أحد فصوله فارغة. تظاهري بأنه لم يحدث.
لكن جهازي العصبي يحيا بمطر الدمع بينما أهدابي تجذف في قوارب الكلمات لتقترب من شاطئ المتوسط وتقول لطفل فقد جميع أهله في يوم واحد: مرحبا! لا تخف! كلُّ ما فقدته موجود في داخلك بما في ذلك أفراد عائلتك.
بالطبع من يعرف الفلسطينيين يعرف أننا نحب الحياة. حرف الفاء وحرف اللام نجعل منهما فلفلاً أخضر وأسمر وأحمر ونضع الفلفل على الطعام في وليمة حرية تجمعنا عبر الزمن والمكان وتقيت قلوبنا وصبرنا وتضمد جراح أحلامنا. نحب حرف السين كما يحب أهل فرنسا نهر السين. نحب حرف الطاء والياء والنون، هذا الطين الذي أَحفر فيه الآن وأضع بذور الفاصولياء.
لن أترك أيَّ فصل يحدث هناك من فصول هذا الكتاب الفلسطيني المفتوح على جميع الجهات الأربع المشرعة: جهة الشماتة، وجهة الجنون، وجهة الشر، وجهة الغربة. كيف يقترح عليّ ذاك الصديق ألا أقرأ هذا الفصل حرصاً على جهازي العصبي! هو لا يفهم أني أكفّن الكلمات التي تموت بالفن فتعيش بعد موتها، لأن الفن ضد الفَناء.
تاريخي قدري. من ذا الذي يترك تاريخه لمجرد أن تاريخه صار جريحاً أو وُشي به أَو تمت خديعته أو تم نفيه أو صار مفقوداً أو قضى نحبه أو تم حذفه من الكتب المدرسية!
أواصل الحفر في الطين. الحفرة عميقة. سأقبر البذور. وسأقرأ عليها الفاتحة كما علمني والدي أن أفعل.
– لماذا الفاتحة يا والدي؟
–لأن الموت فاتحة حياة أخرى.
هنا يحضرني بوضوح لماذا يصاب أهل غزة بالقهر حين لا يُسمَح لهم أن يقبروا موتاهم إلا بشق الأنفس قبل شق التراب. حين نقبرهم يعودون للأرض. فتخرج أصابعهم وأيديهم على هيئة أغصان وأوراق مع الربيع. تخرج أفكارهم على هيئة ورود وثمار وعطر. يصير لهم مقام لا يمكن هدمه. يمتزجون بالماء والهواء والصمت واللون البني والصرار والحرية.
بعد قرون سيصيرون نفطاً يدير المحركات التي يركبها أحفاد أحفادهم الذين نسوا الكثير. ينظر الأحفاد خارج نوافذ القطارات والعربات التي يديرها النفط الذي هو “من أديم هذه الأجساد”. تخطر ببال الأطفال القصص الغريبة، ولا يعرفون من أين أتت.
القبور قباب مقلوبة – الأعمار التي تم قصها صارت قصصاً، وصارت مثل عربات القطارات تعود عبر العقود وتواصل حيواتها على هيئة قُصاصات.
اسمع أيها الطين: الناس يكرهون العمق ويرون فيه نبشاً للقبور وكشفاً للأسرار وعرياً للأرض. لهذا لغتنا سطحية. حياتنا فيها عمق الماء والبحار والزمن. لكن لغتنا تظل على السطح فنخون تجربتنا. ما بين التجربة واللغة تمتد غربة أفقية وعمودية، وأخرى خاصة وعمومية.
أحتاج مليون أبجدية لأقول بعض ما في هذا الصمت ليصير صوتاً. الفاصولياء تفصل بين العالمين وعلى كل حال ستكون وجبة لذيذة. سأطبخها “حوسة” على الطريقة الفلسطينية مثلما يفعل أهل غزة مع “الخبيزة” بعدما صار الخبز نادراً.
27 رمضان 1446، 27 آذار 2025
www.ibtisambarakat.com
كاتبة من فلسطين تقيم في أميركا