الذات والخطر

التفكير المستقبلي مغامرة في التمرد على المألوف
الثلاثاء 2020/12/01
لوحة لحسين عبدالرحيم

تسمح الواو التي تتوسط الذات – الخطر بتعليق الحكم المسبق، فالواو تشير إلى علاقة مّا لم تتحدد بعد، لأنها تحرم الذات وتحرم الخطر من صورة الجملة المفيدة.

هذه الواو تسمح لنا بالتفكير، التفكير في أيّ علاقة تقوم بين الذات والخطر، سواء كانت علاقة إيجابية أم سلبية، ومهما كانت طبيعة هذه العلاقة. ولو لم تكن الواو واو علاقة لما حشرناها بين المفهومين . دعوني أطرح السؤال للتفكير: ما شكل العلاقة التي تقوم بين الذات والخطر والتي أكدتها الواو؟ وحتى لو كان هناك نفي، فالنفي علاقة.

إمكانيات العلاقة بين الذات والخطر التي هي الآن في حقل تفكيري ثلاث: الذات التي تجد ذاتها في الخطر، الذات التي تعي ذاتها في الخطر، الذات التي تواجه خطر سلبها. الذات التي حولت وجودها إلى صراع دائم من أجل الحضور لا تحضر إلا في الخطر، الخطر الذي يتطلب المجازفة، المجازفة التي لا تصدر إلا عن الشجاعة.

أقف عند نقطة واحدة أراها قمينة بالوقوف المتأمل: المجازفة في التفكير، الذات التي لا تفكر لا تشعر بالخطر أصلاً، والتفكير النار الأجمل التي تُكوى فيها الذات وتقوم بعملية المجازفة انطلاقاً من شجاعتها في الوجود أو من وجودها الشجاع. التفكير خطر! أجل لأن التفكير مغامرة في ارتياد المجهول مقاومة للمعلوم، تمرّد على المألوف واغتراب وجودي متأفف، التفكير ولادة دائمة للسؤال. الذات تجازف في تحطيم المتعارف عليه وتخوض معركتها مع العامة، الذات المحشوة بالمعلومات عن الأشياء والأفكار المسبقة عن العالم، وتستلم لوجودها الممنوح لها من الخارج لا تواجه خطر التفكير، ولا تستمتع بالمجازفة، إنها لا تعرف سوى طريق اللغة المألوفة ولهذا فالفيلسوف هو الذات التي تعيش الوجود في خطر دائم وتصير هي ذاتها خطر. فحين وصف نيتشه – ذاته – أنها من ديناميت فإنه لم يكن يصف ذاته فحسب، بل أراد أن يقول لنا ما يجب أن تكون عليه ذات الفيلسوف. كل فيلسوف حقيقي – لأنه يمارس التفكير – هو ديناميت، الديناميت عامل تحطيم، ففعل التفكير – فعلاً مستمراً – تحطيم دائم بل قل تفجير.

الفيلسوف يفجّر جبل اللغة ويكشف عن مخزونها في التعبير عن التفكير، فكلّ تفكير هو لغة جديدة، اللغة الجديدة هي قول جديد في ما لا يخطر على بال، الوعي العامي الأليف يرى الذات المفكرة خطراً، لأنه يرفض التفكير.

الذات التي تفكر تعرف أنها تخاطر، وتجازف، لكنها لا تخاف، بل إنها في أتون الخطر تشعر بحضورها وقيمة حضورها في العالم.

لأنها وهي تواجه الخطر تشكل خطراً، الذات – نفسها صارت خطراً. ها نحن أمام سيرورة معقدة لمسيرة الذات المفكرة – ذات تواجه الخطر، وتصير خطراً وآخر يشعر بالخطر منها – أي الخوف. الذات التي تواجه الخطر بوصفها ذاتاً مفكرة وبسبب أنها تفكر وتعين تفكيرها قولاً وكتابة تتحول إلى تاريخ مستقل، ويحتل تاريخها مكانة أثيرة إذا ما واجهت الخطر بسبب تفكيرها ومجازفتها وبخاصة مجازفة الموت.

فبين ابن رشد والسهروردي تشابه من حيث أنهما ذاتان مفكرتان، الأول واجه المحنة ونفي إلى تلمسان والثاني قُتل، والتهمة واحدة: التفكير انزياحاً عن الفقه والفقهاء.

وسقراط – الأنموذج الأشهر – للذات المفكرة صار أشهر لأنه ابن الثقافة اليونانية الأشهر، لأنه تاريخ محاكمة أشهر، لكن المسيح – الذي جازف بفكره وحوكم وصُلب بسبب إنه يفكر – انتصر بموته على نحو لم يشهده تاريخ البشرية.

لقد واجه المسيح الخطر، وصار خطراً وخلق عند الآخرين الشعور بالخطر فاتحد التفكير بشجاعة الوجود. ومن الملفت للنظر أن سقراط والمسيح والسهروردي استقبلوا الموت بالشعور نفسه، وبالرضا نفسه، (هكذا يروى).

وسواء كانت الروايات مختلقة أم صحيحة فإنها لتدل على أمر في غاية الأهمية ألا وهو: إن التفكير والمجازفة بالتفكير تجعل من الموت أمرا عادياً لا يساوي الفكرة.

وليس من قبيل المصادفة أن سمّى كارليل كتابه بـ”الأبطال” وهو يتحدث عن ذوات مختلفة من حيث المجازفة والحضور والمصير. ولهذا نقرأ عنده: البطل في صورة نبي مثاله الرسول العربي، البطل في صورة شاعر دانتي وشكسبير، البطل في صورة قسيس لوثر، في صورة كاتب جونسون و روسو وبانز، البطل في صورة ملك كروميل، نابليون.

والبطل في اللغة العربية هو الشجاع، والشجاع هو الذي يخوض المجازفة انتصر أو لم ينتصر، والمفكّر الذي يشق طريقاً جديدة للتفكير هو ذات مجازفة ذلك أن الذي يفكر إنما يطرح على البشرية فهماً جديداً، درباً جديداً للتفكير .

ففرويد حين اكتشف عالم اللاوعي عبر انزياح عن التفكير السائد للأنا فإنما زود البشرية بأدوات تفكير. من هنا ندرك خطورة التفكير الذي يزوّد الفكر بطريقة لرؤية العالم على نحو لم يكن في الحسبان، وقس على ذلك ديكارت، بيكون، لوك، كانط، هيغل، ماركس.. الخ. فيما الذات التي لا تعرف إلا وشماً معرفياً على جسدها فإنها لا تعرف لذة المجازفة ولا تعرف معنى الخطر، وإن كانت خطرة فلأنها أداة تدمير سلبية للحضارة والثقافة، والذات التاريخية الشجاعة والمجازفة نادراً ما تظهر في ثقافة راكدة في أعماقها، ويجب ألاّ يخدعنا السطح المتحرك، فثقافة التسلية – تبدو في الظاهر – متحركة، لكنها راكدة في أعماقها ولا تعرف بروز الذات التاريخية إلا إذا عرفت الأعماق هزة ذات معنى. وقس على ذلك الذات اليومية التي نطلق عليها الذات التّقوية الذات التي تمضي عمرها في عملية اتقاء الخطر الذي لا وجود له في كثير من الأحيان، إنها ذات إدمان الحياة بوصفها عادة عيش. والذات التقوية تعيش ميتافيزيقا الشر والصادر بإرادة من قوة ما والخوف من هذا الشر الخفي، وكثير من الابتهال لإله يترافق مع الدعاء تجنباً للخطر، فالوعي التقوي يساوي بين الخطر والشر، فالشر خطر والخطر شر، هذه المساواة بين الخطر والشر، هذا الترادف هو الذي يبقي الذات التقوية في حال خوف دائم من أيّ جديد ذي ثمن أخلاقي ومادي وفكري. الخوف من الخسارة، الخسارة خطر، خطر الخسارة يلقي الذات الخائفة في وهم النجاة، ويبقيها في السيرك متفرجة على اللاعبين الذين لا يخافون خطر السقوط.

إن الذات الآن في خطر، الذات التي تسعى لأن تبقى في الوجود كما تريد البقاء متجاوزة – كما قلنا في بداية كتابنا – غريزة البقاء.

الذات في خطر، خطر نسيانها، خطر إجهاض ولادتها خطر التقنية التي تسميها خطر، الأيديولوجيات التي تحولها إلى عنصر في جوقة تعلن قسم الولاء وترقص وتنشد دون رغبة منها احتفالاً بالذل والعنف .

الخطر الأكبر خطر الدولة الذي يحدق الآن بالذات، الدولة التي ما عاد لها من هم سوى مراقبة الذات من أن تحضر.

ليس الموت الطبيعي خطراً على الذات لأن الطبيعة لا تقصد إماتة الجسد – الذات، للطبيعة منطقها الأعمى، بل إن الذات تدرك أنها طبيعة آيلة إلى العدم، وهي تقيم مع الحياة عقداً مؤقتاً ينتهي مفعوله تلقائياً. إنه لأمر محزن لكنه ليس خطراً ووعيه يفضي إلى التفلسف. الذات في خطر؟ نعم الذات في خطر، فانتصار الذات الأبهى في التاريخ الذي مثله انتصار الذات اليونانية الحرة، الذي أسس لكل انتصار للذات ويؤسس لكل ذات تسعى لانتصارها هو في خطر .

فلقد جاء حين من الدهر كان فيها الأوروبي – الرأسمالي يفتخر بحريته ووفرته بالقياس إلى الفرد الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي والدول السائرة في فلكه، بالمقابل كان السوفييتي الحاكم يفتخر بأنه بعيد عن الاغتراب في الرأسمالية التي تحول الذات إلى وسيلة خاضعة للسلعة وكانت النخبة المتمتعة بحس أخلاقي عالٍ منتمية إلى اليسار. بين ذات كانت تعاني القهر من دولة شيوعية تسلطية تفقدها مركزيتها وبين دولة رأسمالية تسلطية تسلب الذات مركزيتها عبر تسليعها وتبقي شعورها بالحرية ينتصب السؤال، السؤال الأهم ما السبيل إلى الانتصار على الخطر؟

فالذات وهي الوعي الذاتي والحضور والتكوين، وكل القيم المرتبطة بالوعي والحضور والتكوين تعيش خطر الانزلاق إلى ما دون الذات، إلى الفرد الصاغر وإذا ما غاب الوعي بالخطر على الذات ماتت الذات أصلاً. فالوعي بالخطر على الذات وعي دائم بالذات.

حين تكون الذات في خطر فإن الشعر في خطر والفلسفة في خطر والموسيقى في خطر والكبرياء في خطر والكرامة في خطر والوجدان في خطر.

ذات تشعر بالخطر يعني أنها تخاف من شيء تفقده، الخوف الناتج عن هذا الفقد متنوع وبدرجات مختلفة بالنسبة إلى الذات.

فالموت مصير نهائي، الموت نهاية قدرته وحتمية، قابل للنسيان في سيروة الحياة، قابل للفهم رغم الرفض الدفين له. قابل لأن يجد الإنسان وسيلة للتخفيف من وقع تذكرة المشيئة الإلهية عند البعض، البعث القادم للروح، البعث القادم لجسد وللروح والذي يفضي إلى خلود أبدي. الذات الواعية لمصيرها، المعترفة بأن الموت حق لا تخاف من موت كهذا موت ينظر إليه على أنه جزء لا يتجزأ من بنية الجسد الطبيعي. لكن الذات تخاف من الموت بوصفه تهديداً لحياتها قبل أوان موتها. إنها تعتقد أن موتها هو الشيخوخة الأخيرة، أما ما قبل ذلك فإحساسها بخطر موتها ناتج عن موتٍ في غير أوانه. هذا الإحساس – الموت في غير أوانه – يرافق الذات دائماً لأنها دائماً معتقدة إنه لم يأن أوان رحيلها حتى وإن بلغت من العمر عتيا. ها هي الذات تخاف من الاعتداء عليها، أن هناك خطراً يهددها، يهدد وجودها الحي، فيحملها الخوف على وجودها على بذل ما من شأنه أن يمحيها تبحث عن الأمان لأن الشعور بالأمان يمنحها الاطمئنان على وجودها الحي.

فالمشكلة في تهديد الوجود الحي تكمن أن الذات – في هذه الحال – تشعر بخطر الفناء غير المعقول، حتى المرض العضال هو بالنسبة إلى الذات الخطر غير معقول، ولهذا تهب لمواجهته بكل ما أوتيت من قوة الأمل وترفض الاعتراف بانتصار المرض على الجسد، فحب الحياة – الذي هو أعلى درجات حب الذات – حب مقاوم ومقاوم جداً. ويقاوم أعلى درجات الحقائق التي لا لبس فيها، في إطار كهذا من  الخطر المرضي على الذات والإحساس بالخطر ومقاومته أو درئه قبل حصوله – عبر الاهتمام بالذات – تعيش الذات حالة طبيعية وعامة ومشتركة بين جميع الناس، غير أن الإحساس بالخطر على الحياة خطر قادم من الآخر الذي يهدد الوجود الحي، يبقي الذات في مواجهة صعبة ومقلقة، هناك آخر يهددني عصابة، سلطة، دكتاتورية، رجال أمن، قوة ثأرية، آخر لا أعرفه. ففي الوقت يمنحني الاعتراف بالآخر علاقة تواصلية معشرية تشعرني بالأمان يكون هناك آخر غير معترف بوجودي ويريد أن ينهي حياتي قبل الأوان. لا أريد أن أسهب في تحليل الحالات الجزئية كخوف الدكتاتور الدائم على حياته والاحتماء الدائم أيضاً بالقصر وحرس القصر وجيش القصر، أو تخوف رجال العصابات من بعضهم البعض، أو تخوف ذات من ثأر هو بحكم العادة، وإنما أحلل الخوف الأشمل، فالخوف الذي تشيعه الأنظمة الدكتاتورية لدى الناس هو خوف من خطر الموت، وبإمكاننا أن نعرف النظام الدكتاتوري بأنه نظام الخطر على الحياة، إنه لوحة كبيرة معلقة على وجهة مكتوب عليها احذر الاقتراب: خطر الموت. فهناك سلطة تهدد الناس بالموت عبر أدوات فقدت أيّ إحساس بقيمة حياة الآخر.

الذات والسلطة
الذات والسلطة

إن الذات – وقد علمت بخطورة الموقف السلبي من السلطة – تجد نفسها أمام خيارين: إما مواجهة خطر الموت بشجاعة أو إيثار الخنوع درءاً للخطر. الذات في مواجهة الخطر بمقاومة الخطر لا يعني أنها لا تشعر بالخطر، وإنما قررت أن تتحرر من هذا الخطر عبر نقل إحساسها بالخطر إلى ذاك الذي يهددها، وهذا نمط من المقاومة التي تؤكد الذات حضوراً شجاعاً. ذات كهذه هي الشروط الأهم الصانعة للتاريخ فيما درء الخطر عن طريق الخنوع تحطيم لأهم قيمة من قيم الذات – الكرامة الإنسانية . صحيح أن هناك ترابطاً بين الخوف على الذات من الآخر الذي أخذ صورة السلطة أو تعين بمؤسسات قمع وبين الخنوع درءًا للخطر الداهم على الذات لكن هذا الترابط يجعل من الخوف نمط وجود ويكون التحرر منه مغامرة بالوجود، لأن الخنوع لا يلغي الخوف على الذات، بل يبقيها في دائرة الخطر المؤجل، لأن الذات ما ظلت خائفة على وجودها ظلت وجوداً خانعاً وما ظلت وجوداً خانعاً ظلت خائفة، إنها تتقي شر الموت أو شر الاعتقال وهي تتقيه فعلاً لكنها تتقيه وهي خائفة. التحرر من الخوف مغامرة للتحرر من الخنوع، مغامرة في حقل استعادة الوجود الحر، ولهذا تأخذ المغامرة أشكال التحدي والثورة والعنف الملوثة بالحقد الشديد على كل من سبّب الخوف والخنوع، ولا يزول حقد كهذا إلا بالانتصار على الخنوع، ففي اللحظة التي تبدأ الذات – فردية أم جمعية – بالمغامرة يزول الخوف فتدرك الذات لغة الحرية وهي في طريق مغامرتها فتتشبث بمغامرتها حتى النهاية مهما كانت النتائج لأنها لا تعود متصورة رجوعها إلى الوراء، إلى حال الخنوع فضلاً عن ذلك، مغامرة التمرد على الخنوع متعة الشعور بالكبرياء متعة الشعور بالكرامة التي قلما تساويها متعة أخرى، وبخاصة متعة أولئك الذين يحزنون على فقدان كرامتهم الإنسانية. غير أن الخوف من الآخر القامع الخوف على الذات والخنوع درءاً للفناء، فناء الذات موتها أو سجنها ليس هو الصورة الوحيدة للخطر على الذات.

فهناك خطر الفقر الوجودي لقاء الثراء المادي، الثراء المادي أو البحث عن الثراء المادي، ونسيان الثراء الوجودي، ذلك أن نسيان الهم الكلي للذات، نسيان التعبير الجمالي الفني – الفكري عن هذا الهم، وانشغال الذات في البحث عن تراكم الثراء أو الثراء يرمي الذات على هامش الوجود، وتفقد الحضارة أهم صورها ألا وهي الصورة الأدوم والأبقى، إن زيارة قاعة الفسيفساء في قصر هشام في أريحا أو زيارة متاحف الفن عموماً وقراءة الفردوس المفقود واللزوميات والتعرف على الحياة اليومية لليونان يخلق حنيناً ممضاً ومؤلماً إلى عصر الثراء الأنطولوجي في فترة الثراء المادي، ففقدان المتعة الروحية هو شكل من فقدان المتعة الجسدية، لأننا كما بينا في كتابنا “كوميديا الوجود الإنساني” أن الكائن وحدة لا انفصال فيها، فالجسد هو الروح والروح هو الجسد. حتى الثراء المعرفي – العلمي لا قيمة له أبداً إذا لم يؤد إلى الثراء الوجودي. فالارتحال من قلب الوجود إلى أرصفته وهوامشه هو ارتحال الذات من الجمال إلى القبح ولهذا يشكل هذا القبح أكبر الأخطار على الذات ويعود بها إلى عصر الهمجية ولكن بربطة عنق.

ليس في قولنا هذا نوع من النكوص إلى الوراء بل دعوة إلى ثورة إلى الأمام، ثورة مستقبل يستعيد فيها الكائن متعة الحياة والجمال الذي أفقدته إياه الرأسمالية وما شابهها من نظام في العوامل الطرفية.

وإذا كانت حضارة الغرب تعيش الخوف على الذات من تسليع الذات والخواء الوجودي وتراجع الجمالي لصالح النفعي، فإن العالم العربي وما شابه ذلك يعيش خطر الإجهاض المتوالي لولادة الذات إضافة إلى خطر الثراء المادي والخواء الوجودي، فالعرب لا تميز بين الثراء الوجودي وثقافة التسلية والتي تنسي الذات حاجتها إلى الجمال والنشوة الجمالية. كما أفضى الإفقار الأشد في تاريخ الشرق العربي وما شابه ذلك – الإفقار المادي وهمُّ تلبية الحاجات البيولوجية – إلى غياب ظهور الذات الباحثة عن حضورها الجمالي في العالم وأعطت الوجود الخاوي – الزائف للأثرياء الماديين الحق في احتكار الثروة وتزييف الوجود تزييفاً لم يحصل في أيّ مرحلة من مراحل التاريخ العالمي. ليس على الذات إن أرادت أن تتحرر، أن تستعيد ماضيها وتغرق في وهم العودة إلى ما كان، لأن الخطر على الذات في عودة كهذه تساوي الخطر عليها من واقعها، وأن النكوص إلى الوراء ليس تغييراً للواقع بل هزيمة الأمل والمستقبل هزيمة الذات الكبرى.

ذلك أن عجز الذات يظهر أول ما يظهر في العطالة عن الفعل، عطالة تغلف أوهاماً كبيرة لشرعنة هذه العطالة وإنجاب نوع من الرضى الذاتي يخفف من شعور الذات تجاه نفسها، الوهم يساعد الذات على الاعتقاد أنها مازالت في قلب الوجود مع تغيير في دلالة الوجود ومعناه. وهناك نمطان من الوجود يريحان الذات العاطلة ويمنحانها التبرير المطلوب لمثل هذه العطالة الغرق في ماضيها، الغرق في إلهها. أما الغرق في ماضيها فهي إن كانت تتوافر على ماض فردي يساعدها على الظهور والحضور التجأت إليه ذاكرة تعيد وتكرّر حضوراً ماضياً على أمل أن يمنح هذا الحضور الماضي للذات حضوراً حاضراً. فمن حيث المبدأ لا تجد الذات من يلجمها عن البقاء في ماضيها هرباً من حاضرها الخالي، هرباً من ذات انهزمت ولم يعد في طاقتها الحضور في الحاضر والآتي فيتحوّل وعيها الذاتي وعيا بزمن محدود تعتقد أنه ممتلئ بها. غير أن أحد أكبر الأخطار على الذات – وقد قطعت شوطاً طويلاً بوعيها بذاتها المتجاوزة لبيولوجيتها – العودة إلى ما قبل ولادتها الروحية، إذ أن مسار الوعي الذاتي بالذات هو مسار الانتقال من الوعي الطبيعي بذاتها إلى الوعي الروحي – المعنوي، فالحضارة المعاصرة راحت تفقد الذات شيئاً فشيئاً وعيها بوجودها الروحي عبر الانحطاط الشديد للموسيقى والأغنية والشعر والفن التشكيلي والفلسفة، وحتى التدين راح يرتبط بالأهداف الدنيوية السياسية، وهذا أكبر اعتداء على المتعة الروحية التي تسمو بالذات، فالذات التي يهتز وجدانها باللحن والكلمة والشكل هي الذات التي تقدس الحياة بوصفها حقل المتعة كلها. بل إن متعة الجسد ما عادت ممكنة دون امتزاجها بالمتعة الروحية. إن اتساخ الروح وتراكم الأوساخ الدائم على جسدها، هي تلك الأوساخ التي هي نفايات الرأسمالية المتعولمة والتي أودت بالإنسان إلى اللهاث الدائم أمام جزرتها وأنسنة تحرره البيولوجي. إن اتساخ الروح هذا يحتاج إلى غسل دائم. وما اغتسال الروح إلا تذكر وجودها الذاتي متحرراً من الزيف والخوف ونسيان المتعة العميقة بالحياة .

فلقد جفت عروق اللغة وأصبحت أشبه بهدير الطائرة والسيارة وآلات المصانع وحوارات التجار، لقد صار التفاهم السريع بأقل الكلمات والجمل التي لا تعني سوى ما تعنيه، ويجد المبدع نفسه مغترباً محدود الحضور .

والخطر على الذات عبر إفقارها الروحي لا يعني سوى تقوية غريزة التدمير وبعثها وحيدة دون غريزة الحب، فغريزة الحب المتعينة بالإبداع الروحي تصارع اليوم غريزة التدمير المتعينة بالبنك الرمز الأشنع على وسخ الروح واتساخها.

إن العالم المعاصر من حيث هو أكثر العوالم في التاريخ  تدميراً للحياة وللذات وخاصة في مرحلة كورونا لا تمكن مواجهته إلا بذات تدافع عن وجودها الكلي، مواجهة خطر انحطاطها إلى حالة مزرية من حالات انحطاط الوجود الاجتماعي بعامة، العالم هو عالم سحب الاعتراف بالذات الذي بذلت الذات جهداً كبيراً للحصول عليه. أجل المعركة دائماً هي معركة الاعتراف بالذات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.