الرجل والكلب

الأربعاء 2021/09/01
لوحة: سعاد عبدالرسول

(صالة شقة “منسي”، المكان غير مـُـنظم ومـُـزدحم بالأشياء، توجد كومة من الملابس القديمة، منضدة بثلاثة أرجل وكرسي برجل واحدة، حقيبة مُـغلقة، أربعة عرائس قماشية، تلفزيون قديم.

على الحائط صور لنساء جميلات مـُـقطعة من الصحف والمجلات، بينها تظهر صورة “”منسي”” وإلى جوارها صورة كلب بوليسي، توجد ساعة مُعطلة مُـلقاة بإهمال وظهرها للحائط، قطعة مرآة مشروخة.. يدخل “منسي” من باب الحـُـجـرة الوحيدة بشقته، يُغلق الباب بعنف وراءه..)

“منسي”: (مـُـوجهاً كلامه إلى شخص ما داخل الحـُـجرة التي خرج منها)

ليس لديّ طعام آخر لك، إما أن توافق به أو تموت، ليس لديّ نقود لأشتري لك أنواع الطعام التي تفضلها، الخبز والجـُـبن هو كل ما أستطيع شرائه، هذا طعام الفقراء.. أنتم من جعلتمونا فقراء.. الآن فقط أدرك هذه الحقيقة (وهو ينظر إلى داخل الحُجرة) لا تحاول فك قيودك، تناول طعامك بفمك مباشرةً، تماماً كما يفعل الكلاب (صارخاً) هيا ضع فمك على الأرض والتقط رغيف الخبز… هل تعرف يا شاهين أنني كنت أحترمك، كنت أعتقد أنك إنسان، كنت بالنسبة إليّ رجلاً ناجحاً ومُهماً، الناس كلها كانت تحني رؤوسها بمجرد أن تراك… التحية لك كانت دائما واجبة، لم يكن يهمني أنك غني وأنا فقير، لم أضبط نفسي يوماً وأنا أنظر في طعام غيري، الحسد لم يعرف طريقه لي، كنت قانعاً إلى حدِ الزهد ولكن ما فعلته بي أهدر كرامتي، أفقدتني آدميتي يا رجل، هل تسمح لي بأن أناديك بكلمة “يا رجل” وذلك حتى يثبت العكس، كيف تستمتع بكل هذه الحمولة من المهانة التي كنت تكيلها لغيرك..؟ هل تستمتعون كأصحاب سلطة ومال بإهانتنا..؟ لماذا، أجبني.. الآن تسكت وكأن الكلام ليس موجهاً لك.. أعرف أن رجالك سيأتون كي يخلصوك من الأسر، تعجبني كلمة الأسير عندما تطلق عليك وتشعرني ببعض السعادة.. أنا أقوم بأسر رجل مهم، إذن أنا مهم (بسخرية) لا أصدق ذلك، مازلت مجرد كلب شارع حقير يأكل من بقايا طعام الآخرين.

عندما يأتي رجالك سيبلغون الشرطة عني وسيحققون معي، كنت أتمنى أن يكون لديّ مكان آخر يُـمكنني أن أذهب بك إليه، مكان لا يصل إليه رجالك، من حقي أن أستمتع بإهانتك كما كنت تفعل معي، سأجيب عن كل أسئلة المُـحقق بلا أي خوف.

(يتقمص شخصية المُـحقق فيسأل أسئلته ويُـجيب عنها مع تغيير في طبقة الصوت ودرجته..)

 – لماذا قـُـمت بأسر ذلك الرجل يا “منسي”..؟

– لأنه أهانني وجرح كرامتي جرحاً كبيراً

– ألم يعـوّضك ببعض المال عن تلك الإهانه العابرة..؟

– لم تكن الإهانة عابرة، أتحفظ على ذلك.

– والمال..؟

– نعم أعطاني بعض المال، لكن أيّ مال لن يُـعيد لي كرامتي المُهدرة.

– هل أهدر كرامتك بفعلٍ فاحش لا يمكن نسيانه…؟

– أرجو ألا يذهب بك تفكيرك إلى تلك النوعية من الجرائم، أنا مازلت رجلا، لكنني رجل بكرامةٍ مـُـهدرة.

– هل لك أن توضح على وجه التحديد كيف أهدر هذا الرجل كرامتك…؟

– لن أتكلم عن هذا الأمر إلا أمام المحكمة.

– لماذا..؟!

– القضاء هو ما سيرُد لي ما فقدته، مازلت رغم فقداني لثقتي في كل من حولي أثق في قضاتنا…

(يـُـخرج من بين كومة الملابس شريط لاصق ويذهب به للحجرة موجهاً كلامه للرجل المُقيـّـد بداخلها…)

مادُمت لا تريد الكلام ولا الأكل فلا داعي لأن يبقى فمك مفتوحاً (يتجه إلى الحُجرة) يجب أن نغلقه (يقـطع جزءا من الشريط اللاصق ويخرج للحجـرة، نراه كشبحٍ ضخم من خلال جدار الحُـجـرة والذي يُستخدم كسلويت أو كشاشة خيال ظل، ثوان ثم يعود داخلاً للصالة، يرمي بكـرة الشريط اللاصق بعيداً) هذا أفضل لي ولك (يـُـحاول الجلوس على الكرسي وهو يستند بيديه على المنضدة ويتجوّل بنظره في أرجاء المكان ثم يعود بنظره للحجرة) لقد تنازلت لك عن حجرة نومي، سأنام هنا وسط هذه الفوضى، هي أفضل على أيّ حال من حُجرة الكلب (يـُـعاود تأمل محتويات شقته) لست مريضاً نفسياً حتى تمتلئ شقتي بهذه الأشياء المُـتناقضة والغريبة، لكن كل هذه الكراكيب تشبه حياتي…

(يتقمص شخصيته أمام المحقق)

– لو دخلت إلى رأسي يا سيدي المحقق ستجدها بهذه العشوائية.

لديّ هنا منضدة بثلاثة أرجل وكرسي برجلٍ واحدة، أجلس على الكرسي هكذا وأضع طعامي فوق المنضدة، أسند نفسي بيد وآكل بالأخرى، أنا والمنضدة والكرسي كل منا يستند على الآخـر، يجب أن أكون مُنتبهاً جداً طوال الوقت كي أحافظ على توازني (ساخراً) لو حرصت على هذه الحالة من الانتباه التي أكون عليها وأنا أتناول طعامي لأصبحت حياتي أفضل مما أنا عليه الآن… لديّ أيضاً كرباج (يُـخرجه من بين كومة الملابس ويتجه للحُـجرة) لو سمعت صراخك مرّة أخرى سأضربك بهذا الكرباج.. هل تتذكره، كنت تستمتع بضربي به وأنت تروضني وتطلب مني نباحا جيدا…

(يتقمص شخصية شاهين)

– أريد نباحاً جيداً يا “منسي”

لم تكن ملابسي تعجبك، قديمة ومتسخة لكنني تعوّدت عليها، لاحظ أنني لا أمتلك غيرها، لقد أتيت بها من سوق الملابس المستعملة وصنعت من بعضها أربعة أصدقاء كي لا أبقى وحيداً (يأتي من بين رُكام الأشياء بأربع عرائس قماشية) أراجوز، جاويش، غانية، والدُمية الأخيرة لك يا شاهين، هذه أنت، إنها تشبهك، لم أكن أستطيع النوم كل ليلة من دون أن أناديها بأقذر الكلمات وأمارس عليها ساديتي.

(يُـحدث أصدقاءه الثلاثة وهو يُـجلسهم فوق المنضدة)

اجلسوا هنا يا أصدقائي (ثم لـدُمية “شاهين”) وأنت يا أحمق اجلس معهم ولكن بأدب وفي صمتٍ شديد، والآن يا كل أصدقائي سأحكي لكم حكايتي مع هذا الرجل حتى يحين موعد قدوم الشرطة، لا تقلقوا سآخذكم معي إلى المحكمة، أعرف أن القاضي لن يأخذ بشهادتكم لكنكم كل أصدقائي وكل شهودي أيضاً، ولن يقف إلى جواري غيركم.

(يتركهم ويتجه للتلفزيون القديم ويُحاول تشغيله، يضربه بقـوّة كي يعمل)

تلفزيون قديم أبيض وأسود، يستغرق عند فتحه حوالي عشر دقائق كي تظهر الصورة على شاشته وبعدها بثلاث دقائق أخرى يأتي الصوت (يفتحه ويُـعاود ضربه) هيا اعمل، دائماً تخذلني أمام نفسي، شأنك في هذا شأن كل من حولي.. يـُـشبهني هذا الجهاز كثيراً فحياتي هي الأخرى بالأبيض والأسود وأيضاً صورة بلا صوت (يذهب إلى باب حـُجرة “شاهين”) أما أنت فقد قضيت حياتك كلها صوتا وصورة وبالألوان الطبيعية.

(يتجه إلى الحقيبة المُغلقة، يحملها ويضعها على المنضدة المسنودة بالكرسي)

هذه الحقيبة هي أنا، هي ما صرت إليه بعد أن قدمتني الغانية ذات ليلة (يُـشير للحُـجرة) لهذا الرجل، فيها كل ما كنت أحتاجه أثناء عملي معه (يتجه إلى الحُـجرة) انظر يا شاهين.. هذه هي الحقيبة التي أرسلتها لي، سآخذها معي إلى المحكمة.

(لحظة إضاءة مُـتغيّـرة وسريعة، ينطلق صوت “منسي” عالياً مُـتقمصاً شخصية حاجب محكمة..)

– محكمة..

(يعود إلى شخصيته مُمثلا وقوفه خلف القضبان الحديدية)

– سيدي القاضي أنا هنا ومعي ثلاثة شهود يعرفون قصتي جيداً مع شاهين وسيحكونها معي لهيئة المحكمة الموقرة.

(يدق بيده على المنضدة ثلاث دقات مـُـتقمصاً شخصية القاضي)

– ماذا حدث يجب الدخول في الموضوع مباشرةً، هيئة المحكمة ليس لديها الوقت.

– نعم سأفعل وسأوجِـز في الحكي.. أن تكون فقيراً يا سيدي القاضي في بلادنا فهذا يعني أنك مُـستباح وليس لك أيّ حقوق، صوتك لن يسمعه غيرك، الكل يفرّ منك، ضيق ذات اليد جعلني أقوم بأعمال كثيرة، تقاضيت منها جنيهات لم تكن تكفي إلا لشيئين:

(يتحدث بصيغة الأراجوز)

– رغيف خـُـبز وقطعة جـُـبن في اليوم وإيجار هذه الحُـجرة.

(يعود إلى صوته)

وذات صباح كئيب لم أجد عملاً فلم أستطع تناول رغيف الخـُـبز، ظللت جائعاً لثلاثة أيام، ليس لي أحد غير أصدقائي (يُـشير للدُمى القماشية) وكرامتي لا تسمح لي بالتسول، فعلتها مـرّة واحدة وقبل أن يضع الرجل يده في جيبه ويُـخرج لي جنيها وجدتني أهرب من أمامه سريعاً، لم أتحمل نظرته، جلست بعيداً أبكي، وبعد أن فتحت عينيّ وجدت إلى جواري كثيرين يبكون.. هل يؤلمهم الجوع مثلي..؟!

(مـُـتقمصاً شخصية الغانية)

– هل تحتاج شيئاً..؟

لحظتها لم أعرف من أين أتت تلك المرأة، قـُـلت لها أنا جائع وأكّدت لها أنني لست مـُـتسولاً، منحتني آخر قضمة من تفاحة معطوبة كانت في حقيبتها وذهبت بي إلى شاهين…

(مـُـتقمصاً شخصية شاهين)

– يجب أن تعمل بدلاً من هذا التسول…

– أنا لم أتسوّل.

– لديّ لك وظيفة، لقد مات حارس البوابة في شركتي.

– أقبل بالوظيفة.

– هذه هي ملابسك وهذا الكلب هو رفيق عملك، دعه يتشمم كل السيارات التي تدخل إلى الشركة، إنه مُدرّب جيداً على اكتشاف المـُـتفجرات.. هذا طعام الكلب، دعه يأكل كلما أراد.

(يتناول “منسي” عـُـلبة طعام الكلب من على الأرض ويحتضنها)

قالها وتركني… لم أستطع أن أقول له:

– هل يوجد من سيضع لي الطعام..؟

(يفتح علبة طعام الكلب وهو ينظر حوله)

نعم فعلتها، أتذكر لحظتها نظرة الكلب لي، لقد أصدر نباحاً أشعرني أنه يلعنني، لم أحتمل كل هذا الخجل وبكيت مرّةً أخرى، في اليوم التالي فتحت علبة طعام الكلب وأكلت، شعرت بالخجل أيضاً هذه المـرّة لكنني لم أبك، في اليوم الثالث لم أشعر بالخجل ولم أبك، في الأيام التالية أصابتني الدهشة عندما ضبطت نفسي أستمتع بحلاوة أكل الكلب.

(يتقمص شخصية الجاويش)

– القاضي ليس لديه وقت لسماع حكاياتك عن طعام الكلاب.. اختصر…

– نعم يا سيدي الجاويش سأختصر.

مرّت الأيام وقبل أن أتقاضى أول راتب لي مات الكلب… لا.. لم يمُـت لأنني أكلت طعامه، لقد ضربه أحد التجار الكبار بالنار، قتله التاجر برصاصة واحدة بين عينيه.

(بشخصية الأراجوز)

– الكلب قـُـتِـل.. قتله التجار ولم يمشوا في جنازته.

في ذلك النهار جاء أحدهم بسيارته الفارهة وكما أفعل دائماً فعلت، دُرت بالكلب حول السيارة وفجأة توقف الكلب وأصدر نـُـباحاً مـُـدويّـاً، طلبت تفتيش السيارة، لقد كانت هذه هي التعليمات التي تـُـمليها عليّ وظيفتي، وعندما قـُـمت بالتفتيش وجدت حقيبة مملوءة بالمُـخدرات، ثار الكلب وهاج وماج وثار أيضاً صاحب السيارة الفارهة وصمم على قتل الكلب.

(يتقمص شخصية الغانية)

– ليس لك شأن، الكلب كلبهم، والكبار لن يعضوا بعضهم البعض…

– أنا مسؤول عن الكلب، لقد أصبحنا أصدقاء تشاركنا الطعام والشراب والسهر…

– أنت لا تعرف ماذا دفعت لشاهين من أجل أن يقبل بتوظيفك هنا، لا تخسر عملك من أجل كلب، سيأتون لك بآخر.

– لماذا تفعلين ذلك معي…؟

– لا أعرف..

– يا للأسف رجل يقع في عداوة مع كلب، الكلب كان يجري وكان يستغيث بي والرجل السمين صاحب السيارة الفارهة كان مُـصمماً على قتله، احتمى الكلب بي وكأنه كان يعرف ما سيفعله به الرجل، نهرني الرجل وطلب مني الابتعاد عن الكلب وأطلق رصاصة فوق رأسي أفقدتني توازني ووقعت، الكلب والرجل أمام بعضهما، أطلق الرجل رصاصته بين عيني الكلب فأوقعه ميتاً.

(مُـتقمصاً شخصية الأراجوز)

– قتل الكلب ولم يستطع “منسي” حمايته…

آخر نظرة للكلب كانت تلومني، ما كل هذا القهر الذي أتعرض له من نفسي، كيف يمكنني أن أتجاوز تلك اللحظة..؟

(يجري وينتزع صورة الكلب من على الحائط)

– لماذا لم تـدافع عني…؟ ألم أتقاسم معك طعامي وشرابي طيلة شهر كامل..؟ لماذا تركتني يا منسي..؟!

(يركع “منسي” على الأرض ويمشي على أربع مـُـقلدًا مشيــة الكلب ونباحه، يتوقف ثم يتكـّـوم على الأرض كما لو كان جنينا، جهاز التلفزيون يعمل فجأة ولكن صورة بلا صوت، يظهر صوت نباح لكلب، يقف “منسي” مُـسرعاً ويجري باتجاه دُمية شاهين ويُحدثها)

– تحت أمرك يا شاهين بيه.

– الكلب مات ولا يمكن ترك البوابة دون حراسة أيها الأراجوز.

– يجب أن نبحث عن كلب جديد يا سيدي.

– ليس من السهل علينا أن نجد ذلك الكلب، الكلب الذي قتل كان كلباً بوليسياً أصيلاً، لقد اشتريته من مزاد أقامته مصلحة السجون.

– هل سننتظر حتى يـُـعقد مزاد مصلحة السجون مرّة أخرى…؟

– لا نستطيع الانتظار، هل تفهمني أيها الأراجوز.

وقبل أن يتركني شاهين أعطاني هذه الحقيبة (يتناول الحقيبة ويضعها على المنضدة) وقال لي:

(مُـتقمصاً شخصية شاهين)

– عندما تفتحها ستفهم ما أريده منك.

(يفتح الحقيبة ويُـخرج محتوياتها)

ما هذا..؟ جلد كلب، قناع كلب، حزام كلب، ماذا يـُـريد شاهين مني..؟ لا.. لا بد أنني مخطئ، كيف أفكر في ذلك الأمر، بالتأكيد شاهين لا يـُـريد مني أن أحل محل الكلب..!

(مُـتقمصاً شخصية شاهين)

– سأرتب لك معاشاً جيداً، مـُـرتب مُـزدوج لك وللكلب، وبما أنكما أصبحتما واحداً سيكون المبلغ كله لك.

– ولكن…

– هذا بخلاف وجبة غذاء ساخنه كل يوم وسأعطيك بيت الكلب لتنام فيه.

– أنا لست كلباً يا سيدي، كيف تطلب مني..!

– اسمع يا منسي، سيكون ذلك الأمر لفترة مؤقتة.

– لكنني لن أستطيع أن أقوم بعمل الكلب..

– ليس مطلوباً منك القيام بعمله، فقط قدم لنا نباحاً جيداً ودع السيارات تمر.

– ولكن…

– تذكر غضبي يا منسي…

لوحة: سعاد عبدالرسول
لوحة: سعاد عبدالرسول

(يُـخـرج “منسي” ملابس الكلب، يتردد في ارتدائها، يتذكر كلمات “شاهين”)

– تذكر غضبي يا منسي.

(يحسم أمره أخيراً ويرتدي ملابس الكلب)

– لماذا يضع هذا الرجل كرامتي في مقابل غذائي وبعض الأمان..؟!

(يمشي “منسي” على أربع، يقتلع صورته ببدلة الحارس المُعلقة على الحائط ويجري بها باتجاه الحـُـجرة مـُخاطباً “شاهين”)

– هل ترى يا شاهين الفرق…؟

(يُـقارن بين وصورته وبين وضعيته ككلب)

– هذا هو الرجل الذي كـنته وهذا هو الرجل الذي صنعته أنت.

ألا يستحق هذا الكلب مزيداً من الغذاء والأمان داخل شركتك…؟ نحن نتشارك نفس الأرض ونعيش تحت نفس السماء يا شاهين، الشمس لا تـشرق لك وحدك والناس مهما صغر شأنهم لا يمكن أن تجبرهم على التسبيح بحمدك.

(مـُـخاطباً شاهين)

– هل تـريد أن تشرب..؟ لا.. لن أرفع الشريط اللاصق عن فمك، يـُـمكنك أن تهز رأسك بالإيجاب، تــُـريد أن تأكل أيضاً، امتلأت بطنك بالفضلات وتـُـريد إخراجها…؟ لقد كان الطعام أمامك وأنت من رفضته، للأسف لا يـُـمكنني الموافقة… لست المـُـتحكم الوحيد في هذا الأمر (يرفع دُمية الغانية) هذه المرأة التي دفعت لك رشوة جنسية مقابل تعييني لا تريد، وهذا الجاويش الذي يحميك تخلى عنك بمجرد اختفائك وذهب لحماية رجل آخر، الأراجوز أيضاً يرفض، أطلب من دُميتك القماشية علها تستطيع تقديم الماء والطعام لك ومساعدتك على قضاء حاجتك.

(يتقمص شخصية شاهين)

– لا لن أفعل.

لهذا الحد وصل كارهوك، دُميتك هي الأخرى تتفق معنا.. هل تذكر ذلك اليوم الذي رآني فيه أبناؤك وأنا أجري بزي الكلب حول السيارة قالوا:

– ما أروع هذا الكلب.

يومها طلبت مني شيئاً جديداً، وأجبرتني على الموافقة مع مزيد من الإغراءات. منذ تلك اللحظة أصبحت أعمل لفترتين… أعمل في الصباح في حراسة البوابة، وفي المساء يركب أطفالك فوق ظهري وهم يطلبون مني نباحاً جيداً، وكنت أنت تضحك كثيراً، وما أن ترى عينيّ مليئتين بالدموع حتى تدس في يدي عشرة جنيهات وتهمس في أذني بلا رحمه:

– لا تنسى أن تقضي حاجتك في الإناء المملوء بالرمل، يجب أن ترفع ساقك لأعلى حتى لا تبلّل نفسك.

(يأتي “منسي” بإناء الرمل ويقوم بحركة قضاء الحاجة)

هل تعرف يا شاهين أنني كنت إنساناً قبل أن أصبح كلباً…؟ لقد مسختني، طوال النهار أسير على أربع، أضع فمي في إناء الطعام وأخرج لساني لأرتشف الماء… كنت أطلق نباحاً جيداً كلما رأيت أحدهم، هل تعرف أنني ضبطت نفسي في حالة إغراء عندما سمعت نباحاً أنثوياً من كلبات الشارع…؟هل تعرف أنني أخفقت في علاقتي مع الغانية…؟ ذات ليلة تزيـّـنت وتعطـرّت وفردت شعرها على صدري وقالت لي:

– أريد أن أمارس الجنس بلا مقابل مادي وبإرادتي الحـُـرة مع رجل اخترته بنفسي.

– هل أنا ذلك الرجل..؟

– أنت هو…

لحظتها شعرت بالرجفة تسري في كل كياني، عيناي زائغتان ويداي ترتعشان، مشاعر مـُـلتهبة من الخوف والرهبة وعدم القدرة على التصديق. ماذا يمكن أن يفعل رجل قضى حياته كلها يمارس الاستمناء مع مجموعه من الصور المـُـعلقة على الحوائط أن يفعل ذلك مع امرأة حقيقية..؟!

(يُـربت على دُمية الغانية وهو يتقمص شخصيتها)

– لما هذه الرعشة يا – منسي..؟

– إنها المرّة الأولى…

– طوال خمسة وثلاثين عاماً لم تجرب هذا الأمر..؟!

– جربته لكن..

– إذن جربه هذه المرّة بشكل طبيعي.

– لكنني أخجل منكِ، هل يمكن..

– ماذا..؟ قل لا تخجل.

– هل يمكن أن تغمضي عينيكِ…؟

– لماذا..؟ لا ترتبك.. سأنفذ… ها أنذا قد أغمضت عينيّ.

– أشعر أنك ترينني.

– هل تريد أن أربط منديلاً فوق عينيّ أم نطفئ النور..؟

– نطفئ النور.

(إظلام تدريجي إلى الحد الذي يسمح برؤية “منسي” ودُمية الغانية وكأنهما شبحان يمارسان الجنس، يظهر صوت نباح كلب وكأنه صراخ، تعود الإضاءة ويقف “منسي” مفزوعاً وهو يرمي دُمية الغانية بعيداً..)

– لا أستطيع، جسدي كله يقف ضد رغبتي، لقد حاولت لكنني عاجز يا سيدتي، لماذا أستطيع أن أفعلها بمفردي ولا أستطيع ذلك معك، لا تنظري إليّ هكذا أنتِ تعرفين أنني أبادلك نفس الرغبة لكن تنقصني القدرة.

الآن.. صرت كلباً حقيقياً..

(لدُمية الجاويش)

– هل ترى ما صرت إليه..؟ ألن تفعل شيئاً..؟ إن لم توّفر لي الحماية سأشكوك أنت أيضاً للقاضي… لماذا الصمت..؟!

سأشكوكم جميعاً، كلكم رأيتم وعرفتم وكلكم تصمتون، سرقت طعام الكلب كي أهرب من الجوع، وفقدت إنسانيتي كي أدفع إيجار الحُجرة، وضاعت رجولتي مع المرأة الوحيدة التي شعرت بي، ماذا تبقى مني..؟!

(يذهب إلى لمرآه ويتأمل نفسه)

– كل ما أملك سُـرِق مني، ملامحي وهويتي وجواز آدميتي.

(يعود إلى دُمية شاهين)

– سأقتلك الآن يا شاهين فلربما عاد لهذا الجسد الخامل بعض الروح.

(يُـخرج سكيناً من كومة الملابس ويأتي بالدُمي الأربع ويضعهما على المنضدة)

– اجلسوا هنا… راقبوا ما سيحدث، ستكونون شهود العيان…

(يذهب باتجاه الحُجرة، يفتح بابها، ينظر)

ستموت الآن يا شاهين، سيأتي رجالك بعد قليل ليجدوك فارقت الحياة، سيـُـسلمون جثتك للشرطة، والشرطة ستــُـسلمها لأهلك، سأفتخـر أمام الجميع أنني قتلتك… كثيرون سمعتهم يتحدثون عن ضرورة موتك لكنهم كانوا يتحدثون فقط، أنا من سيفعلها، وعندما أمثل أمام المحكمة سآخذ شهودي معي (يـُـشير للدُمى) وسيشهدون بأنني كلب.. مـُـجـرّد كلب…

– أنا كلب يا سيدي القاضي… كل عـُـمال الشركة وحـُـرّاسها يعرفون ذلك… فهل ستعدم كلباً..؟!

المحكمة لن تعدم كلباً… استعد الآن، تهيأ لموتك، هل تريد شيئاً قبل أن تموت..؟ سأنفذ أوامرك للمرّة الأخيرة، سأنفذها بطريقتي وليس بطريقتك، دعني فقط أقول لك شيئاً واحداً قبل أن تموت:

– أنا لست كلباً يا شاهين، أنا رجل حقيقي من لحمٍ ودم يستطيع أن يمارس الرفض ولو مـرّة واحدة في حياته، سأقتلك ليس لأنك رجـل غني بل لأنك اتخذت من أموالك سلاحاً أجبرت به البشر من حولك لأن يكونوا كلاباً.

(يقوم “منسي” بسن السكين على قطعة حجر ويتجه ناحية باب الحُجرة ويدخلها، يظهر “منسي” كخيال ظل عبر حائط الحُجرة شاهراً سكينه… نستمع لصوته)

– سأذبحك يا شاهين… لا تقاوم، ستموت سريعاً، أتمنى أن يحدث ذلك بلا ألم فأنا لست محترفاً في قتل الناس.

(لحظة صمت، تتبعها صرخة عالية، يخرج “منسي” بعدها من الحُجرة كثورٍ هائج، يرمي السكين من يده، يقوم في ثورة انفعاله بتحطيم كل الأشياء من حوله..)

– كيف يفعلونها.. كيف يقتلون..؟ كيف يمد أحدهم يده ليذبح آخر بقلب مطمئن..؟! كيف يصوّبون رصاصاتهم ويقتلونهم بدمٍ بارد..؟ كيف تفعلون كل هذه الجرائم دون أن يهتز لكم جفن..؟ كيف تنامون..؟ هل تستمعون للموسيقى..؟ هل تستطيبون طعامكم وتستمتعون بنسائكم وقد أزهقتم للتو روحاً خلقها الله كي تعيش.

– أنت تستحق الموت يا شاهين لكنني لن أستطيع أن أفعلها.. ما كل هذا العذاب الذي يصُـب فوق رأسي، ماذا سأقول للقاضي..؟

لم أستطع أن أقتله يا سيدي القاضي لأنني شعرت في تلك اللحظة التي كنت أستعد فيها لغرس السكين في رقبته بأنه مازال داخلي قلباً ينبض، في آخر نقطة داخل روحي قفزت ارتعاشة ذكرتني بأنني مازلت إنساناً (بفرح) أنا إنسان، إنها الإشارة… لم أستطع قتل ذلك الرجل وهذا يعني أن هناك جزءاً مني ينتمي للإنسانية (يتراقص فرحاً) أنا إنسان ولست كلباً، يجب أن أتذكر ذلك دائماً.. أنا إنسان ولست..

(تركز بؤرة من الضوء على وجه “منسي”، يلتفت حوله صارخاً ومـُـتقمصاً شخصيته مع شخصية القاضي)

– محكمة… أنا لم أقتله يا سيدي القاضي.

– ولكنك اختطفته وقـيّـدته ومنعت عنه الطعام والشراب وشرعت بالفعل في قتله.

– وما عقوبة ذلك..؟

– قد تصل عقوبتك للإعدام..

– أنا لم أقتله يا سيدي القاضي.

– ولكنك اختطفته وقيـّـدته ومنعت عنه الطعام والشراب وشرعت بالفعل في قتله.

( تتكرر المتوالية)

تلك دائــرة لن أستطيع الإفلات منها (يُـحاول أن يرفع قيداً وهمياً من على رقبته، يتدلى حبل مشنقة من أعلى أمام وجهه) هل ستشنقونني لأنني اختطفته..؟ وماذا عني أنا..؟ هل ستشنقونه هو أيضاً لأنه استغل ظروفي ومسخني إلى كلب..؟ (يُـحاول سماع أيّ إجابة بلا فائدة) أنا لا أسمع أي إجابة بشأني، هل يمكن رفع الصوت قليلا:

-……………

– مازلت لا أسمع، أرى شفاهكم تتحرك لكنها لا تقول شيئاً.

(تظهر في الخارج أصوات أقدام وهمهمات للعساكر مُختلطة بصوت سارينة سيارة الشرطة، يبحث “منسي” عن السكين ويُـعاود سنّه على الحجـر)

– لن أسمح لكم بأخذي حتى لو كلفني ذلك فقد إنسانيتي، سواء كنت كلباً أو إنساناً لن أسمح لكم بأخذي.

(يقترب وقع الأقدام، يجري إلى الشباك، ينظر من وراء الشيش)

– أتى رجالك يا شاهين.. لم يأتوا وحدهم، جاءت الشرطة معهم.

لتذهب الإنسانية إلى الجحيم، ما يحدث في العالم الآن لا يعرف أيّ معنى للإنسانية، أنا ابن هذا العالم وهذه اللحظة المرتبكة، أنا نتيجة طبيعية لما يحدث من حولنا (يجري باتجاه الحُجرة) سأقتلك يا شاهين وسأقتل كل من يمنعني… (صارخاً صرخة مكتومة وهو يدخل في صراع مع يده التي تحمل السكين) لماذا لا تطاوعني يدي..؟! جزء مني يُـعارضني ويرفض قتلك (يتجه إلى حبل المشنقة) لا فائدة من كل هذا، العالم لا يـُـساعد الضعفاء والمترددين على الأخذ بثأرهم، لا يـُـساعد هؤلاء المهووسين بالإنسانية على فعل أي شيء، يجب أن أخلص العالم من أحد هؤلاء الآن.

(مُـتردداً يضع رقبته داخل حبل المشنقة، ثم ينظر إلى أعلى)

– هل أستطيع أن أطلب منك الرحمة وأن تُصبر أمي على فراقي…؟

(يُحاول شنق نفسه لكنه لا يستطيع، يُجاهد من أجل فعل ذلك فلا تٌطاوعه يداه… تظهر أصوات طرقات عنيفة على الباب، يُخرج رأسه من فتحة حبل المشنقة ويتجه للباب، ينظر من العين السحرية للباب..)

لقد وصلوا يا شاهين.. ماذا أفعل..؟ لن أسمح لهم بأخذي (يُحاول ذبح نفسه فلا يستطيع، يذهب إلى حجرة شاهين، يظهر عبر شاشة خيال الظل وهو يرفع سكينه لكنه لا يستطيع قتل شاهين، يعود إلى الصالة مُسرعاً) مازلت لا أستطيع.. (يضع رأسه داخل المشنقة ويُخرجها بسرعة، يحتضن جلد وقناع الكلب، تزداد أصوات الدقات على الباب، يواصل الجري بعنف ما بين باب الشقة وباب الحُجرة من دون توقف) ماذا أفعل…؟ (يوجه كلماته إلى من يقفون خارج الباب) هل يُمكن أن تصمتوا دقيقة واحدة، ماذا تبقى فيكم من الإنسانية..؟ أرجوكم توقفوا دقيقة واحدة حتى أحسم أمري.. دقيقة واحدة فقط..

(تزداد حركته عنفاً ما بين: باب الشقة، حبل المشنقة، باب الحُجرة، يصطدم في مسيرته بالمنضدة والكرسي، يُحطمهما ويُمزق الصور الموجودة المعلقة على الحائط، يلتقط الساعة ويخلع عقاربها، يُلقي بالدُمي القماشية… تزداد الدقات على الباب وتتوحش، تتواصل ثورته وحالة الهياج العصبي لديه وكأن قـوّة ما خارجة عن إرادته هي التي تــُحركه… إظلام تدريجي وهو مازال على هذه الحالة..)

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.