الشعبوية بوصفها ثقافة سياسية

الجمعة 2021/10/01
لوحة: فؤاد حمدي

ظنّ الكثير من المفكرين والمؤرخين أن عصر الأيديولوجيات انتهى مع أفول القرن العشرين، ولكن العالم الذي يمور بالمتغيرات لا يزال يفرض واقعه ومعطياته، ويأبى ألا يحتضن هو أيضا أيديولوجيات جديدة، كالشعبوية مثلا، وإن كانت حتى اليوم ليست مصوغة نظريا من قبل فيلسوف أو مفكّر صياغة متكاملة تنبئ عن منطلقاتها وآفاقها وسبل تطبيقها على أرض الواقع. فالشعبوية لا يزال يُنظر إليها بوصفها عرَضًا من أعراض أزمة الحكم في الديمقراطيات الغربية المعاصرة، دون أن تكون حلّا مقنعا لتلك الأزمة. وقد ظل مفهومها مطّاطيا، لما يشوب استعماله من فوضى، دون أن يعني ذك خلوّه من معان. والسبب أن المحللين والمفكرين لا يزالون يحصرونه في بعده الاحتجاجي، دون الأخذ بعين الاعتبار تاريخه وأسسه الثقافية، حتى يمكن إخضاعه للنقد، كسائر الأيديولوجيات.

لقد تركزت التحاليل التي رصدت ظهور الشعبوية واستشراءها على التصويت الشعبوي وأسبابه الاقتصادية والسوسيولوجية والثقافية، لتحصرها في بعدها الانتخابي، وحتى في مجرد أسلوب خطابي، وتمّ النظر إليها في الغالب كمسألة شاذة، لا كأيديولوجيا. والسبب أنّ الشعبوية، بخلاف الأيديولوجيات الكبرى للحداثة كالليبرالية والماركسية والاشتراكية والأناركية، تفتقر إلى قامة فكرية بارزة، أو عمل نظري مؤسس، باستثناء محاولة الفرنسية شنطال موف (في سبيل شعبوية يسار) والأرجنتيني إرنستو لاكلو (العقل الشعبوي) لتصور شعبوية اليسار.

ولئن قاربت الأشغال الراهنة الشعبوية سلبيا في الغالب، على غرار الهولندي كاس موده الذي يرى فيها مجرد خطاب، فلأنها تجاهلت أن الشعبوية هي من أعراض قلق ديمقراطي. ومن ثمّ وجب النظر بجدية إلى الأسئلة التي يطرحها الفاعلون الشعبويون لتطوير الديمقراطية، ولا يكون ذلك إلا بالاعتراف بموقفهم من التمثيل النيابي، وتنويع أنماطه وأشكاله التعبيرية، دون الاقتصار على الممارسة الانتخابية، كاللجوء إلى ديمقراطية تفاعلية، وتمثيلية سردية تشفع الديمقراطية التمثيلية الكلاسيكية.

الشعبوية

في كتاب “عصر الشعبوية، التاريخ والنظرية والنقد” يواصل بيير روزانفالون، أستاذ التاريخ وعلم الاجتماع في الكولاج دو فرانس، الاشتغال الذي استهله في بداية الألفية على التحولات الديمقراطية المعاصرة، وواصله في كتاب “الحكومة الجيدة” الصادر عام 2015، وكان أكّد فيه أن “منظوماتنا تنعت بالديمقراطية لكونها معزّزة عن طريق صناديق الاقتراع… ولكننا لسنا محكومين ديمقراطيا.” وقد انطلق من هذه المعاينة لفهم الشعبوية، التي يرى أنها “أحدثت ثورة على الصعيد السياسي في القرن الحادي والعشرين”، فهو يرفض أن يرى في الشعبوية مجرد ردّ فعل “لاليبرالي” (بمعنى مناهض لليبرالية) أولاً لأن دعاة الشعبوية أنفسهم ينبذون بوضوح هذه الديمقراطية الليبرالية التي تستحوذ على الديمقراطية الحق؛ ثانيا لأنه ينبغي الإقرار بأن ثمة نظرية ديمقراطية تهيكل الأيديولوجيا الشعبوية. وقد أوضح المؤلف منذ المقدمة حدود الأدبيات الراهنة التي تحصر تحاليلها في ظروف قومية مخصوصة، والحال أن ثمة واقعا لا بدّ من تنظيره حسب قوله.

ساءل روزانفالون عن مفهوم الشعبوية، هل هي ظاهرة انتخابية، أم حركة مجتمعية، أم تيار سياسي، أم هي أيديولوجيا لها تاريخها وفلسفتها ومنظّروها؟ ويحاول أن يفهم جوهر الشعبويات، ما يوحّد بينها، وما يفرّقها بالرجوع إلى الواقع التاريخي، من القرن التاسع عشر إلى الآن، وينتهي إلى استخلاص الخصائص الأساسية للشعبوية، والعمل على اقتراح تصوّر مفهومي، حيث جعل غاية دراسته ضرورة تحديد الشعبوية، يمينية كانت أم يسارية، كـ”ثقافة سياسية” يتألف مَثلُها النموذجي في عناصر أربعة:

أولها أن الحركات الشعبوية تتميّز بمفهوم قوامه “الشعبُ واحدٌ” وهو مفهوم يتجاوز التعارض الكلاسيكي بين “هم” أي النخبة الأوليغاركية و”نحن” أي عامّة الشعب، لكونه يميز بين الشعب جسدًا مدنيّا، وهي صورة التعميم السياسي، وبين الشعب جسدًا اجتماعيّا، وهو كيان حقيقي مَسود يمكن أن يأخذ شكل بروليتاريا، من الطبقة العمالية أو الطبقات الشعبية.

وثانيها أن “المثل النموذجي” يتمثل في نظريةِ ديمقراطيةٍ مخصوصةٍ تريد أن تكون مباشرة (تقديس الاستفتاء) واستقطابية (نبذ الهيئات الوسيطة) وفورية (عفوية شعبية)، أي أنها نقيض عمل الديمقراطيات الليبرالية التمثيلية المعاصرة.

وثالثها طريقة التمثيل حيث تؤدي الحركات، أكثر من الأحزاب، دورا حاسمًا، مع اعتمادها دائما على “رجل شعب”. وتتميز تك الحركات بتفضيلها القومية الحمائية كسياسة وفلسفة في المجال الاقتصادي.

ورابع تلك العناصر استناد الثقافة السياسية للشعبوية إلى منظومة عاطفية تقوم على الانفعالات الحماسية أكثر مما هي عقلانية.

من خلال تلك الملامح يشرّح روزانفالون تلك الثقافة السياسية التي تتبدى، بصرف النظر عن بعض قادتها، عبر ظواهر مختلفة، كما هي الحال مع “النجوم الخمس” في إيطاليا، و”السترات الصفراء” في فرنسا، و”احتلوا وول ستريت” في الولايات المتحدة. وقد سعى المؤلف إلى تقديم إجابة واضحة عن النقد الشعبوي للديمقراطية المعاصرة، الذي يقترح بدائل تلغي ما يسميه دعاتها بـ”حكم القضاة”؛ أو الدعوة إلى الاستفتاء كطريقة عادلة لاختيار قادة البلاد ورسم سياستها، ففي رأيه أن الاستفتاء يذيب مفهوم الجسد السياسي، ويتناقض مع مبدأ التشاور، ويقود أحيانا إلى أوضاع لا يمكن التراجع عنها برغم بروز آثارها المدمرة، على غرار استفتاء البريكست؛ أو يؤدي إلى ما أسماه “الديمقراطوريا” أي النظام الذي يؤدي بالديمقراطية إلى حكم سلطوي استبدادي، حيث يسعى الحاكم الذي وصل إلى سدّة الحكم بطريقة ديمقراطية إلى التشبث بمنصبه وتحوير الدستور على مقاسه ليجدد لنفسه أكثر من عهدة. مثلما حلل العلاقة بين المشاعر والسياسة، بين الاندفاع الانفعالي الذي يتوخاه قائد ذو كاريزما يوهم بأنه ينطق باسم الشعب، وممارسة السياسة، مبيّنا أن من وصلوا إلى السلطة بهذه الطريقة، على غرار أوربان في المجر، تنكروا لوعودهم، وحوّلوا الديمقراطية التي اعتلوا بفضلها كرسي السلطة إلى منظومة حكم فردي. ولا يكتفي الكاتب بالأمثلة المعاصرة عن تبعات السياسة التي تقوم على الاستفتاء في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية، بل يعود إلى القرن التاسع عشر، مع نابليون الثالث تحديدا الذي نصّب نفسه إمبراطورا، ويسترجع ما عانته فرنسا في عهده الاستبدادي، وما آلت إليه من هزيمة نكراء أمام القوات البروسية عام 1870، قبل أن يُطاح به هو نفسه.

الشعبوية

الجديد الذي جاء به روزانفالون هو دعوته إلى مقاربة الشعبوية بوصفها ثقافة سياسية، ما يسمح بدراسة الظاهرة خارج الحقل المختص في سوسيولوجيا الاقتراع والعلوم السياسية، وبما أنها مبثوثة بأشكال مختلفة، فبالإمكان حسب رأيه تصور مقاربة أنثروبولوجية لملاحظة تمظهراتها في الحياة اليومية للأفراد والجماعات.

ولكن إذا اعتبرنا أن الشعبوية يمكن أن تكون من اليمين ومن اليسار على حدّ سواء، فإننا في الواقع نخلط بين ظاهرتين من طبيعة مختلفة، ذلك أن أغلب الحركات الشعبوية في أوروبا خلال هذا القرن قامت في الأصل على انحراف حركات يمينية متطرفة، في حين أن شعبوية اليسار لها مرجعية ماركسية، فقد يتفق الطرفان حول قضايا المهاجرين واللاجئين، ولكن الاختلاف بينهما في ما يخص العنصرية ومعاداة الأجانب والمسائل ذات الطبيعة الجندرية واضح لا غبار عليه. ولكن لا مناص من الإقرار بأن روزانفالون، في كتابه هذا، اجتهد لتقديم نظرية سياسية عن الشعبوية، حيث تناولها بوصفها فعلاً وليست ردة فعل، وفكرًا وليست جملة مشاعر حماسية تندفع خلفها الجموع. غير أن دعوته إلى ضرورة تنظير الشعبوية لا تخلو من نقد، فهو إذ يدافع عن اعتبارها أيديولوجيا قائمة الذات يمكن اقتراحها بديل حكم، يؤكد على ضرورة اندماجها في النسيج السياسي لتعزيز الديمقراطية. كما ربط التفاوت الاجتماعي (حيث عادة ما يرفع شعار 1 في المئة نسبة أكثر الناس ثراء في العالم، في مقابل البقية أي 99 في المئة) وهو من المباحث الهامة حاليا في حقل العلوم السياسية، بانتشار نظريات المؤامرة التي ينهل منها بعض القادة الشعبويين لحشد الأنصار وإذكاء الغضب الاجتماعي، فالرأي عنده ألا يكون ذلك منطلقا لتصور سياسي رشيد، لأن الثقافة السياسية الحق لا تُبنى على الشعارات ولا على ما تروّجه المواقع الاجتماعية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.