الفلاسفة والحرب

الجمعة 2022/04/01
لوحة: سماح الألوسي

أفاقت أوروبا مذهولة على طبول الحرب تدقّ على أبوابها، وهي التي خالت أن فتيلها انطفأ منذ سقوط المنظومة الشيوعية، وأن عهدا من السلام سيسود ربوعها بغير انقطاع، ولم تكن تتوقع إلا قليلا رغبة بوتين في لمّ شتات الإمبراطورية السوفييتية المندثرة، وإعادتها إلى سالف قوّتها، ولا نقول مجدها لأنها لم تخلف سوى الثكل والويل داخل الجمهوريات السوفييتية نفسها. ونسيت أوروبا أو تناست أن الحرب كامنة كمون النار في الحجر، لا يدري أحد متى تنقدح شرارتها، لسبب أو لآخر، فقد جُبل الإنسان على اتّخاذ كل ذريعة لشنها، وكأن وجوده على الأرض لا يكتمل إلا بها. والغريب أن الفلاسفة لم ينكبّوا على تحليلها إلا في القليل النادر، تاركين مهمة سبر أبعادها للعسكريين وخبراء الدراسات الاستراتيجية. من بين تلك القلة نجد مقاربات ثلاث لمفكرين فرنسيين هم على التوالي: روني جيرار، وروجي كايوا، وألكسيس فيلوننكو، نتوقف عندها لفهم ظاهرة الحرب.

انطلاقا من قراءة “في الحرب” لكارل فون كلاوزفيتز (1780 – 1831)، يتوقف روني جيرار في كتاب “التخلص من كلاوزفيتز” عند فكرة الصعود إلى أقصى الحدود التي تميز الحرب المثلى لدى الجنرال البروسي، وكان يتصور أن مصير كل حرب أن تتحول في النهاية إلى حرب ضروس يسعى كل طرف فيها إلى سحق الآخر سحقا تامّا كي يبطل أذاه نهائيا. وقد رأى بعض النقاد في تلك “الحرب المطلقة” نوعا من الخيال، أو الفنتازيا المنطقية، لأن الحرب في نظرهم أكثر واقعية واعتدالا. غير أن جيرار يعتقد أن الحرب الكارثية كما تخيلها كلاوزفيتز، وإن لم تتحقق في عصره لعدم قدرة البشر على جعلها مطلقة، فذلك لا يعني أنها ليست أفق كل حرب، لأن البشر يميلون من تلقاء أنفسهم إلى تلك الإبادة. وجيرار يستند في قراءته إلى البعد التقني الذي ميز المرحلة المعاصرة، من جهة تطوير الأسلحة وابتكار الصواريخ العابرة للقارات والقنبلة النووية، ويستند خاصة إلى التحول الأنثروبولوجي الذي أحدثه نابليون بونابرت، حين أوجد الخدمة العسكرية الإجبارية، التي وضعت حدّا للأرستقراطية، فلم تعد الحرب فنا أو لعبة، بل أصبحت أشبه بالديانة، حيث صار يغلب عليها ما أسماه “اللاتميزية” (Indifférenciation) التي تولد في نظره تفجرا عنيفا لم يعد يخضع للقواعد التقليدية للحرب.

وخلافا للحيوانات التي تفلح في حصر عنفها داخل شبكات هيمنة، ينساق البشر إلى محاكاة بعضهم بعضا، في عملية تقليد “ميميتيس”، حيث يصبح التنافس توأميّا: إن تسلّح الآخر تسلّحت، في نوع من الهروب إلى الأمام يقود إلى حدود العنف القصوى، ذلك أن المواجهة بين التوأمين تولّد شعورا بالعداء لا يني يتضخم، فتُمطّط زمنية الحرب وتغيّر بُعدَها: التعامل بالمثل يستفز ويرجئ في الوقت نفسه النزوع إلى الحدود القصوى، والانتصار لن يكون فوريا، وبما أنه ليس كذلك، فإن الحرب ستكون شاملة، لأن الصدام، بفعل إرجائه، يغدو أكثر عنفا، حتى في حالات الاستعداد للدفاع والصمود أمام هجوم محتمل، وبذلك تختلط الأمور فلا نعود نميز بين الدفاع والهجوم. وتصبح كل استراتيجية دفاعية استفزاز تقليد (mimétique) يضاعف الغلوّ لدى الجانبين.

شهادات

في هذا الظرف الجديد، صار للحرب أفق كارثي، حيث يحتوي مفهوم الدفاع على مفهوم الهجوم، فمن الخصائص التي يكتسيها الدفاع في المرحلة المعاصرة أن الدفاع يمكن أن يتحول إلى هجوم، أو ما يسميه الأميركان الحرب الوقائية، وأن المراقبة العسكرية يمكن أن تنتقل من كبح للعنف الحربي إلى حافز لتفجيره بشكل غير منتظر؛ وبذلك يصبح كل هجوم ردَّ فعلٍ دفاعيّا، ويصبح من المستحيل أن نعرف من بدأ الحرب. يقول جيرار “لدى الناس انطباع أن الآخر هو البادئ بالهجوم، وأنهم ليسوا هم الذين بدؤوا، والحال أنهم دائما هم البادئون، في وجه من الوجوه”. ويضرب مثلا على ذلك هتلر الذي زعم أنه جنّد شعبه للردّ على مهانة معاهدة فرساي، واحتلال إقليم رينانيا؛ أو ستالين الذي ادعى هو أيضا الرّد على الغزو الألماني في حربه ضد الجيوش النازية؛ أو الأميركان الذين زعموا أن غزوهم لأفغانستان كان ردّا على أحداث 11 سبتمبر. نفس الخطاب الكاذب المشحون بسوء النية، نجده اليوم في مزاعم بوتين عند شنّ الحرب على أوكرانيا.

روجي كايوا (1913 – 1978) يتناول الحرب من زاوية أخرى، ففي كتاب “بيلّونا، أو منحدر الحرب”، ينتقد الفكرة السائدة بأن الديمقراطية هي عامل سلام، لأن المؤسسات الديمقراطية والمساواة في الحقوق وأمام القانون جعلت من كل فرد مواطنا، ولكنها جعلت أيضا من كل مواطن جنديا، أي أن الجمهورية في رأيه لم تُحلّ الديمقراطية في المجال السياسي وحده بل في الحرب أيضا.

يقترح كايوا تصنيفا للحرب عبر العصور: الحرب البدائية التي تتماهى مع الصيد حيث العدو طريدة ينبغي مباغتته. والحرب الإقطاعية التي تشبه لعبة، حيث تقع مراعاة تكافؤ الحظوظ، لتحقيق نصر رمزي أكثر من كونه حقيقيا، أي أن القتال يتم حسب قواعد يحترمها الطرفان، لتوجيه عنف الحرب وجهة معينة، وجعل ممارستها محصورة في الفضاء والزمن، فالغاية ليست تصفية الخصم بقدر ما هي الحصول على اعتراف منه بهزيمته، وغالبا ما تقوم بتلك الحروب فئة معينة وليس المجتمع كله. خلافا للحرب الإمبريالية التي يحددها التفاوت في الموارد والعتاد، فالأكثر عُدّة يسحق الأضعف، وبدل قتاله يُخضعه ويُدمجه. فالحرب الإمبريالية، كما تتجلى في الحروب الكولونيالية، تتميز بغياب التناظر، واختلال كبير في موازين القوى، ما يجعلها أشبه بعملية بوليس. يقول كايوا “إن الدولة الإمبريالية تقود حربا هجومية تسحق الشعوب، فتخضعها وتفرض عليها عاداتها وتقنياتها ومؤسساتها وحتى معتقداتها”.

شهادات

ثم حصل تحول في نهاية القرن الثامن عشر، حين فضّل دعاة المُثل الجمهورية نموذج المواطن المسلّح، أو “الجنديّ المواطن”، وجعلت من كل مواطن عنصرا في جيش بلاده، وبذلك صارت الحرب نشاطا قوميا جماهيريا. وهو ما كان أنطوان جوميني (1779 – 1869) الاستراتيجي العسكري قد أشار إليه “سوف تصبح الحرب صراعا داميا، لا يخضع لأيّ قانون، بين جماهير غفيرة مزودة بعدّة رهيبة ذات قوة تفوق كل خيال”.

وخلافا للفكرة السائدة بأن سِلم الديمقراطيات خلَفت العنف القروسطي، يؤكد كايوا أن المؤسسات الديمقراطية كثفت وضخّمت الظاهرة الحربية، فلم يعد الجندي فارسا بطوليا بل صار جنديا مجهولا، مغمورا داخل كثرة القوى المتنازعة. يقول كايوا “في الحروب الشاملة للقرن العشرين، المكثفة والمعدّلة بالانخراط القومي والمعاملات التقنية، بدت القرارات غير إنسانية تفرضها بَلادة عملاقة لم يعد الإنسان يملك قدرة على التحكم فيها، حيث صارت الحروب تتطور على وتيرة حركات غير قابلة للصّدّ والمقاومة، فهي عبارة عن كتل عظيمة لا نملك لإيقاف انزلاقها حيلة”.

كل ذلك يمكن أن ينطبق على حرب روسيا ضد أوكرانيا، من جهة اختلال موازين القوى، وأطماع الكرملين التي لا حد لها، في مقابل بلد يستعيد مفهوم “المواطن الجندي” كما تخيلته الثورة الفرنسية للدفاع عن الأرض والعِرض.

أما ألكسيس فيلوننكو (1932 – 2018) فيركز في كتابه “العقل في مواجهة الحرب” على فلسفة الحرب كما تبدت في كتابات ومواقف علمين هما هيغل وتولستوي، فالأول يحاول أن يعطي معنى للعنف، فيما الثاني لا يرى في الحرب سوى علامة عن عبثية وجودنا.

شهادات

يعرّف فيلوننكو الحرب بكونها عملا عنيفا يندرج في تاريخ ما. ذلك الاندراج هو الذي يجعلها قابلة لأن نفكر فيها، فهي في رأيه فعل ثقافي لا يُكتب إلا إذا تحقق على أرض الواقع، وهو ما يفسّر عدم وجود حرب حيوانية. فالحرب في رأيه تسكن ذاكرتنا وتستوجب سردية، وتولدّ لغتها الخاصة. والمفكر الفرنسي يتوقف عند أربعة مصطلحات تنتمي إلى اللغة العسكرية: أولها الاستعراض، وهو حكاية ممكنة لأنه يسبق المعركة، وحكاية سابقة لأنها تُظهر للمدنيين تراكم تجارب بطولية. وثانيها الإعلان بوصفه خطابا رسميّا عن دخول الحرب يتوجه إلى الجميع، ولا ينتظر ردًّا، غايته جعل خطاب الآخر غير مسموع لأن “من يتكلم أو يكتب لم يُهزم بعد”، فإقصاء الخصم من حقل الخطاب هو ما تهدف إليه الحرب أكثر من تصفيته جسديا. والثالث هو التشفير، وهو لغة تكتيكية أكثر منها استراتيجية، والوجه الآخر للإعلان، لأن جدواه تكمن في عدم إشهاره. وأخيرا الشعار، وهو صيغة بروباغندا تجمع أفراد الشعب وتوحّدهم نحو غاية محدّدة وتحفّز النزعة القتالية لديهم.

فهل معنى ذلك أن الحرب نفسها لغة؟ كلا، يقول فيلوننكو، لأن الحرب لا يتم الإعلان عنها إلا إذا استُنفدت اللغة. ولكن إذا ناب العنف عن اللغة، فماذا بوسع الفلسفة أن تفعل، وهي التي لا تملك من الأسلحة غير اللغة؟

لم تعالج الفلسفة قضية الحرب إلا قليلا، لكونها تبهر الفكر، ولكون واقعيتها الفظيعة تتحدى العقل، أو تقسمه. ومن ثمّ ظهر خط فاصل بين من يسميهم فيلوننكو علماء الجدل والقدريين، يتجلى ذلك في أعمال هيغل وتولستوي على سبيل المثال. فالحرب بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني ليست وسيلة عرضية للسياسي، بل هي ضرورة لكي ينخرط العقل في التاريخ، ذلك أن الجانب العقلاني في رأيه ليس الإدراك بل الحرية والإرادة، أي أن الحرب في نظره هي امتحان لأجل الحرية، ويضيف أن الحرب تقي الصحة الأخلاقية للشعوب، وأن النزاع الإرادي العامّ والواقعي هو الحدث الوحيد الذي يسمح من جهة للإرادات الخاصة بأن تتجاوز ذاتها إلى حدّ التضحية بالنفس للدفاع عن القضية المشتركة، قضية الوطن؛ ويسمح من جهة ثانية للدولة باكتساب شرعيتها، لأن النزاع سوف يجعل الدول الأخرى تعترف بها كقوة سيادية وليست قوة كامنة فقط. فهيغل، خلافا لروسو وكانط، لا يعتقد أن الدولة يمكن أن تنشأ من عقد بين الأفراد أو من القانون الدولي. ومن ثَمّ فإن فلسفة الحرب، وليست فلسفة السلم، هي التي تسمح بملاحظة تقدم العقل عبر التاريخ، تقدما جدليا وعنيفا بالضرورة.

هذا التأويل العقلاني للحرب يعارض تأويل ليون تولستوي، فالحرب لدى صاحب “الحرب والسلم” عبثية لأنها لا تخضع لوصية ممكنة، ولا تشهد عن أيّ تقدم، بل هي تكرار دائم لنفس المأساة. وإذا كان التاريخ غير عقلاني، فبسبب الحروب. ومن ثمّ لا يمكن للإنسان إلا أن يدينها، بوصف فظاعاتها وإقامة الدليل على تهافت الآراء التي تبررها، لأن إدماجها في المنطق الاستكشافي للفعل أو المنطق الاستعادي للتاريخ معناه تجاهل واقعها عمدا، وإنكار عتامتها والعوامل العارضة التي تحدد نتائجها.

أمام هذين الموقفين، يستخلص فيلوننكو أن فلسفة تولستوي هي الأقدر على الإجابة عن قلقنا لأن الإنسان في جوهره كائن لامسؤول، و”اختيار الحرب لا يعبر عن حرية، بقدر ما يعبر عن نزوع ورغبة وشراهة يُخشى ألا يتمّ إشباعها أبدا”. وهذا ما نلمسه لدى بوتين، الذي ما فتئ ينشر الدمار منذ توليه السلطة في منعطف الألفية، من الشيشان وجورجيا ومولدافيا إلى سوريا والقرم وأوكرانيا.

لوحة: سماح الألوسي

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.