العين السحرية

لم تكن العين السحرية تمثل له حاجزا يحول بينه وبينها، فقد قرَّبها إليه حتى لامسها وداعبها، وأدركت هي أن ما تفعله هو نفس الشيء الذي تفعله عندما تكون بمفردها أمام المرآة.
الأحد 2018/07/01
لوحة: مهند عرابي

خصلات الشمس الساقطة على الباب تنزلق من خلال عدسة العين السحرية، فاخترقت عينه التي ترصد الرجل الذي يقف خارج الباب. حاول أن يزيح الأشعة المكثفة بعيدا عن مقلتيه، صار صراعا شعاعيا التقط من خلاله صورة هلامية لرجل يرقص أمام باب شقته. انتهى الصراع الشعاعي بأن تراجع للوراء، غمرت الدموع عينيه فأغمضهما. ربما كانت تلك هي المرة الوحيدة التي فشل في أن يضربه بحجر كبير فيكسر رأسه كأمثاله من السكان الذين يقومون بأفعال غريبة أمام شقته.

تذكّر في نفس الوقت المرأة التي كانت تهبط متمايلة، فكانت العين السحرية تبتلعها، يستطيع أن يحتويها ويفعل معها كل ما تخيّل أن يفعله، لكنها استطاعت أن تفلت من بين براثنه بدلال، قفز من العين إلى المسافة الفاصلة ما بين الشقة والسلم، وعندما هَّم باللحاق بها، اصطدمت عينه بالدائرة البصرية للعين السحرية، فكادت تُفرغ من محتوياتها.

المرات التي كانت تتصل عينه اليُمنى بالعين السحرية بالليل والظلام يحتل ساحتها الأمامية، كان يسمع أصواتا تنفث ثورة مكتومة. شعر بجسده يصير ثعبانا فينزلق من تحت الباب، فينهش الرجال الذين ينزلون من الأدوار العليا. كثيرا جدا ارتاب من أفعالهم في هذا الوقت من الليل.

الفرحة التي كان تنتابه والثعبان الذي يلقف أجسادهم الواحد تلو الآخر تنعكس على عينه الملتصقة بالعين السحرية فتتسع بشدة، حتى يُبصر المنظر في الخارج بوضوح. نال هزائم مُنكرة مع بعض الرجال الذين كانوا يصعدون للمرأة التي تقطن بالدور الرابع. ربما استطاع أن يعرقل بعضهم، ذات مرة نهض أحدهم واقفا، هبط السلالم متدحرجا، تتقاطر دماؤه خلفه، فأرسل صاحب العين بصقة لزجة مررها من خلال خلايا العين السحرية.

قضى ثلاث ليال في أرق شديد، تلتف الوِحْدة حول جسده، تخرج من عينيه، فتنساب من خلال العين السحرية، تتقاطر أمام باب الشقة الموحش، تمتزج مع رمال الصحراء القاحلة. شعر عندئذ بالسراب الذي أومأ إليه بأن يمتطيه فينقل إليه كل المشاهد التي يتمناها في هذا الوقت. نقل إليه مشهد عابر من إحدى الشقق التي تكتظ بالنساء وبالأطفال. عندما رأى هذا المشهد ارتفع بجسده قليلا، فكان المشهد قد اختفى من شاشة السراب الصحراوي.

المرات الأولى التي كان يقف فيها على عتبة العين السحرية لم تُمح من ذاكرته، فقد كان حينئذ يلامس أجساد النساء اللاتي ينزلن من الأدوار العليا. كانت كل امرأة تمعن في هز جسدها، سواء كان عن قصد أو دون قصد. منهن امرأة الدور الرابع تصدر صوتا مكتوما عندما تصل إلى الدور الثالث الذي يعيش فيه صاحب العين السحرية. عندما كانت تصل إلى مجال العدسة تكشف عن جمال جسدها، تنظر بين الفينة والأخرى إلى العين، فتلمح عينا يؤرقها الشوق واللهفة، تكاد تقفز من فوهة العدسة فتقضم تضاريسها.

لم يلحظ الصاعدون والهابطون أن المرأة قد استغرقت ساعة أمام العين تراودها عن نفسها، ولم يبصر أحد أن المرأة قد أظهرت شيئا من جسدها، أو حتى ناورت به، فالقدرة التي جعلتها تفي رغبات صاحب العين المتأججة، وفي نفس الوقت تتخذ موضع الخجل كلما صعد شخص ما فتوحي بأنها في طريقها إلى الأسفل، هي نفس القدرة التي جعلت صاحب العين يُمعن في كتم رغباته اللاهثة.

لم تكن العين السحرية تمثل له حاجزا يحول بينه وبينها، فقد قرَّبها إليه حتى لامسها وداعبها، وأدركت هي أن ما تفعله هو نفس الشيء الذي تفعله عندما تكون بمفردها أمام المرآة. ولمَ لا، فتلك المساحة لا يوجد بها بشر أو حتى جان، كما أن تلك الشقة مهجورة لا يسكنها كائن حي. تحركت يمينا ويسارا، نظرت إلى مؤخرتها، شدت عباءتها السوداء على جسدها. أما مسألة وجود شخص ما خلف العين يعاين جسدها، فهذا من محض الخيال، فإذا صعد زوجها في نفس الوقت، ورآها تتمايل هكذا، وإن أمعنت في إثبات العكس، فعليه أن يثبت أن رجلا ما يدير حركاتها بخيوط وهمية فيما وراء العين السحرية.

ظل عاما كاملا قبل هذا اليوم يحاول أن يلفت انتباه تلك المرأة، ذات مرة سمعت صوت احتكاك محموم بالباب فلم تعره اهتماما، لكن هذا الصوت كان يتكرر كلما صعدت، لأنها كانت تستغرق وقتا أكثر من الهبوط. أما تلك المرة التي وقعت في شبكته السحرية، رأت الضوء الساقط على العين السحرية يعكس شيئا ما، ولما دققّت بصرها رأت العين الموقوتة التي صارعت الضوء، ودفعته للخارج، فكوّن شعاعا سينمائيا يحمل في طياته صورا لعين بشرية تُعاين جسدها الفائر.

ما فعلته أمام العين في تلك اللحظة لم يره ولم يتخيّله من قبل، لأنه عندما أدرك أنها كشفت عينه المُتلصصة، رجع للوراء، ترك العين السحرية دون حراسة بصرية. لكنه بالتأكيد سمع حركات جعلته يخاف، حاول بخبرته أن يتخيّل تلك الحركات، فبدأ بأكثر الاحتمالات سوءا: أن تطرق على الباب، عندما يفتح تكيل له الشتائم والاتهامات التي تجعلها ضحية، تلك الصورة تضمن لها الشرف طيلة حياتها. تخيَّل أيضا أنها ستُحدث جلبة، وتجمع الناس بصراخها، تقتحم الباب وتكشف سرّه الذي ظل لسنوات مقدسا. ثم تخيّل العكس تماما، بأن تطرق على الباب بصوت أنثوي، وتحثه على لقاء رائع. لكنه أسلم نفسه لما سيحدث. فوقف عاجزا وتيبّست تبريراته في ركبتيه.

اليوم التالي عندما كان يعتلي شرفة العين السحرية، صعدت المرأة السلم في نفس الوقت ولوَّحت له بيدها، ساعتها أدرك أن ما فعلته بالأمس لم يكن استنكارا، وتمنى لو يعود هذا اليوم، فيرى ما فعلته في تلك اللحظة، وإن كانت قد عوضته الآن بالكثير من الإيماءات والحركات الأنثوية الفائرة.

لم يشعر أي كائن في العالم بالمُعاناة التي خاضها عندما توقفت تلك المرأة عن الصعود والهبوط، كانت العين السحرية قد شعرت بعجزها عن نقل الصور التي يبتغيها، فكانت أحيانا تنقل شعاعا خافتا عندما يرتكن إلى الجدار المجاور للباب، فكان يرفع بصره نحو العين، فربما تكون هي من نقل الشعاع صورتها، لكن حينئذ تخيب نظراته، فتهطل قبل أن تقفز من خلال العين عندما تكون امرأة أخرى غيرها من وقعت في دائرة شبكة إبصار العين السحرية.

لما عرف من كلام السكان المتناثر فوق السلالم بعد ذلك بأسبوع أن تلك المرأة اختفت وقع على الأرض. ظل يبكي بحرقة، امتنع عن الأكل. لم يفارق العين السحرية التي راحت تعيد إلى بصره مشاهدات قديمة للمرأة من خلالها. فرأى المرأة ما تزال موجودة في عالمه، فومضت عيناه بالسعادة، رآها تبادله الحب من خلال نبض جسدها الذي لا يسمعه إلا هو.

تذكر المرَّة التي سأل فيها نفسه: تُرى هل تشعر تلك المرأة بسعادة مما تفعله دون أن تراني؟ ربما كانت الإجابة أسرع ممّا يتخيّل، فقد رآها في هذا اليوم عشرين مرة، أدرك أن السعادة التي يشعر بها من وراء العين السحرية، تقابلها سعادة أخرى بكل أوجهها أمام العين. في هذا اليوم أخرج يده من خلال العين السحرية، وأمسك بكتف المرأة وضمها نحوه، وقبَّلها قُبلة طويلة. وأسلمت نفسها له، اقتربت من الباب والتصقت به، تعانقا طويلا. كانت العين السحرية في تلك اللحظة قد انصهرت تماما. لم تكن تلك اللحظات أو الساعات الطويلة كما تخيّلها بعد ذلك، إلا ثانية قصيرة جدا تم فيها هذا اللقاء العاطفي في ساحة العين السحرية.

اليوم الذي سُمِعت فيه صرخات في هذه العمارة لم يمر بسهولة، انتاب الذعر السكان وخصوصا النساء، فمنهن من كانت في الشارع وأبت أن تصعد لشقتها، ومنهن من كانت بالفعل داخل الشقة لكنها شمَّت رائحة الجريمة التي حدثت بالدور الثالث، فراحت تصرخ بشكل هستيري. لكن ما لم يتخيّله الرجال أن القتيل الذي وجد مُضرجا في دمائه كان يقطن في الشقة رقم 6. أما الدهشة التي تشبثت بألسنة النساء عندما عرفن أن القتيل الذي كان يراودهن عن أنفسهن في الشقة رقم 6 وجدوه ممددا، وساقاه الرفيعتان ملتويتان، وبجواره عكازان قديمان، وعلى مسافة قريبة جدا كانت العين السحرية تجاهد عبثا الوصول إلى عينيه اللتين أغمضتا لأول مرة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.