الفتاة القادمة من البحر

الاثنين 2021/02/01
لوحة: محمد ظاظا

ضغطت على زر الجرس الكهربائي وانتظرت. بعد برهة سمعت صوت خطوات مقبلة. فُتحت البوابة، بصرير مزعج، وأخرجت صبية جسدها من بين دفتيها، وحيّتني على استحياء بلهجة تقطر عسلًا، على الرغم من لُكنتها، وسألتني عن مبتغاي. طار صوابي حين رأيت وجهها البلوري ذا الخدين المتوردين، والعينين المشرقتين الشبيهتبن بلون البحر، والفم الصغير، وخصلات شعرها الذهبية التي تطفو على كتفيها، وصدرها الناهد. تلعثمت وأنا أسألها عن رجل الدار، فابتسمت ابتسامةً ساحرةً، وطلبت إليّ أن أنتظر قليلًا حتى تنادي عليه. تمنيت أن تطيل بقاءها لأروي ظمئي من جمالها، لكنها أولتني ظهرها وغادرت إلى داخل الدار، تاركةً البوابة مفتوحةً، متباطئةً في مشيها، بمباهاة وخفة ورشاقة، تعمد إلى تقديم ساق على ساق، كظبية تسير الهُوَينى.

“يا يسوع، هل أنا في حلم؟” تساءلت في ذاتي، وأنا أتأمل المخلوقة بعينين نهمتين. كان ردفاها المكوّران، الوارفان، المصبوبان تحت بيجامة ضيقة ذات نسيج خفيف، يرتجّان ارتجاجًا فاتنًا، كأنهما ردفا فتاة في العشرين، فيشعلان في النفس نار الشهوة العارمة.

لبثت شاردًا بعد اختفائها، وخالجني شعور غامض، مشوّش أعجز عن وصفه، فوضعت يدي على جبيني وأسندت ظهري إلى الحائط.

عقب انتظار، بدا لي مفرطًا في الطول، جاء رجل في نحو الأربعين من العمر، طويل القامة، ذو كاهلين قويين منحدرين، وكان شعره خفيفًا تهدّده بداية صلع، وعيناه رماديتين ثاقبتين، وفي حركاته غلظة واضحة، يرتدي دشداشةً تبنية اللون. صافحني بقبضتين خشنتين، واعتذر عن تأخره، ورحّب بي بحرارة كأنما بيننا معرفة قديمة، وعرّفني إلى نفسه قائلًا إن اسمه يونس. حين أخبرته بحاجتي إلى شراء خروف أدخلني إلى فِناء الدار، وطلب إليّ أن أنتظر قليلًا.

كان الفِناء يفضي إلى بيتين لكل منهما باب خاص، واحد مفتوح والثاني مغلق. تتوزع في محيط الدار شجرات حمضيات متناسقة، تأتي منها رائحة الخريف لاذعةً، ويشبه منظرها لوحةً للفنان الانطباعي سيسلي. وفي إحدى زوايا الفِناء يقبع كلب سلوقي ذو وجه قاتم داخل قفص، يبدو هادئ الطبع، يرسل بصره إلى مجموعة يمامات تحط على سياج السطح. وفي الزاوية المقابلة شجرتان إحداهما شجرة تين كثيرة العقد تظلّل المكان لكثافة أوراقها الغامقة التي تكاد تكون سوداء، وتحتها أرجوحة تسع أكثر من شخصين، والثانية شجرة سفرجل ذات ساق قصيرة، متساقطة الأوراق، لا تزال أثمارها الناضجة تتدلى من أغصانها. تلفتُّ يمنةً ويسرةً طمعًا في رؤية الصبية، لكني لم ألمحها لسوء الحظ.

عاد يونس بعد قليل وأشار لي أن أتبعه. قادني إلى حظيرة خلف الدار، تبعد مسافةً تنوف على مائة متر، تكفي لأن تحول دون وصول رائحة مخلفات الحيوانات إلى البيتين، نصف مظللة، تحوي عشرات الخراف في أَعمار مختلفة، وثمة رجل رأسه أصلع كقشرة بيضة، يرتدي سروالًا فضفضًا، منهمك في تقديم العلف لها. عرّفني إليه قائلًا إنه صهره ياسر، سلّمت عليه فحدّق إليّ بعينين بارزتين تبدوان كأنهما ستخرجان من محجريهما، ومدّ يده لمصافحتي، وحرّك فمه مرحبًا بي.

اختار يونس خروفًا، وقال:

– هذا مواصفاته ممتازة، يلبّي مبتغاك تمامًا، سمين ونشط، لم يبخل عليه ياسر بالعلف المركّز الغني بالطاقة والبروتين.

ثم دعاني إلى وضع يدي على ظهر الخروف وتحسّسه جيداً، وأضاف:

– لن تشعر بفقرات ظهره لأنه ممتلئ باللحم.

قلت:

– أشكرك، من الواضح أنه معافى.

نقدته ثمنه، والتمست من ياسر أن يحمله إلى السيارة، لكنّ يونس أومأ برأسه إلى ياسر، وقال لي:

– لن أدعك تذهب قبل أن تتناول الفطور معنا.

كانت تنبض في داخلي أمنية ملحّة بأن يدعوني لشرب استكان شاي، طمعًا مني في رؤية الصبية، فقلت له، من غير تردد:

– سأكتفي بشرب استكان شاي فقط، أما الفطور فأرجو تأجيله إلى يوم آخر.

– كما تشاء، تفضل إلى البيت.

ربت يونس على كتفي، ونحن ندلف إلى حجرة الاستقبال في بيته، المؤثثة تأثيثًا بسيطًا، ودعاني للجلوس على أريكة قبالة نافذتها المشرعة على الفناء، ثم استأذن بأن يغيب عنّي بعض الوقت.

أخذت أثناء غيابه أستطلع جدران الحجرة، ثمة ساعة من الطراز الكلاسيكي فوق النافذة بجوارها لوحة تخطيط، موغلة في العتق، لجمال عبدالناصر تحفّ بها سلسلة ورود اصطناعية، ولوحة أخرى شاحبة تحتشد بفواكه، وكفّ من السيراميك زرقاء اللون في وسطها عين واحدة، تتدلى فوق إطار الباب مباشرةً، وسجادة حائط مخملية فوق الأريكة التي أجلس عليها، إضافةً إلى الكثير من الصور الشخصية هنا وهناك، وقد فوجئت بأن عددًا منها صور ليونس ببزّة ضابط في الجيش، بعضها وهو في رتبة ملازم ثانٍ، وأخرى وهو ملازم أول، وبعضها وهو نقيب.

رجع يونس، بعد نحو خمس دقائق، تتبعه سيدة تحمل صينية شاي، أربعينية محجبة، قمحية البشرة، ذات فم بلون البرقوق الأحمر الداكن يتسم بالكبرياء، ووجنتين منتفختين قليلًا كوجنتي أرنب، وحاجبين مشذّبين بعناية، ترتدي ثوبًا طويلًا خبّازي اللون، وتشع من عينيها السوداوين بساطة ريفية. قال:

– أم مالك زوجتي.

وأشار لها أن تضع الصينية على طاولة زجاجية في منتصف الحجرة، فأجبت بلطف:

– لي الشرف.

وتساءلت في داخلي “هل يضيّف جميع زبائنه هكذا؟”.

صبّ يونس الشاي في استكانين، وقدّم لي واحدةً، فارتشفت منها وقلت:

– لا ألذّ من الشاي بالاستكان. نحن في البيت صرنا نشربه للأسف بالأقداح.

– خاصةً إذا كان مخدّرًا بالهيل.

أردت أن أطيل الحديث معه، لعلّي أحظى برؤية الصبية، فسألته:

– هل تعرف من أين جاءنا اسم الاستكان؟

– أليس من الإنكليز؟

 – يُقال إن الهنود حينما جاءوا للعراق مع الاحتلال البريطاني كانوا يطلقون على قدح الشاي اسم بيالة، أما الجنود البريطانيون الذين كانوا في الهند أيام الاستعمار البريطاني لها فكانوا يعودون في إجازاتهم إلى بريطانيا وهم يحملون معهم بيالات الشاي للذكرى أو كهدايا، وأخذوا يطلقون عليها “East Tea Can” أي قدح الشاي الشرقي.

استلطف الحكاية، وقال:

– جماعة أبي ناجي ملاعين.

استغربت من الاسم الذي لفظه:

– مَن أبو ناجي؟

– أما سمعت بهذا اللقب الذي يكنّي به البغداديون الإنكليز؟

– كلا.

– تُروى عنه حكاية تقول إنه تاجر بغدادي يهوديّ يُكنّى بأبي ناجي، كان يمتلك في عشرينات القرن الماضي قصرًا ينتهي بحديقة يانعة مطلة على نهر دجلة، وقد اعتاد الناس زيارته ومسامرته في حديقته أثناء عصاري الصيف. والتفتت المس بيل، مستشارة المندوب السامي والحاكم البريطاني في العراق، إلى تلك الجلسات، فانضمت إليها، وكانت تروي لأبي ناجي مشاريع الإدارة البريطانية. وبعد خروجها ينصرف الرجل مساءً لقضاء أماسيه مع أصحابه في مقهى التجار، وينقل لهم ما سمعه من أخبار، ويبادرون بدورهم إلى ترديدها للآخرين، وحين يسأل الناس “من قال ذلك؟” يأتيهم الجواب “أبو ناجي”. وسرعان ما أصبح أبو ناجي لسان حال الإدارة البريطانية من حيث هو لا يعلم. ومع مرور الزمن غدت كنيته مرادفةً للإنكليز والسياسة البريطانية.

أردت تغيير دفة الحديث، فرفعت رأسي إلى الجدار وألقيت نظرةً مقتضبةً إلى الصور، وسألته:

– كنتَ ضابطًا؟

أذكى سؤالي جمرةً كانت خامدةً في صدره، فتنهد وقال:

– قبل الاحتلال. لم يبقَ من ذلك العهد سوى الذكريات وهذه الصور التي لا يمكن طيّها.

تمهّل مدى لحظات، ثم أردف:

 – كبّلتني الحياة. بعدما حلّ الحاكم الأميركي بريمر الجيش لم يعُد لي أيّ عمل. لعنة الله عليه وعلى بوش الخنزير.

– آنذاك، والله، ما كنت أعي شيئًا في السياسة. هل انضممت إلى المقاومة مثلما فعل عسكريون آخرون؟

– لم أستطع، كنت مراقبًا من طرف عملاء متعاونين مع الاحتلال، وعملي في تربية الخراف حتّم عليّ البقاء في الدار.

– لو لم يُحلّ الجيش لكنتَ الآن ربما في رتبة عقيد.

قلت ذلك، وافترضت في داخلي أن أيّ شخص آخر لو كان في مكانه لمات غيظًا من المهانة.

ردّ عليّ وكأني عزّيته، أو لامست جرحًا استوطن روحه:

– أشكرك كثيرًا، أظنك لا تعرف مدى صعوبة تأقلم العسكري المحترف مع مهنة غير مهنته، خاصةً إذا كان معتدًّا بنفسه.

صبّ استكاني شاي كرًةً ثانيةً وقال:

– ماذا كان بوسعي أن أعمل؟ سائق تاكسي أم بائع خُضار لأعيل أسرتي؟

أومأت بـ”لا”، فقال:

– وجدت ضالّتي في تربية الخراف كما ترى. هكذا حكمت الظروف. في بادئ الأمر.. كيف أعبّر لك؟.. عانيت من هذه المهنة وضقت ذرعًا بها، لكن لم يكن هناك مناص من ترويض النفس على القبول بها. وهكذا مضيت في مزاولتها، ومع مرور الوقت اكتسبت خبرةً من عمّي. كان يمتهن هذه المهنة قبل أن تقعده الشيخوخة عن العمل، لكنه لا يستطيع مفارقة سوق الغنم، يجد فيه ملاذًا، يحمل مقعده الصغير صباح كل يوم ويذهب إليه ليبدد ساعتين في استطلاعه، ثم يعود أدراجه، وأحيانًا يرشد إلى بيتي مَن يحدس أنه زبون جديد مثلك.

– يا له من ولع! حتمًا له في السوق ذكريات وهواجس مضى زمنها، لكنها تمنحه سعادةً. هل يقيم معك؟

– لا، إنه يقيم مع ابنه.

– وهذا البيت مُلكك بالطبع؟

– أجل، وكذلك البيت الملاصق. ورثتهما من أبي.

– آسف لإزعاجك بأسئلتي، هل البيت الثاني مؤجَّر؟

سألته بِنيّة معرفة مَن يسكن فيه، وكان فضولي يتزايد لمعرفة سر الصبية، فأجاب:

– لا، خصّصته لأسرة نازحة.

– توقعت أن صهرك ياسر يسكن فيه.

– ياسر لا يحتاج إليه، لديه بيت في الحي المجاور. الأُسرة التي تشغلها نازحة من الموصل.

– أهي آشورية أم كلدانية؟

– آشورية.

– أجل، أجل.. وأنا أيضًا.

– أتشرّف بك.

– كيف وصلت هذه الأسرة؟

– هي ليست غريبةً بل من معارفي المقرّبين، أعني أنها أسرة صديق شهيد عزيز عليّ جدًا اسمه يوسف، والصبية التي فتحت لك البوابة ابنته مارينا (استغربت من نطقه اسمها). كنا أنا وإياه ضابطين في كتيبة عسكرية واحدة قبل الاحتلال، وتربطني بأسرته علاقة عائلية عميقة، وعندما جرى حل الجيش عمل في مهنة حرة أيضًا، ويوم دخل الدواعش المدينة تصدى لهم هو وشقيقه، وظلا يقاومان حتى استشهدا. وبعد سيطرة التنظيم على المدينة أصدر بيانًا خيّر فيه المسيحيين بين التحول إلى الإسلام، أو دفع الجزية، أو المغادرة من غير ممتلكاتهم بوصفها غنائم، أو الموت، وما كان أمام أرملة صديقي وابنتها وولدها من خيار سوى المغادرة فاستقبلتهم في داري. ولأن الدار كانت كبيرةً تفيض عن حاجة أسرتي جزّأتها إلى بيتين.

ابتهجت في سرّي لأن الصبية آشورية، وأوحى لي حدسي أن يونس يخطط لاتخاذ أمها زوجةً ثانيةً، فهي حتمًا جميلة ما دامت مارينا خارجةً من رحمها، في حين أن زوجته ينقصها الجمال. “لكن هل ستقبل به وهو مسلم وله زوجة؟!” تساءلت في داخلي، ثم قلت “ربما ستقبل على مضض لأنها مكسورة الجناح”.

لدن انتهائنا من شرب الشاي استقمت واقفًا للانصراف، فلمحتُ مارينا من النافذة تعبر مسرعةً إلى جهة شجرة التين، مثل نسمة منعشة أو وميض برق مبهر، وقد استبدلت بيجامتها بثوب مزركش. أخفيت إحساسًا بالغبطة اعتراني، وخطوت إلى باب الخروج، وسبقت مضيّفي في فتحه.

حمل ياسر الخروف ووضعه في صندوق السيارة، فأجزلت له الشكر، وتبادلت ويونس أرقام الهاتف، وودّعته وقفلت راجعًا إلى البيت؛ شاعرًا بخاطر قوي يلحّ عليّ بأن أوثّق علاقتي به أكثر لعلّي أخطب ودّ مارينا.

بعد بحثي عن معنى اسمها عرفت أنه من أصل لاتيني يعني “الفتاة القادمة من البحر”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.