المثقف‭ ‬الطائفي‭ ‬وخراب‭ ‬الأوطان: العراق‭ ‬أنموذجا

السبت 2015/08/01
لوحة: فيصل لعيبي

حينما تصبح السياسة محطة للصوص والفاشلين والانتهازيين وتجار الحروب أو تجار الوطنية، يصل الوطن إلى الخراب مما يجعل الثورة ضرورية لإنقاذه؛ لكن مأساة الوطن الكُبرى في خراب المثقف، حين يصبح المثقف أداة لنشر الخراب، فهو بوق لخطاب السياسي الانتهازي، يرتدّ لهويته الضيقة‭.‬ كثيرًا ما كَرَّرَ المثقف أنه أهم من السياسي وتذمر من عدم التفات الأخير إليه، لكن المثقف نفسه لا يني إلا أن يتقازم أمام السياسي على الرغم من أنه يعدّ نفسه أفضل منه وأكبر وأهمّ‭.‬

لحظة الانهيار الكبرى

لم يكن الغزو الأميركي للعراق في سنة 2003 إلا لطيّ صفحة العراق إلى الأبد، ومعه طَيّ صفحة العروبة عبر اجتثاثها في مهدها، فالعراق مهد العروبة، ولأن هذا القول سيجد كثيرون فيه شططًا وتعصّبًا عراقيًّا، سأوجز حقائق تاريخية تؤكد وتُثبت مقولة إن العراق هو مهد العروبة‭.‬

النقوش العربية الأولى

تعد النقوش التي وجدت في المدن العراقية القديمة مثل أور ونفر وأبو الصلابيخ، أقدم النقوش العربية المكتوبة بخط المسند، أو ما اصطلح عليها عند علماء الآثار والنقوش بالنقوش العربية الأولى، فهي تعود للقرون التاسع والثامن والسابع قبل الميلاد؛ وأما الأبجدية العربية فهي ابتكار عراقيّ بامتياز، كذلك النقاط والحركات والنحو والصرف والبلاغة وأوزان الشعر، بل إن الباحث سعيد الغانمي يثبت في كتابه القَيِّم “ينابيع اللغة الأولى” أن الحيرة هي المرحلة التأسيسية في ثقافتنا العربية، فعربية القرآن الكريم هي عربية أهل العراق، أي عربية أل التعريف، وفي كتابه هذا يحفر عميقًا فيما وصل إليه العلامة جواد علي واستَعْلَم بخصوصه‭.‬

إذ يرى جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، أن انبثاق الحضارة العربية الإسلامية في العراق وليس في الحجاز موطن الرسالة المحمدية، وليس في دمشق عاصمة الامبراطورية العربية الإسلامية، لم يكن وليد صدفة، بل يرفض الحكاية التي تقول إن الإمام علي بن أبي طالب نادى أبا الأسود الدؤلي وأعطاه مفاتيح قواعد اللغة العربية وقال له انح هذا النحو، ومن هنا جاءت كلمة “النحو” فهو يراها ليست سوى أسطورة، ولا وجود لقفزة في الحضارة بل تراكم معرفي، متمنيًا أن يأتي اليوم الذي تأخذ الحيرة مكانتها، وهو ما قام به تلميذه النجيب الباحث سعيد الغانمي فأثبت في كتابه أن العراق مهد العروبة‭.‬

ما يراه جواد علي وسعيد الغانمي يراه كذلك مجموعة من الباحثين، بما في ذلك بعض المستشرقين المنصفين، فأكثر من تسعين بالمئة من بدايات الحضارة العربية الإسلامية كانت في العراق وخُطّت بأيدٍ عراقية، وهو ما منح العراق الأسبقية والأفضلية ومكنه من تبوّؤ مركز الصدارة، فهو إذن مهد العروبة‭.‬ أمّا قول بعضهم إن سريان العراق وفرسه وبقية الفئات غير العربية في العراق وبقية الأقطار، تبنّت بسرعة اللغة العربية كي تحافظ على ميراثها ومنجزها من الهجمة البدوية الصحراوية التي اجتاحت المنطقة، وهي التي قامت بهذه النهضة الحضارية الكبيرة، إنما هو كلام لا يَنمّ إلا عن جهل فاضح ودوافع مَرَضية‭.‬

إذا كان مثقف الأقليات المتطرف يحاول أن ينفي أهم ركنين في العراق وهما حدوده وعروبته، متذرعًا ليس بأدلة البحث العلمي واستنتاجاته بل بهوسه القومي المتطرف الذي يجعله لا يحقق ذاته وإنسانيته إلا بتدمير إقليم جغرافيّ اتفقت أدبيات الحضارة العربية وغير العربية تاريخيًّا على أن حدوده من تخوم الموصل شمالاً إلى بلاد عبادان عند ساحل البحر جنوبًا وإلى حلوان (بعد خانقين) شرقًا‭.‬ ونفي عروبة هذا الإقليم وكون العرب طارئين عليه، كهذا مجازفة لا تجيزها سوى العنصرية الشوفينية الإلغائية الإقصائية بأبشع صورها‭.‬ إن متطرفي الأقليات في العراق لا تنطبق عليهم مقولة “الضحية تقلّد جلادها” بل الضحية تتفوق على جلادها في تطرفها وقسوتها وتزويرها وكمية الكره في تفكيرها‭.‬

لكن الخراب الأكبر يأتي من المثقف العراقي العربي، الذي احتمى بطائفيّته وكأن شعارات الشيوعية والديمقراطية والحداثة والعمل لسنوات طويلة في النضال ضد الطغيان الصدّامي، تَسَبَّبَ في خلق مثقف مشوّه يحارب غالبيته العربية لأنهم ينتمون لمذهب مختلف مُشككًا بعراقيّتهم وعروبتهم وآخر صار يحارب عروبته، ويشيع “أن العراق الأصليّ ليس عربيًّا” وأن “العرب غزاة جلبوا التخلف والدمار والخراب للعراق”، وهو لا يفقه لغة سوى العربية، وثقافته عربية بامتياز، وأن معظم ميراث العراق عربيّ، وباستثناء اللغة السريانية، فليس ثمة ميراث في العراق يُعتدّ به غير الميراث العربي، وأعني بالميراث كل ما سبق تأسيس الحكم الوطني في العراق، واعتراف عصبة الأمم بأحقية العراق بشماله، فيما اصطلح عليه “مشكلة الموصل”، أي ما سبق عام 1925 ميلادية‭.‬

إن الحديث عن عروبة العراق لا يعني نكران المؤثرات السريانية والفارسية والتركية، وهي المؤثرات التي تشكل الهوية العراقية مع العربية، لكن ثقل العربية في العراق أكبر بكثير من ثقل الفارسية في إيران والتركية في تركيا، وإذا أضفنا إلى ذلك أن المنجز التدويني العربي في كل من إيران وتركيا سبق الفارسية والتركية، بل شكّلَ ميراثًا مهمًّا وضخمًا في تركيا قبل أن تبدأ اللغة التركية بتأسيس منجزها الضخم والذي منحها هويّتها الحالية، ومع ذلك لا تجد مَن يرفض فارسية إيران ولا تركية تركيا‭.‬

العرب في العراق قبل الميلاد

يتفق المثقف العنصري من الأقليات مع المثقف العربي الطائفيّ في نكران عراقة الوجود العربي في العراق، ومهما بلغ الشطط العنصري بمتطرفي الأقليات، فالمثقف الطائفي لا يعترض، حتى في الحقائق التاريخية الكبرى، التي تؤكد أن مع جيوش الفتح العربي الإسلامي التي انطلقت من الكوفة والبصرة وواسط وتوغّلت شرقًا إلى حدود الصين، انتقلت جموع عربية كثيفة للسكن في شرق دجلة بعشرات ومئات وآلاف الأميال‭.‬ إذ يصمت المثقف الطائفي أمام دعاوى المثقف العنصري غير العربي بأن العرب ليس لهم وجود في مناطق شرق دجلة يزيد على مئتَي سنة أي لا وجود لهم قبل سنة 1800 ميلادية، لاغيا أكثر من ألفي سنة من وجودهم، بلا أدنى شعور بالمسؤولية أمام متطلبات الكتابة والبحث العلمي؛ ومن المفارقات أن مُدّعي هذا القول هو من الإثنيات الرعوية التي لم تعرف المَدَنية إلاّ مؤخرًا، إذ بدأوا الكتابة في القرن العشرين وأن زخمهم الكتابي تمّ بمباركة ودعم القوميين العرب في سبعينات القرن العشرين خصوصًا‭.‬

يذكر العلامة جواد علي في الجزء الأول من “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” وفي الصفحة 573 أن خبر إخضاع الملك نرام سين للعرب في الأراضي المحيطة ببابل، بأنّه أول إشارة عن العرب في العراق، ويؤكد أن العرب يسكنون المنطقة قبل الملك نرام سين دون شكّ، وهو ما يعني أن الوجود العربي في العراق وإن كان هامشيًّا ولكنه يمتد لأكثر من 2800 سنة قبل الإسلام، وخبر استيلاء نرام سين هذا، يتجاهله الجميع، فلم أقرأ وأسمع مثقفًا واحدًا أشار إليه؛ بل حين كتبته وتحدثت به وجدت معارضة من أدباء ومثقفين، حتى خُيّلَ إليّ أن الجميع أصبح أعلم وأكثر تبحرًا بتاريخ العرب قبل الإسلام من صاحب أكبر وأهم موسوعة عن العرب قبل الإسلام‭.‬

القارئ لمدونات المؤرخين والرحالة الإغريق والرومان، سيجد كَمًّا هائلاً من الإشارات والتأكيدات على انتشار العرب في كامل منطقة الهلال الخصيب الكبرى (العراق وبلاد الشام ومساحات شاسعة من تركيا اليوم)، ابتداءً من أبي التاريخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، إن لم يكن قبل ذلك، تلك الإشارات عن وجود عرب في المنطقة ملوك وأمراء وشيوخ وفرسان وجيوش، ولو تأملنا قول سترابو (ولد 64 قبل الميلاد) وهو يتحدث عن وجود العرب في حدياب (أربيل) وامتدادًا للجبال أي جبال زاغروس؛ وحدياب هي مملكة آرامية يهودية، يُشكل الآراميون والعرب سكانها، أي أننا في منطقة تقع شمال العراق وشمال شرقه وبعيدًا عن نهر دجلة‭.‬

أما العلامة صالح أحمد العلي، فيثبت حقيقة أرجو أن تكون ماثلة لكل عنصري وطائفي، عربيًّا كان أم غير عربي، وهي أن نصف ملوك مملكة ميسان كانوا من العرب والنّصف الآخر من الآراميين والفرس، وهو ما يعني أننا أمام تنوّع واضح على الرغم من التفوق العربي في هذه المملكة التي كانت تضمّ مناطق أقصى الجنوب والجنوب الشرقي من العراق الحالي وحتى العمق الإيراني، ومملكة (ميسان ميشان) أحد الأدلة ليس على عراقة العرب في مناطق شرق دجلة بل على تفوق العرب وتنوع العراق، وهو ما نراه واضحًا في مملكتي الحضر والحيرة‭.‬ والسؤال الذي قادني إلى ما أؤمن به الآن من أن العراق مهد العروبة، هو: ألم يكن هيرودوت محقًّا حين أطلق على الملك العراقي سنحاريب “ملك العرب والآشوريين” مقدمًا العرب على الآشوريين، وهو ما يعني على الأقل في زمن أبي التاريخ (القرن الخامس قبل الميلاد) كان العرب يشكلون غالبية هذا الوطن المبتلى بتطرفِ شريحة من مثقفيه وجهلها بالتاريخ، وهذا التطرف العنصري أو الطائفي، كان ولا يزال سببًا رئيسًا ومهمًّا من أسباب خرابنا العراقي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.