المحطة الأخيرة

الأربعاء 2021/12/01
لوحة: جورج عشي

سينهض ذلك الغريب المحظوظ ويدرك غايته، سيخرج من الهوّة السحيقة والكهوف المظلمة حيث الجبال والأنهار والطبيعة، والتوق نحو عوالم أفضل، عوالم لا توجد فيها إساءات وأناس متعجرفون، سوف يُقدّم قربانه الأخير على قمة المذبح ويصعد نحو الجبل وهو يقول: لا شيء غير الصمت الرهيب، إن مفردات الموت والظلام وحكايات الرعب قد تذكي تعاسته، وتجعله يحمل أكياسا من الكآبة على ظهره، أما حياته، وإن تشابهت الأيام فيها، ليست سواء، فبعضها صاف، وبعضها الآخر يكتنفه الخبث والغموض، ورغم  ذلك، سيظل على الدوام، يغني كالطائر الأخضر أغنياته المفقودة، ويناشد أمكنة أكثر غرابة في دروب مقفرة غير معلومة، وينظم الشعر الملهم والجريء، بريبة ورجاء وخيبة. سوف يولد من جديد، بعيدا عن ضوضاء العالم، بعيدا عن الدناءة والعذاب، والحروب والأوبئة والطغيان.

لا يعرف ماذا يفعل! هل يستسلم للحلم والأصوات البعيدة ويُردد كلمات تلك الأغنية “لأنني كنت أنتظرك، كان الهواء وردة بهية” أم يحشر رأسه بين رجليه وينتظر الشنق عند قدميها، لا شك أن حضورها الباذخ سيدحر كبرياءه مثل ملك مهزوم لم يتعود بعدُ على الجزر النائية، وتلاطم الأمواج في بحار لا يحدّها مدى.. إن عدم معرفة القرار الذي سيتخذ هو أسوأ الآلام. أواه، ماذا يفعل؟ قال لنفسه: من الأفضل ألا أقول شيئا، إن كلماتي سيكون وقعها صعبا على السمع، وأخيراً، قرر بأن أكبر المفاجآت الاكتفاء بالحلم والسعي وراء المستحيل..

كان عليه أن يطلق العنان لروحه ويتركها على سجيتها، ويكشف حقيقة ذاته، في استعداد تام  للخمرة العابقة بالشذى، ويعتاد شيئا فشيئا على ذلك الحلم، ويصبح متعلقا به تماما، فالآلهة تُسيّر الأقدار دون أن تطرح الأسئلة، والأنهار تجري ولا يهمها حقول الأرز الناضج، والفراشات تمضي في فرح، وكذلك الحب لا يكون ممكناً دون فقدان السيطرة والإصغاء لهسهسة الطفل الذي في داخلنا. كان عليه ألا ينسى جملتها المدوخة “سأظل نسمة خريفية باردة في حياتك“، إنه ما زال يشعر بقشعريرة الانفعال، ويفكر في وهج اللحظة والصيحة الحميمة ونوبات الشرود المفاجئة التي تنتابه كلما تخيل جسدها اللدن، هذا غير ممكن، غير حقيقي، إنها معرض للجمال.

حاول طوال الوقت أن يمنع نفسه عن التفكير بأن في هذه اللذة شيئا لا يدرك كنهه، جنون، فراغ، دوار وحشي، وبلا سبب تجاوز الفكرة، تذكر بأن الحياة قصيرة، عليه أن يستفيد في كل دقيقة، لقد أعطى الكثير، ومنحت هي بدورها الكثير، لقد كانت دار سعادة ومهرجانا من الضحك لكل من حولها، وفي المقابل، كان الجميع بمن فيهم العائلة والأصدقاء مصدرا للأنانية المفرطة واللامبالاة والغياب اللامتناهي بمشاغل الحياة. كم سألت، كم أعجزها النغم السوي، كم آوت إلى الظلمة الصامتة وهي تقول لنفسها: إن حبه غير حبهم وأكبر.

بين الآونة والأخرى، يشعر بحلاوة يستحيل تذوقها، لقد جعلته منارة متلألئة بالأنوار، وصفقت بحرارة للماء والنار، وماتت عدة مرات مثل طائر الفنيكس، وكتبت أشعارا بخيوط مهيبة من الضوء، وا أسفاه! أيّ فراغ  وأيّ وحشة في صدرها، دعني أرى في هذا العالم طابع حبك، سأموت، ثم أموت، كي أرى على محيّاك دلائل الحبور، سيقول لها على لسان نيرودا “لما أحببتك يا حبيبتي، أنا في قبلتك أضمّ الكون، الرمل، والزمان، والشجر، والمطر، كل شيء يعيش لأحيا ودون أن أنزح، أبصر كل شيء..” ترى كم مرة، شكا من تلك الهواجس التي يقع في إسارها ولا يملك منها فكاكا، ابقي هكذا، أريد أن أنظر إليكِ، أنت لي، أعطني الأمان، لا يصعب عليّ الأمر، لدينا ليلة، أطفئي نهارك، لا تقلقي، سأعرف ظلامك وأحبه.. لقد طغى عليه حضورها طويلا، لدرجة أنه بين الحين والآخر، ينظر حوله بحثا عن دليل ملموس، يؤكد له أنها كانت هنا، كتابا مفتوحا، قطرة ندى، أسهما نارية، نجمة نائمة، سيموت ألف مرة في انتظار حضورها الفاتن في المحطة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.