المرحلة الحرجة

المراهقة والمراهق في مجتمع الثقافة العربية
الأحد 2018/07/01
لوحة: حسام بلان

ليس في اهتمامات الثقافة العربية المعاصرة بحث سوسيولوجي، أو تأمل فكري، حتى لا نقول تصورات فلسفية تتعلق بصورة المراهق وكينونته في المجتمعات العربية. ولو تجاوزنا إرث الوصايا المتحدرة من التراث الفكري والديني والاجتماعي العربي، نكاد لا نجد كتابا يعتدّ به في المسألة، حتى لا نقول أيضا، مؤلفات تقف على المشكلات والقضايا والظواهر المختلفة المتعلقة بالمراهقين. ولعمري إن هذا الأمر لينطوي على دلالات خطيرة، في مجتمعات تتشكل في أكثريتها من الناشئة والشباب.

في أول الصّبا قرأنا «آلام فرتر» لغوته، وقد شغفنا بتلك الشخصية الرومانسية تألمنا لآلامها، وصدمنا بانتحارها. وعندما قرأنا روبنسون كروزو قرأنا نصا يعتقد أن دانييل ديفو استلهمه من نص «حي بن يقظان» للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل.

ما يؤسف له أن المحاولات العربية المبكرة في تهذيب الناشئة عبر لغة الأدب والفلسفة من خلال رسائل لمؤلفين من أمثال ابن عبد ربه وابن مسكويه والجاحظ وغيرهم تلاشت واختفت في القرون المتأخرة، ولا سيما مع انحطاط اللغة العربية، وبينما كان المراهق الذي يمرّ بأزمات نفسية يعالج في بيمارستانات دمشق والأندلس وبغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية عن طريق الموسيقى، لم تمضِ سوى بضعة قرون حتى بات يجلد ويضرب في العواصم نفسها. فقد عمّت الجهالة واستشرى فساد العقول بفعل ضعف الدولة واستبداد الحكام، وتحوّل الأفراد المتشككون والمتسائلون إلى آحاد غاضبين في قطيع مستسلم. فكيف لشخصية المراهق أن تكون، وكيف لصورته أن تتأسس في ظل طغيان الحاكم، واستسلام الرعية لأهواء فرد مطلق الصلاحيات في الأوامر والنواهي وله صورة لا تدانيها صورة أخرى سوى صورة الخالق.

ولعل أسوأ العصور التي مرّت بها المجتمعات العربية هي عصور أمراء الطوائف في الأندلس، والأتابكة والعثمانيين في المشرق. هناك على الأرجح تشوّشت كل الصور في المجتمع؛ فغابت المرأة في الحريم، والصبيان في التأدب بأدب الخضوع، والشباب في التدرب على السلاح للموت دفاعا عن السلطان والأمة.

***

مما لا شك فيه أن الأدب والفن يبقيان الأسبق إلى ملامسة انفعالات النفس الإنسانية وصولا إلى ظلالها، ومن ذلك العالم الظليل للمراهق، ودنيا المراهقة المفعمة بالانفعالات، ولكن هل يمكن للأدب أو الفن أن يحلا محل العلم، أو أن يأخذا دور البحث النفسي والاجتماعي، في استكشاف هذا الكائن المجهول الذي نسميه المراهق، وتلك القارّة غير المكتشفة التي نسميها المراهقة.

***

على مدار أكثر من قرن، خاضت الثقافة العربية حروبها المقدسة على رقعة احتلتها الأيديولوجيات، وميزها صراع بين النخب الحاكمة والنخب المتطلعة إلى الحكم، في ظل كيانات استولدت من رحم آخر الإمبراطوريات الشرقية المتهالكة (الإمبراطورية العثمانية)، وانشغلت بتأسيس مقوماتها الوطنية والقومية متسلحة بخطابات لحظت الجموع، وعميت أو تعامت عن الأفراد، وشكلت الأناشيد الوطنية التي صاغها الآباء المؤسسون للوطنيات العربية بلغتها الحماسية، وصدحت بها حناجر الأفراد الغافلين عن ذواتهم المفردة، أقصى ما يمكن أن تقدمه الصيغة المجتمعية، في معركة البناء والتحرير. فكان الفرد أبا لعائلة، وأمّا لأبناء وبنات، وأبناء لأب وأمّ. وهؤلاء مجتمعين، أسرة في مجتمع مؤلف من جموع منذورة كلها للتضحية بذواتها، لأجل العائلة الذائبة بدورها في معركة بناء الدولة (والواقع حماية السلطة)، ومواجهة الآخر/ الاستعمار غالبا، و(لكن لفظيا وليس عمليا، ومن دون أيّ ترجمة فعلية للشعارات الحماسية المتغطرسة أيديولوجيا).

***

 في حمأة تفشي الخطاب الأيديولوجي في صفوف الشباب على حساب الخطاب الاجتماعي، وغلبة الصوت الجماعي على أصوات الأفراد، وحقوق الجماعة على حقوق الفرد، في ظل استقطابات إقليمية وعالمية (قبل وأثناء وبعد حربين عالميتين طحنتا مئة مليون من البشر أو نحو ذلك، وحرب عالمية باردة)، كرست الأيديولوجيات المهيمنة والمتصارعة من اشتراكية وفاشية قومية وأممية خطاباتها الماحقة في صفوف النخب العربية المثقفة كلها، وباءت محاولات العقلانيين العرب أنصار المجتمع المدني ودولة القانون والحقوق الفردية بالفشل الذريع.

الغرب سوف يتمكن غداة الحرب الثانية من تجاوز الجنون الأيديولوجي والنهوض بمجتمعاته بفعل إرث تنويري عظيم وخطابات مجتمعية عقلانية انتصرت لمطالب الأفراد، وشرعنت لهم حقوقا في ظل دولة المواطنة. فالأفكار التنويرية التي ظهرت بدءا من القرن الثامن عشر في أوروبا بعلاماتها الكبرى كـ»روح الشرائع» لمونتسكيو و»رسائل فلسفية» لفولتير، و»العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو ظلت شعلتها متأججة، ولم تتمكن الحروب من طمس تأثيرها ومحو آثارها في التفكير الأوروبي.

لوحة: محمد خياطة
لوحة: محمد خياطة

ويمكن الإشارة هنا، أيضا، إلى الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل وكتابه «في التربية» بوصفه أثرا لعب دوراً في بلورة أفكار المجتمع نحو تلك المرحلة الحرجة في حياة الناشئة.

مما يؤسف له أننا لا نجد في الثقافة العربية الحديثة كتابا في التربية ككتاب روسو «إميل أو عن التربية»، والذي وضع ليؤسس لوعي جديد في التعامل مع الناشئة من الطفولة إلى سن الـ25. إن أهمّ ما في هذا الكتاب أنه بمثابة خارطة طريق للتعامل مع الشخصية المراهقة في إطار اجتماعي خلاق تخفّف من أبويته وأنصت للأرواح الجديدة. في هذا الكتاب يركز المفكر الفرنسي على أهمية أن يساعد المجتمع الناشئة بطرق غير مباشرة على بلورة شخصيات مستقلة.

يقول روسو «اتبعوا مع الناشئة طرقا مختلفة، بل ومعاكسة لطرائقكم، وهي أن تجعلوا المراهق يشعر بأنه حرّ في اختياره، في ما يرغب أن يتعلم وفي ما يميل إليه وفي ما يؤثر من أشياء. وبمعنى أدق: دعوه يشعر أنه هو من اختار».

بخلاف ذلك نجد أن المراهق في المجتمعات العربية، وحتى وقت قريب لم يكن يستطيع حتى أن يحلم بشيء من هذا، وهو في ظل علاقة بين الآباء والأبناء يسودها غالبا سوء الفهم، لا بد في النهاية أن يخضع الأبناء، ولو بطرائق غير مباشرة، إلى ما يريد لهم مجتمع الأهل أن يكونوا.

***

في ظل علاقات غير سوية بين المجتمع والمراهقين يمكن لمراهق أن يتحوّل إلى شخص منبوذ من الجماعة في الفترات العصيبة من مراهقته، وغالبا ما يتسبب له ذلك بآلام نفسية تجعل منه شخصا عصابيا، متمردا بصورة سلبية، عدوانيا، ومدمرا للذات. أو شخصا انطوائيا، وحزينا ضعيف الشخصية، بلا مبادرة، وخائفا على الدوام من أمر ما يجهله، ومحبطا أمام التحديات والأقران.

بل إن كلمة مراهق، ومصطلح مراهقة يحملان غالبا معنى سلبيا، في الثقافة العربية، وهذا شيء شائن، خصوصا إذا ما اعتبرنا مرحلة المراهقة ممرّا قدريا تعيشه الشخصية يشبه إلى حد كبير عبور طائرة منطقة اضطراب جويّ مفعم بالمطبات الخطرة. وهي مرحلة في تطوّر الشخصية تشكل، بالضرورة، فرصة تتسلح خلالها بخبرات جديدة تؤسس لمستقبل الفرد في علاقته بنفسه وعلاقته بالعالم.

يبقى أخيرا أن نشير إلى أن المراهقة جوهر وكينونة وليست مجرّد مرحلة، صحيح أن الأشخاص سيعرفون مرحلة تسمى المراهقة، لكن طبيعة المراهق مشفوعة على الدوام بعصف من الأحلام والأفكار والحواس والمشاعر والميول والرغبات والنزعات والتعبيرات الفائضة بالصخب النفسي والروحي، وهي على جانب من الرهافة القصوى، حالة من التطرف في كل شيء تعصف بالشخصية، حتى لتكاد تطير بها عن سطح الأرض، وتجعل من كائنها شخصا هائما في فلك ذاته. ولكن أليس كل هذا أو بعضه عوارض وسمات جوهرية في شخصية الشاعر والفنان؟

أفلا يفرض هذا علينا إعادة النظر في فهمنا لحالة المراهقة، لنعيد استكشافها بوصفها خصالا وتعبيرات عن شيء آخر غير ذاك الذي نسميه حماقة المراهقين.

خواطر وأفكار وتساؤلات لا أملك بصددها يقينا، أبديها وليس في خاطري سوى المزيد من الاسئلة.

لندن في يوليو/ تموز 2018

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.