النازي المُحترَم

الثلاثاء 2022/11/01

كيف يمكن التعامل مع كارل شميت (Carl Schmitt) ذي “السمعة المشؤومة” [1] وفق عبارة إيتيان باليبار (Etienne Balibar)؟ أو ماذا نفعل بكارل شميت؟ [2] وفق عنوان كتاب جون فرونسوا كيرفيغان (Jean-François Kervégan)؟ هل علينا إلغاء علمه اللاّمع ومحاكمة فكره بوصفه تعبيرا عن الروح النازية التي انتمى إليها فترة قصيرة بين 1933 إلى حدود 1936 كما ذهب إلى ذلك التيار اليميني ذو الخلفيّة الصهيونيّة، أم علينا اعتبار أن انتماءه للنازيّة قوس مشين لا بدّ من غلقه للاستفادة من علمه الوفير والمستجدّ كما تذهب إلى ذلك التيارات الفكريّة غير اليمينيّة؟

هل يمكن  لكاتب فذّ ذي “السمعة المشؤومة” أن يكون محلّ احترام؟ ذلك هو السّؤال الذي لم يقدر دارسوه، في مشارق الأرض مغاربها، تفاديه أو تجاهله، وذلك ما دفع مواطنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)  إلى القول إنّه “إلى اليوم مازال كارل شميت يفرّق العقول”. حقّا ولئن اختص كارل شميت في الدراسات القانونيّة التي تمثّل مجاله الأوّل فإنّ تخصّصه لم يمنعه من التجديد ضمن أعماله الغزيرة التي وطئت مجالات عديدة: فمن تاريخ الأفكار إلى النظريّة السّياسيّة ومن اللاّهوت إلى الميتافيزيقا… إلخ. تلك مجالات فكريّة، على ترامي أطرافها، فإنّه ما فتئ يحتلّ فيها موقعا فكريّا مميّزا. وعلى شساعة المواضيع الفكرية التي ساهم فيها، لم يكن كارل شميت مجرّد فاصل يُضاف إليها وإنّما هو المرجع الذي استمرّ في إثارة حيرة العقول التي جادلته.

لم يكن انتماء كارل شميت، المفكّر الفذّ وأحد أهم ألمع العقول الألمان في القرن العشرين، إلى الحزب النازي حدثا أملته الصّدفة أو كان تعبيرا عن الوصوليّة والانتهازية التي تنتاب المفكّر عموما عندما تستهويه السّلطة لهشاشته وضعفه أمامها وإنّما التقاها فكرا قبل حتى صعود هتلر إلى رأس السّلطة النازيّة في ألمانيا ما قبل الحرب العالميّة الثّانية. إنّ لقاء شميت بالنّازيّة هو من جنس القدر الذي حكم ألمانيا ما بعد الحرب العالميّة الأولى. يمكن القول، بضرب من الغلوّ المبرّر، أنّه كان نازيّا قبل أن يولَد. فالنازيّة ليست مجرّد حزب اعتلى السّلطة في ألمانيا سنة 1933 بفضل قدرته على ممارسة العنف وقدرته على اختيار اللّحظة المناسبة للاستيلاء على الحكم وفق وصفات مكيافيليّة. لقد كانت النازيّة الابنة الرّبيبة للفكر الألماني الحديث وسليلة تيار ذهني سائد يستمدّ جذوره من التّقاليد الحربيّة الألمانيّة التي قدّستها الإمبراطوريّة الجرمانيّة المقدّسة التي سيطرت على أوروبا وداستها هيمنة طوال قرون العصور الوسطى إلى حدود القرن الثامن عشر. كما ليس هتلر تلك الشخصيّة المصابة بجنون العظمة أو ذاك الذي دفعه هوسه بالسلطة، التي اعتلاها عبر المآمرات والاغتيال، إلى الهيمنة على العالم، بقوّة السّلاح والعنف المفتوح، قبل سقوطه المدوّي. ليس هتلر، ومن ورائه النازيّة، إلاّ الألماني الذي أراد تحقيق الرّؤى الأخرويّة لشقّ سائد من الرّوح الألمانيّة. كما ليس هتلر سوى الألماني الوفيّ، حدّ الهوس، للمزاج الحربي الألماني الذي تشكّل وتطوّر عبر قرون هيمنة الإمبراطوريّة الجرمانيّة المقدّسة واستعاده تيّار مميّز للفكر الألماني الحديث في شكل خلفيّة أخلاقيّة مؤَسّسة. والمحصّلة أن هتلر لم يكن دونكيشوتيّا دفعته خيالاته المجدّفة إلى الهيمنة على العالم بمفرده.

بدوره، لم يكن كارل شميت الذي انتمى علنا إلى الحزب النازي بين 1933 و1936 سوى ابن عصره وتعبيرا عن عصارة الشّق المميّز للفكر الألماني الذي تشكّل ضمن الأفق الأخلاقي الذي يقدّس الروح الحربيّة. ولئن كانت بعض أعماله التي صاغها فترة انتمائه إلى الحزب النازي المعروف بالحزب “القومي الاشتراكي” تطفح مواقف معادية للسّاميّة وتؤكّد على ضرورة حفظ العرق الألماني وتفوّقه على الأعراق الأخرى… إلخ، فإنّها لا تختلف من حيث روحها عن الأعمال السّابقة إلاّ لأنّها تتبنّى صراحة الطرح الأيديولوجي النّازي. فالأعمال التي ألّفها والتي صنعت مجده الفكري قبل ظهور النازيّة بعقود تدور مجملها حول أطروحات أقلّ ما يقال عنها إنّها مجدّدة وإن كانت صادمة لبعض التقاليد الفكريّة الرائجة في بعض الأوساط الأكاديميّة القانونيّة والسّياسيّة بالأخص.

وكما أثارت مسيرة كارل شميت الفكريّة الفضول والحيرة وأحيانا الفضيحة لدى أعدائه في مختلف الأطر الفكرية السّياسي منها والقانوني والفلسفي، فإنّ مثوله أمام محكمة نورمبرغ الشّهيرة الخاصة بمجرمي الحرب النّازيّة هي التي تضفي أكثر أشكال الحيرة. محاكمة وُضعت من أجل “محاسبة” أفكاره التي رأى فيها القاضي بأنّها تنظير لجرائم الناّزيّة فإذا بها تتحوّل بعد تبرئته إلى تدعيم لفكره. قد يكون ذلك ما دفعه إلى عدم التّراجع عن أطروحاته التي صاغها بتعمّق بداية من سنوات 1920 وأثناء انتمائه إلى الحزب النازي القومي الاشتراكي سنة 1933 وانسحب منه سنة 1936 لأنّه لم يكن نازيّا كفاية كما ذهب إلى ذلك زعماء النّازيّة ومنظروها آنذاك.

لوحة

ربّما كانت أكثر الأسئلة إحراجا لأهم مبادئ الفكر الليبرالي والديمقراطي آنذاك: هل محاكمة المفكّر ممكنة ومشروعة ضمن أفق فكري يعتبر أن حرّية الرّأي حقّ أساسي من حقوق الإنسان؟ لقد طرح هذا الإحراج قضيّة لم تكن معهودة بعد رسوخ الفكر الليبرالي في الغرب وهي ما عُرف بـ”المسؤوليّة القانونيّة للمفكّر”.

مثُل كارل شميت أمام محكمة نورمبرغ التي أنشأت سنة 1945 ضد زعماء النّازيّة في إطار اتّفاقيات لندن من نفس السّنة التي جرت بين القوى المنتصرة في الحرب وذلك إرساء لمبدأ قانوني لمحاكمة “جرائم الحرب ضدّ الإنسانيّة”. بعد أن قضى شميت أكثر من سنة محبوسا في مخيّم اعتقال أميركي ببرلين بعد احتلالها أُخلي سبيله لكي تقبض عليه القوات الأميركيّة من جديد ويُقدّم للمحاكمة سنة 1947. يقوم الاتهام الأساسي الذي أقامه ضدّه القاضي الأميركي روبار كمبنار (Robert Kempner)، الفارّ من ألمانيا النازيّة بعد انتزاع جنسيته الألمانيّة بسبب أصوله اليهوديّة، وهو القاضي الوحيد ذو الأصول الألمانيّة في محكمة نورمبرغ،  بأنّ كارل شميت قد وضع “الأسس النظريّة لجرائم النّازيّة”. ولئن اعترف كارل شميت بالوقائع الفظيعة التي ارتكبتها النازيّة، فإنّه أنكر التهمة الموَجَّهة إليه والتي لم تصمد بفعل ضعفها وتهافتها. ولم تتوقّف تبرئته على قدرته في الدّفاع عن نفسه بوصفه خبيرا راسخا ضمن العلوم القانونيّة والحقوقيّة ومفكّرا متمكّنا من المجادلة وإنّما كذلك لأن النّظام القانوني الجزائي يقوم على حسم قرار التهم بناء على وقائع ملموسة قابلة للإثبات. منطقيّا وواقعيّا، لا يمكن إثبات الترابط الضروري والمُثبَت بأن هذه الفكرة أو تلك، كائنة ما كانت خطورتها، قد نجمت عنها ممارسة إجراميّة. وبقطع النظر عن استحالة تحديد عمّن يحقّ له تقويم “خطورة” الفكرة ومعايير تحديد “جرمها” وتبعاتها الجزائيّة دون السّقوط في مطبّ استعادة محاكمة سقراط واضطهاد المفكّر، فإنّ الأعسر هو إثبات الترابط بين الفكر والممارسة. ومن طرائف هذه المحاكمة أنّ كارل شميت قد تحوّل إلى محاضر أمام القاضي يذكّر بضرورة التمييز قانونيّا بين الأقوال والأفعال وبأنّه مفكّر ورجل علم وليس أيديولوجيّا، وختم بأنّ النّظر في علاقة النظرية بالممارسة قضيّة فلسفيّة وميتافيزيقيّة شاقّة وعويصة لم يكن ممكنا لأيّ مفكّر أو فيلسوف أن يحسمها [3]. يختم كارل شميت دفاعه أمام القاضي بأنّ ما قام به ليس سوى من قبيل فعل “مفكّر مغامر” وذلك تأكيدا على أن الفكر، كانئا ما كان، يتحرّك على حوافّ الخطر دون أن يتماهى معه.

بعد خروجه منتصرا إثر تبرئته من محاكمة نورمبرغ، اعتبر كارل شميت أن هذه المحاكمة انتصارا إلى أحد أهم أطروحاته وهي أنها محكمة المنتصر وليست محكمة الشرعيّة لأن العدل يرسيه المنتصر بما يؤكّد، ضدّ النزعة الوضعيّة للحق التي يتزعّمها هانس كلسن، بأنّ الحقّ مرتبط بالسّلطان وبالتالي مرتبط بالسياسة. ذلك ما يدفعنا إلى العودة إلى أهم أطروحاته لبيان أن نازيته ليس أمرا مستجدّا على فكره.

تستند الأطروحة آنفة الذكر المنظومة الفكريّة التي صاغها توماس هوبس ضمن كتابه الشّهير اللوفياتان (Leviathan) وفق قراءة مميّزة أنجزها كارل شميت ضمن كتابه “اللّوفياتان ضمن نظرية توماس هوبس للدّولة، دلالة رمز سياسي وفشله”. يرى شميت أنّ هوبس هو المنظّر الأوّل لإحدى أهم أطروحاته المعروفة بالقراريّة. تستند هذه الأطروحة على صيغة شهيرة وفَضَّة وغاية في الاختصار صاغها سنة 1922 في مفتتح كتابه اللاّهوت السّياسي (الأوّل)، مفادها “أنّ صاحب السّيادة هو ذاك الذي يقرّر في حالة الاستثناء”. وهو في ذلك يستند إلى أطروحة هوبس الشهيرة التي تعتبر أن “السّلطة وليست الحقيقة هي التي تصنع القانون” [4]. هذا السّند النّظري هو الذي وفّر الأرضيّة إلى كارل شميت لكي يدحض الشّكلانيّة القانونيّة، المؤسّسة للفكر الليبرالي، والتي تزعّمها هانس كلسن والتي مفادها أن القرار السّياسي لا يرتبط بشخص الحاكم وإنّما بمنظومة قانونيّة مجرّدة ومتحرّرة من كلّ تأثير أيديولوجي مهما كان مأتاه، ديني أو سياسي أو أخلاقي… إلخ. تقوم معارضة كارل شميت للطرح المعياري الوضعي للحقوق على اعتبار أن الفصل بين القانوني والسّياسي لا معنى له. ليس الحقّ منظومة قوانين تسبح في فضاء حرّ ومحايد بل هي مرتبطة على نحو معقّد بمجال السّياسة في تحوّلاتها. على خلاف ذلك، سيؤكّد كارل شميت أنّ السّيادة لا تتجلّى إلاّ في اتخاذ القرار وذلك معنى أطروحة القراريّة الشّهيرة. ليست لهذه الأطروحة من قيمة إلاّ من جهة تأكيدها على الطّابع العملي للسياسة أو ما يسمّيه بـ”النظام الملموس”. كما تتجلّى بوضوح في معارضته للتوجّه اللّيبرالي.

لكن تصوّر شميت للفكر السّياسي لا يكتمل إلاّ بأطروحته الصّادمة للسّياسة التي يعرّفها بأنّها تبنى على ثنائيّة الصّديق والعدوّ. يصدم هذا التعريف قرّاءه سواء كانوا من مريديه أو أعدائه لأنّه يعيد النّظر كليّا في إحدى أهم مسلّمات الفكر اللّيبرالي الحديث الذي يطابق بين السياسة والسّلم وبالتالي بين السّياسة والصّداقة كما عيّنها المفكّر الفرنسي جاك دريدا. ويردّ على منتقديه بأنّه بصدد شحذ مفهوم نظري يتوافق مع السّياسي في بعده الملموس. فإذا كانت المعاينة السوسيولوجيّة تثبت أن العلاقات بين الأفراد داخل الجسم السّياسي الواحد قائمة على صراع الأنا مع الآخر و”صراع الكلّ مع الكل” وفق عبارة توماس هوبس التي يتبناها شميت في كلّ تفاصيلها، وإذا كانت العلاقات التي تربط بين الدّول قائمة على توازن القوى المنبثق عن الصّراع، فإنّ “حالة الطبيعة”، والصيغة كذلك لهوبس، أي حالة الصّراع هي التي تحدّد مجال السّياسة. وباختصار، فإنّ السّياسة هي حالة التّوازن المترتّبة عن صراع القوى، وهي حالة هشّة ومهدَّدة باستمرار ولا استمرار لها بذاتها خارج قرار صاحب السّيادة ودون شحذها بالحرب ونزعة الهيمنة. على هذا النّحو، يبدو توجّه الفكر الليبرالي، من أسسه إلى تبعاته، مبنيّا على “خرافة” وفق توصيفه. لا يُحدث كارل شميت الصّدمة في قرّائه من جهة ميله إلى كشف المفارقات ومراجعة التصوّرات السّائدة في الفكر القانوني والحقوقي والسّياسي فحسب، وإنّما يصدمهم كذلك بصيغه ذات التّرتيبات اللّغويّة المختصرة والتي تصيب الفكر بالإعجاب الممزوج بالحيرة بحيث لا يمكنه أن يتبنّاها لكن من الصّعب أن يتجاهلها. تلك صفة ملازمة لفكره الذي لا يقدر حتى ألدّ أعداءه على التّنكّر له.

لوحة: أحمد الشهاوي
لوحة: أحمد الشهاوي

إنّ ما يثير الحيرة حقّا لدى كارل شميت في كونه لا يعارض مبادئ التصوّر الليبرالي فحسب بل إنّه يكشف عن مفارقاته وتناقضاته من الدّاخل. تستند حجّة معارضيه على أنّه يهيّئ الأرضيّة إلى “الدكتاتوريّة” وهو أحد عناوين كتبه أو “الكليانيّة” كما دأب القاموس السّياسي المعاصر، منذ أعمال الفيلسوفة الألمانيّة الأميركيّة حنّا آرندت (Hannah Arendt) على تسمية كل المواقف المناهضة للديمقراطيّة. غير أنّه يذهب، عبر برهنة صادمة، إلى أن الليبراليّة لا تستوفي الرّوح الديمقراطيّة بل إنّها تغتالها لأنّها تغلّب حقوق الفرد على حساب الدّولة. والحجّة الأساسيّة التي يعتمدها تستحضر كلّ تصوّراته السّياسيّة السابقة على مرحلة النازيّة واللاّحقة عليها. فهو يثبت من جهة أنّ الممارسة السّياسيّة الملموسة للدّولة اللّيبراليّة تقوم على قرارات لصاحب السّيادة لا تلتزم ضرورة بمنظومة القوانين في بعدها الشّكلاني والمجرّد من ذلك مثلا قرارات الحرب أو القرارات الاستثنائيّة في الأزمات الاقتصاديّة أو التهديدات الدّاخليّة… إلخ. في هذا المستوى يدهشنا كارل شميت إذ يدفعنا إلى التفطّن إلى أن الممارسة السّياسيّة الليبراليّة تحكمها نزعة قراريّة أساسا.

من جهة ثانية، وفي سياق نقده للمنزع القانوني الوضعي، يعتبر أن الحق لا يُفهم إلاّ في سياق ربطه بالسّياسي وأّنه بذلك يعكس التوجهات السّياسيّة “للنّظام الملموس”. فالنّظام اللّيبرالي وإن بدا في بعده الحقوقي مسنودا إلى منظومة قانونيّة مجرّدة إلاّ أنّه يعبّر عن جملة المصالح القائمة ويثبت أنّ استقلاليته موهومة. ذلك ما جعل عديد منتسبي التيّارات اليساريّة أن تلتقي معه وتتبنّى أطروحته المعادية للّيبراليّة رغم النّزعة المحافظة والمعادية للرّوح الثوريّة المميّزة لفكره.

وأخيرا، لئن بدا تعريف السّياسة، بأنّها قائمة على التمييز بين العدوّ والصّديق، صادما فإنّ من مزاياها بيان أن السّياسة تتحرّك وفق توازن القوى وليس الأنظمة الليبراليّة استثناء في هذا المجال. على هذا النّحو، ليست السّياسة ممارسة لطيفة يمتهنها رجال طيّبون وإنّما هي فعل يروم خلق ضرب من التوازن بين قوى متصارعة دوما من أجل الهيمنة. وبما هي كذلك فإنّها مشروطة بوجود العدوّ الذي لا بدّ أن يُخلق خلقا حتى في صورة غيابه. ألم يرفع أحد السّاسة الأميركيين هذا الشّعار والحال أن أميركا هي زعيمة الليبراليّة و”العالم الحرّ”؟

والمحصّلة التي يمكن أن ننتهي إليها هي أنّ أطروحات كارل شميت وإن بدت للبعض بأنّها مغرقة في نازيتها أو أنّها هيأت لها وبرّرتها نظريّا فإنّ أغلبها قد تبلور وتشكّل قبل ظهور النازيّة بعقود أيّ منذ بدايات القرن العشرين. كما أن شميت لم يتراجع عن روح أفكاره بعد 1945، أي بعد هزيمة ألمانيا النازيّة واستسلامها. ولئن بدا ربط تفكيره بمراجع فكريّة سابقة عليه، سواء في الفكر الألماني أو غيره، مشينا أو تبسيطيّا؛ فإنّ من الوجيه التّأكيد على أنّ أطروحاته المتعلّقة بالحرب وبالصّراع بما هو عنصر محدّد وحيوي في السّياسة كما في حياة الشّعوب ليس مستجدّة سواء في الفكر أو في التاريخ. من المؤكّد أن المزاج الحربي ليس غريبا عن الرّوح الألمانيّة التي ورثته من تاريخ الإمبراطوريّة الجرمانيّة المقدّسة كما أسلفنا ذكره. لكن علينا أن نضيف أن المزاج الحربي، المميّز لشقّ من الرّوح الألمانيّة، قد تخلّى عن طابعه الفظ القديم لكي يتلفّع بنزعة أخلاقيّة تشيد بقيم الشّجاعة والإقدام والتضحية بالنفس من أجل الوطن والتّرفّع عن المآرب المادّية… إلخ. ومن منظور فكري، فقد سبق لهيغل، فيلسوف ألمانيا الكبير، أن تغنّى بأهميّة الحرب في حياة الشّعوب وقدرتها على صنع التّاريخ. كما سبقه مواطنه الفيلسوف فيخته (Fichte) الذي تغنّي بالأمّة الألمانية في خطاب شهير كان بمثابة دعوة إلى إحياء الرّوح القتاليّة لتوحيد ألمانيا واسترجاع أمجدها.

في النهاية، ولئن كانت فظاعات الممارسات النازيّة شنيعة، فإنّها لم تخطئ منطق الحرب، التي لم تكن على مدى التاريخ ممارسة ناعمة. وربّما الأهم، هو أنّ المزاج الحربي ليس دخيلا على المزاج الألماني.

[1] Carl Schmitt, Le Léviathan dans la doctrine de l’Etat de Thomas Hobbes, sens et échec d’un symbole politique, Seuil 2002, Introduction, p, 7.

[2] Jean-François Kervégan, Que faire de Carl Schmitt?, Gallimard, 2011.  

[3] لمزيد الاطّلاع على الأسس القانونيّة والتشريعيّة التي استندت إليها محكمة نورمبرغ منذ 1945، يمكن العودة الى المقال المتميّز : Céline Jouin, Carl Schmitt à Nuremberg. Une théorie en accusation, Genèses 2009/1 (n° 74) p. 46-73.

[4] Thomas Hobbes, Leviathan, chap. 26.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.