الهوية والتاريخ ووعي البدايات

تجربة جرجي زيدان
الجمعة 2022/07/01

عرفت الإرهاصات الروائية العربية الأولى رغبة ظاهرة في المزاوجة بين مأربي الترويح والتلقين، برغم ما قد يبدو من تعارض المقصدين وتباعدهما، حيث مثّلت خطوات استلهام السرد التراثي، بأنواعه المختلفة، من مقامات وسير شعبية وقصص شطار وحكايات بطولية… في نصوص تأسيسية كـ”مجمع البحرين” لإبراهيم اليازجي، و”الساق على الساق” لأحمد فارس الشدياق، و”حديث عيسى بن هشام” لمحمد المويلحي، قاعدة مرجعية لاستحداث جنس تعبيري جديد بوظائف تحديثية ونهضوية، في الآن ذاته الذي يتراسل فيه مع وظائف الحكي القديم في الإفادة والترويح.

مما يسترعي انتباه مؤرخ السرد العربي الحديث أنه حتى النصوص الروائية التي لم تسع إلى إعادة إنتاج الأنواع السردية التقليدية، من مثل أعمال فرنسيس المراش وفرح أنطوان ومحمد حسين هيكل وسليم بطرس البستاني ومعروف الأرنؤوط وجرجي زيدان وغيرهم كثير، لم تزغ عن هدف المواءمة المتّزنة بين الترفيه وبناء الوعي وتلقين المعارف، على نحو بارز للعيان، بحيث كانت المعلومة التاريخية والعلمية والدينية، والعبرة الأخلاقية، والرسالة التربوية، تطفو على سطح المبنى السردي البسيط، المتوسّل بحبكة غرامية أو بطولية مرتجلة، لإجراء موعظة أو تلقين درس، على نحو قريب من مباني القصص الشعبي المأثور، القائم على تقاطب نسقي متكرر بين ثنائيات الخير والشر والفقر والغنى والكفر والإيمان.

ويبدو أنها السمة الجوهرية الرئيسة التي جعلت البدايات التأسيسية للرواية العربية لا تشذّ على منطق الأصل السردي العربي، في تضمين المعرفة ضمن نسق خطابي هامشي، مقرون بمجالس الأطفال والنساء، على حد تعبير أبي حيان التوحيدي الشهير [1]؛ لهذا وسمت التجارب الروائية الأولى، التي شرعت في الظهور أواخر القرن التاسع عشر، تارة بـ”الرواية الترفيهية”، وتارة بـ”الرواية التعليمية”، وتارة أخرى بـ”الرواية الإيقاظية” [2]، وبقي التداول النصوصي لهذه العينة من التصانيف الأدبية، محصورا في طائفة من المتلقين ممن يوصفون بالعوام، ولا يشكّلون نخبة قراء الأدب والفكر والمعارف المتنوعة. والظاهر أنه السبب الراجح الذي جعل تلك البدايات الروائية العربية تتجلى بوصفها “خطابا ناقلا” لا يقصد لذاته، وإنما لما يحمله من “فوائد” تلقينية وترفيهية؛ مثلما صرح عدد كبير من رواده، من مثل فرح أنطون (1874 – 1922)،  الذي يقول في تقديم روايته المعنونة بـ”المدن الثلاث”.

“وقد سميناه رواية على سبيل التساهل، لأنه عبارة عن بحث فلسفي اجتماعي في علائق المال والعلم والدين. وهو ما يسمّونه بأوروبا بالمسألة الاجتماعية، وهي عندهم في المنزلة الأولى من الأهمية” [3].

ويعلّق فيصل دراج على هذا النص بقوله “فالرواية، إذن ليست برواية، بل هي غلاف لكتابة أخرى تتعامل مع المسألة الاجتماعية التي تجعل الرواية ممكنة وقابلة للاستمرار” [4]؛ وبعبير آخر فهي تتحول إلى تشكل سردي محايد، لا يجتبي قيمة أدبية بذاتها، وإنما بالنظر إلى ما يستهدف من غايات معرفية قد تتصل بالتاريخ أو العقيدة أو اللغة، وما يتصل بها من تفريعات ومضامين، تبرّر اللجوء إلى آليات التشويق والتخييل والسرد والوصف والبناء الدارمي، والحبكات العاطفية والبطولية المختلفة، التي تتحول بالتدريج إلى روابط شكلية لوقائع منقولة. وهي السمة التي بلغت أوجها  مع الروائي والمؤرخ والصحفي النهضوي جرجي زيدان (1861 – 1914).

التاريخ وأسئلة النهضة

ولقد اقترنت النهضة في وعي الرعيل المؤسس للفكر والأدب الحديثين، في المنطقة العربية مطلع القرن الماضي، بمحورية درس التاريخ، سواء بما هو وقائع ومضامين، أو بوصفه مجموعة من المصادر والمرجعيات، أو باعتباره خطابا حول الماضي والذاكرة. لهذا نجد جرجي زيدان لا يكتفي بالتأليف في هذا العلم انطلاقا من هدف تأريخي استعادي، بل يقرنه بمفاهيم التمدن والآداب، وجماليات التعبير، وهو ما يمكن الوقوف عليه بوضوح في مقطع بالغ الأهمية من كتاب “تاريخ آداب اللغة العربية”، حيث يتحدث جرجي زيدان عن وضعية علم التاريخ، في زمن النهضة، والعلل الذي ركبت خطابه ومنهجه، قائلا “ظل علم التاريخ في معظم القرن الماضي نحو ما كان عليه قبله، من حيث أسلوبه وكيفية التأليف فيه، إلا ما نقل عن اللغات الإفرنجية في أول هذه النهضة؛… ثم أخذ أصحاب هذه النهضة يؤلفون من عند أنفسهم، لكن أكثرهم كانوا ينقلون أو يجمعون أو يلخصون بلا نقد أو استنتاج إلا نادرا، ودخل التاريخ في الربع الأخير من القرن الماضي في عصر جديد، ولاسيما لدى المطلعين على أساليب الإفرنج في تدوين تواريخهم، فمالوا إلى التنسيق والترتيب والتبويب، وأخذوا ينشرون المقالات التاريخية الانتقادية في المجلات، ثم عمدوا إلى تأليف الكتب بعد البحث والتحقيق والانتقاد بما يقتضيه ذلك من فلسفة التاريخ” [5].

ولا يعزب عن النظر تفطن الكاتب في هذا الافتراض إلى جوهرية اقتران مفهوم التاريخ بوعي نقدي، يهمّ صلب الكتابة ذاتها، بحيث تنهض على تجاوز قواعد التصنيف التاريخي السابق أو القديم، باعتماد كتابة ذات عمق منهجي قائم على تحقيق الوقائع، ومراجعة الأسانيد، ونقد المصادر؛ ثم تخطي أساليب الكتابة التاريخية القديمة في مصنفات الأخبار والتراجم، وسير الأنبياء والأمم والملوك، القائمة على تجميع الوقائع والمآثر، إلى كتابة تاريخية بوعي منهجي جديد، يعيد النظر في الأحكام الناتجة عنها، ويراجع صيغ تمثيل الماضي، وما حفلت به من خطوب وقيم، بحيث تُؤسس لمنطلقات التجاوز المعرفي والثقافي. ومثال هذه الخطوة ما ترجم إلى العربية من كتابات النهضويين الغربيين، أو أن ينصرف الوعي النقدي للدلالة على كشف عوامل “الانحطاط” في ذلك الماضي، بالموازاة مع التأريخ لقيم “التمدن” الأصيلة، الدالة على الهوية والمجد القوميين.

لهذا مثل التاريخ، في وعي جرجي زيدان، مجمل ما يتصل بالأمة ولغتها وثقافتها، من إنتاجات واجتهادات وتحولات مكنتها من الرقي. ولأن الأمة هنا ليست شيئا آخر إلا شعوب الوطن العربي، على امتداد رقعة هذا الوطن، الذي توسع، في فترات الازدهار، ليصل تخوم أوروبا وأعماق أفريقيا، فإن التاريخ الذي كتبه وسعى إلى تمثيله وتيسير المعرفة به، امتد من الأندلس إلى مصر، ومن السودان إلى العراق، ومن الحجاز إلى الشام، واتصل بمقومات الهوية العربية من لغة وآداب، وعقائد وعادات، وأزياء وأطعمة، أيّ بكل سجايا الثقافة العربية.

وبتعبير أدق فقد سعى جرجي زيدان للاستناد إلى قاعدة التاريخ لإنشاء خطاب تاريخي يؤصل للهوية، ويمنح الانتماء الثقافي واللغوي والديني والجغرافي دلالة، في سيرورة تكوّن وعي مختلف، يتطلع إلى بناء نهضة. وما كان مفهوم “التمدن الإسلامي” الذي صاغه إلا كناية عن ذلك الوعي المتطلع إلى استعادة لحظات المجد الحضاري، والبروز القومي، في مسار تحولات الفكر والثقافة والوجود العربي، وإشاعتها بين أكبر عدد من القراء والمتعلمين من الأجيال الصاعدة، وذلك ما يشير إليه بوضوح في مقطع من كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”، حيث يقول “لا مشاحة في أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى… ونظرا لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم، لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم، ما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه… وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعا في الهلال” [6].

الرواية دراما تاريخية

لوحة

من هنا يتجلى مشروع سلسلة روايات تاريخ الإسلام الذي دشنه جرجي زيدان برواية “المملوك الشارد” سنة 1891، وأنهاه برواية “شجرة الدر” سنة 1914 (وهي السنة ذاتها التي شهدت وفاته)، بما هو الحلقة المركزية في عمله الموزّع ما بين التأليف التاريخي والأدبي والإنتاج الصحفي، تصل حلقات طموحه النهضوي القائم على رهانين ثقافيين كبيرين، يتصل أولها بتحديث الكتابة التاريخية، وإشاعتها بين أكبر جمهور من المتلقين، مثلما هو واضح في عبارات النص المقتطف، وينصرف ثانيهما إلى الإسهام في تأسيس فن الرواية، والتمكين له، في مجتمع يعتبر فنون السرد “مرذولة”، ويحشرها في نطاق التداول الهامشي، في مقابل فنون الشعر والخطابة والترسل… ولعل الحصيلة الباهرة التي انتهى إليها تلقّي أعماله الروائية، على امتداد أزيد من قرن من الزمان، لممّا يجعل سؤال البناء السردي البسيط، لتلك الأعمال الروائية، يتوارى أمام نجاح التوليفة الأسلوبية للمأثورات التاريخية، بحيث تجلت، في المحصلة، بوصفها نصوصا متحدية للزمن، ولتطور الذائقة الروائية في المجتمعات العربية.

والشيء الأكيد أن الروايات الثلاث والعشرين التي خلفها جورجي زيدان تكاد تكون متماثلة القيمة، وإن تفاوتت في حجمها، وطبيعة الشخصيات والأحداث التي خلّدتها، ذلك أن القصد الأساس تمثل في تغطية مجمل مراحل التاريخ الإسلامي، بدءا بالعصر الجاهلي والفتوحات الإسلامية الأولى في رواية “فتاة غسان”، وحتى العصر الحديث، من خلال تناول وضع الانهيار السياسي للإمبراطورية العثمانية في رواية “الانقلاب العثماني”، مرورا بالفتح الإسلامي لمصر “أرمانوسة المصرية” (1896)، والفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان وتولي علي بن أبي طالب ثم مقتله، في روايتي “عذراء قريش”(1899) و”17 رمضان” (1900)، ومأساة الإمام الحسين بن علي وآل بيته في كربلاء على عهد يزيد بن معاوية “غادة كربلاء” (1901)، وحصار عبدالله بن الزبير في مكة من قبل الحجاج بن يوسف، وخلوص الخلافة لعبد الملك بن مروان “الحجاج بن يوسف الثقفي” (1902).

ليتناول بعدها تاريخ الغرب الإسلامي مخصصا ثلاث روايات لوقائع فتح الأندلس والتوغل فيها شمالا حتى تخوم فرنسا، وازدهار الخلافة الأموية، وهي “فتح الأندلس” (1903)، و”شارل وعبدالرحمن” (1904)، و”عبدالرحمن الناصر” (1910). بينما أفرد لأهمّ مراحل الدولة العباسية من التأسيس إلى مرحلة حكم المعتصم، مرورا بفترة حكم هارون الرشيد، وولده المأمون، أربعة روايات هي على التوالي “أبومسلم الخرساني”(1905)، و”العباسة أخت الرشيد” (1906)، و”الأمين والمأمون”(1907)، و”عروس فرغانة” (1908)، ليخصص بقية الروايات وعددها ثمانية للدول التي تعاقبت على حكم مصر، من أحمد بن طولون إلى دولة محمد علي، مرورا بمراحل حكم الأيوبيين والفاطميين والمماليك، وهي على التوالي روايات “أحمد بن طولون”، و”فتاة القيروان”، و”صلاح الدين الأيوبي”، و”شجرة الدر”، و”استبداد المماليك”، و”المملوك الشارد”، و”أسير المتمهدي”، ثم رواية يضيفها بعض المؤرخين، لم تطبع مع أعماله الروائية الكاملة بعنوان “محمد علي”.

على هذا النحو يختصر جورجي زيدان مسار تاريخ الإسلام، ويختزل حكايته الكبرى بتفريعاتها العقائدية المتشابكة، ما بين السنة والشيعة والخوارج والمسيحيين واليهود والمجوس…، واضعا القارئ أمام صورة مركبة لتحولات السياسة والمجتمع والعقائد والمدن والآداب والعادات واللهجات، في تكوين أسلوبي سهل المأخذ، منقاد الوسيلة، يضمر اجتهادا لغويا وبلاغيا كبيرا، في لحظة أدبية لم تتخلص بعد من تعقيد النثر الكلاسيكي، وعبر بناء سردي محدود الوظائف والمكونات، غايته تبليغ المعلومة التاريخية، بأكبر قدر من الأمانة، حيث يقول في مقدمته الشهيرة لرواية “الحجاج بن يوسف الثقافي”، “وقد رأينا بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستزادة منه، خصوصا لأننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكما على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج، وفيهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة… وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج فيها قصة غرامية تشوّق المطالع إلى استتمام قراءتها” [7].

على هذا النحو، يبدو هدف التمثيل الروائي للتاريخ، بوصفه دالا على كفاءة الروائي في الحفاظ على بنية “الحقيقة”، التي يفترضها الخطاب المرجعي للتاريخ، ولا يعني بأيّ حال تشوفا إلى محاكاة ذلك الخطاب ولا الاستناد عليه، ولا حتى توظيفه؛ إن التمثيل في جوهره، هنا، نقل كامل للحدث المتواتر في كتب التاريخ، وللشخوص والحوافز والنتائج، التي استعرضها المؤرخون. وإنما تتجلى “روائية” النصوص “الممثلة للتاريخ” بحسب جورجي زيدان في صياغة الروابط، وسبك العلل الإنسانية، في “قصة غرامية”، قصاراها تحفيز القراء على النهل والاستزادة من المعارف التاريخية.

وفي اعتقادي أن ما ساعد زيدان على إنجاح مسعاه، اتكاؤه على وقائع تاريخية مفعمة درامية، وذات عمق مأساوي، من مثل مقتل الإمام علي بن أبي طالب على يد الخارجي عبدالرحمن بن ملجم، في رواية “17 رمضان”، أو مقتل الإمام الحسين وآل بيته في كربلاء في رواية “غادة كربلاء”، أو نكبة البرامكة في رواية “الأمين والمأمون”، أو تصفية القائد أبي مسلم الخرساني بعد بلائه في الدعوة العباسية في الرواية التي تحمل اسمه، أو مذبحة القلعة التي دبرها محمد علي الكبير في رواية “المملوك الشارد”، وغيرها من الوقائع الشهيرة، التي حوّلت مسار الأحداث السياسية في دول الخلافة الإسلامية، وأضمرت حكايات مثيرة تلهب خيال الروائي.

أعلام تاريخية وشخصيات الروائية

لوحة

والحق أنه “إذا كان زيدان في تاريخ الأدب وتاريخ التمدن قد نقل عن الأوروبيين مناهج وطرائق في البحث والتحليل، والاستنتاج، والتنسيق، والتنظيم، فإنه في رواياته التاريخية قد نقل فنا لا مناهج، واستطاع أن يسهم في تكوين هيكل ضخم للقصة في الأدب العربي الحديث” [8]، قصاراه بناء الرواية على محور البطولة التاريخية لمجموعة من الخلفاء والقادة الذين بصموا التاريخ الإسلامي. لهذا وجريا على تقليد حكائي أثيل ينحو إلى المباشرة في صوغ العناوين (مثلما هو واضح في سير عنترة بن شداد، والزير سالم، والأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس…)،  تكاد جل روايات جرجي زيدان تتخذ من أسماء أبطالها التاريخيين، عناوين مباشرة، دونما سعي إلى المجاز أو الرمز، بحيث يكاد يلتبس الأمر لأول وهلة على القارئ غير العارف بمؤلفاته، فلا يدرك هل يتعلق الأمر بترجمة علم تاريخي، أو بسيرة شخصية، أو برواية؛ فعناوين من قبيل “الحجاج بن يوسف الثقفي” و”أبومسلم الخرساني” و”أحمد بن طولون” و”عبدالرحمن ناصر” و”صلاح الدين الأيوبي” و”شجرة الدر” وغيرها، لا يمكن إلا أن تكثف الانطباع بأن الأمر يتعلق بسيرة بطل بذاته كما روته كتب “التراجم”. وحين يشرع السارد في تصوير ملامح الشخصيات، سرعان من يلتجئ إلى مراكمة المناقب والصفات، والمظاهر الخارجية المتواترة في تواريخ الأعلام، فتتجلى الشخصية بما هي كائن “خبري”، ينطق من خلال ما نقله الرواة من سجايا وصفات مظهرية وخلقية، تنتسب إلى “الحقيقة الترجمية”، الساعية إلى الإيهام بصدق الرواية؛ وهو ما يتجلى مثلا في إحدى المقاطع الروائية التي يخصصها لتمثيل شخصية أبي مسلم الخرساني، حيث يقول السارد “نزع اللثام فبان من تحته وجه أسمر، جميل نقي البشرة، أحور العينين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر” [9].

ويحيل الكاتب، في أسفل الصفحة مباشرة، على مصدر الصورة الخبرية، وهو كتاب “وفيات الأعيان” لابن خلكان، قبل أن يسترسل في التعريف بملامح البطل الخلقية عبر مشهد محاورته لشخصية “الدهقان”، وتخييل كيفية وقوع البطلة “جلنار” في حبه، من خلال رصف هذه السمات المظهرية الخرساء.  صحيح أن أبا مسلم يتخفف في فصول الرواية اللاحقة من هالته المظهرية الطاغية، ليتلفع ببعض سمات الكائن الدرامي، بعد ربطه بعوالم القصة الغرامية، لكن روائيته المكتسبة تلك لا تكاد تفلح، في خلخلة صورته “الاسمية” ذات المرجعية التاريخية، ولا تنجح كثيرا في اكتساب التعقيد الإنساني اللازم لتجاوز الحجاب الخبري. وهي السمة البلاغية عينها التي قد يلمسها القارئ في صورة الأمير “إبراهيم باشا” (نجل الخديوي محمد علي)، التي تبدو عابرة في متن رواية “المملوك الشارد” حيث يقول السارد “كان إبراهيم باشا ربعة في الرجال، مستوي القامة منتصبها، وكان إذّاك في الخامسة والثلاثين من عمره، دقيق الأنف أشهل العينين حادهما، مع ارتفاع مقلتيهما، ووجهه مستطيل فيه أثر الجدري، أشقر الشعر وعلى رأسه الطربوش العسكري الطويل، وقد لبس الحلة الرسمية وعلى صدرها وكميها جدائل القصب” [10].

ولا يعزب عن النظر أن غلبة البلاغة المظهرية على صيغ تصوير الشخصيات البطولية مثلت قاعدة مركزية في تشكيل خصائص البطولة بشقيها التاريخي والتخييلي، حيث تشربت معظم الشخصيات الروائية الكينونة الشكلية المستندة إلى الوصف الخارجي المتأرجح بين الحسن والقبيح، وسكنها التبسيط الظاهر في إبراز السمات العاطفية والسلوكية، بحيث تمثلت بوصفها تركيبا لقيم حدّية، قصارها بيان جبلة الفرد الكلية، الخيرة أو الشريرة، دون توسطات عاطفية أو مقامات سلوكية، من تلك التي تلائم مخلوقات الكمال أو التشوه الجسديين المنذورة لتقلبات المصائر والأقدار وعجائب الاتفاقات.

وظيفية النموذج العائلي

ولأن تلك الشخصيات تستلهم العديد من قوالب البنية الحكائية التقليدية، التي تتداخل بيسر مع محكيات الأخبار التاريخية، فإن النموذج العائلي شكّل مدخلا روائيا مثاليا لتضمين تفاصيل الوقائع والخطوب. ولا نقصد بهذا النموذج الهيكلي النظام السردي الممتد لأجيال ثلاثة أو أكثر، كما مثّلته روايات النصف الأول من القرن العشرين (التي تمردت على ميراث إيميل زولا)، إنما بنية الحبكة القائمة على أنوية القرابة الصغرى والكبرى “الجاهزة والمغلقة” [11]، التي قد تبدأ بالأسرة الصغيرة المكوّنة من زوج وزوجة وأبناء، وتمتد لتشمل أفراد القبيلة وسلالاتها التي تنتسج بينها علائق الزواج والفراق واليتم والثكل والتوارث وعواطف الحب والبغض والحسد والكيد والانتقام والتضحية والغدر… وهي الأحاسيس المحركة لأفعال الأبطال في محيط قراباتهم الصغرى والكبرى.

ولا جرم أن تتضمن فصول روايات زيدان المختلفة عناوين صغرى تتصل اتصالا مباشر ببنية القرابة، هاته، وما تنطوي عليه من حمولات شعورية وأخلاقية من مثل عناوين “بيت أبي رحاب”، و”انقلاب غريب” و”التهمة الباطلة”، و”لقاء قطام”، و”الغدر الفظيع” في رواية “17 رمضان”، أو أن تصدّر الروايات بتعريف للشخصيات ينسبها إلى نسقها القرابي من آباء وأجداد وأزواج، من مثل ما نجد في تصدير رواية “فتح الأندلس” على سبيل المثال، حيت يعرَّف البطل ألفونس بـ”خطيب فلوريندا وابن غيطشة ملك الإسبان”، وتعرَّف فلوريندا بـ”خطيبة ألفونس وابنة الكونت يوليان حاكم سبتة”، و يعرَّف الميتروبوليت أوباس بـ”عم ألفونس”، وتعرَّف بربارة بـ”خالة فلوريندا”[12]، وهي العتبة التأطيرية الثانية التي تطالع القارئ في كل روايات زيدان، إذ تلي مباشرة عتبة التعريف المرجعي بعصر الرواية وأحداثها التاريخية.

وغير خاف أن بنية القرابة، في هذا السياق، تجمع بين البعد التمثيلي للحقيقة التاريخية، والوظيفة التكوينية للتقاطب الدرامي في المبنى الروائي، وهي الوظيفة التي لا تلبث أن تشكل القالب الجاهز والمقفل على دوائره المتكررة، في مجمل نصوص زيدان، مع تنويعات لا تنفي ثباتها على مبادئ “الأزمة والحل”، “البعد والقرب”، “الفراق واللقاء”، و”التشتت والتجمع”…، لشخصيات تحمل في كل مرة ملامح جاهزيتها النمطية لتحقيق مقاصد الشرح والإخبار بوقائع التاريخ. وسرعان ما تمثل مشاهد الحوار بين الأقارب محطات رئيسية لطرح أسئلة شبيهة بتلك الواردة في حكايات ألف ليلة وليلة لتضمين حكايات فرعية، من مثل السؤال الذي يطرحه البطل “غريب” على أخيه “سالم أغا” (قبل أن يكتشف حقيقة قرابته) في رواية المملوك الشارد، حيث يقول “وما سبب ثورة اليونان، هل تعرف عنها شيئا” (ص 140)، لينتقل السرد بعدها مباشرة إلى تضمين التفاصيل التاريخية بإسهاب.

ويخيل إليّ أنه بقدر ما ييسر النموذج العائلي، للروائي، أسباب الخلوص من الحكاية إلى الوثيقة، ومن الحدث المتخيل إلى الواقعة المأثورة، فإنه يمده بآلية اختزالية جامعة لمسار التقاطب والتنازع حول السلطة في تاريخ الإسلام، بحيث يتمثّل هذا التاريخ لذهن القارئ، في المحصلة، بوصفه تنازعا عائليا حول ميراث الحكم، امتد لقرون طويلة بين ثلاث سلالات كبرى هي “آل أمية” و”آل العباس” و”آل علي”، التي استقطبت أتباعا من القبائل والأسر العربية والعجمية، مكنت الروائي من تطريز صلات التنابذ والاحتراب الدرامي على امتداد تاريخ حافل من المحن والخطوب.

تركيب

والشيء الأكيد أن نشاط جورجي زيدان في فجر النهضة العربية الحديثة “لم يكن بعيدا عن غاياتها التربوية والأخلاقية العامة، ولذلك صدر عن تصور للرواية التاريخية يجعل للمادة التاريخية الأهمية والأولوية، ويستخلص من هذه المادة مغازيها التوجيهية والتعليمية، ويتخذ من السرد الروائي وسيلة إلى تلك الغايات” [13]، ولهذا بدت رواياته طافحة برغبة استيعاب الماضي، بما يمثله من انتكاسات وأمجاد، على حد سواء، حيث إنه كتبها لوضع الثقافة العربية في سياق تراكماتها العقدية والفكرية والأدبية.

ولقد كان رهان زيدان على الذاكرة بما هي حاملة لقواعد ومرجعات النهوض القومي، متصلا بإيجاد قاعدة واسعة من القرّاء، وسرعان ما استطاع أن يتحول إلى معلّم لأجيال من اليافعين، وأن يغدو ركيزة أساسية في إشاعة الإحساس بمقومات الانتماء لهوية مشتركة، قوامها اللغة والآداب والتاريخ؛ ولهذا لم يكن غريبا أن يصير هدفا مستمرا لعدد كبير من الأصوات العنصرية ذات النزعة الدينية المنغلقة، التي سعت في كتاباتها عن أدبياته للترويج لاستنتاجات جاحدة لدوره النهضوي، وتحشر منجزه الروائي ضمن مخطط يستهدف تشويه التاريخ الإسلامي وتحريف وقائعه، والزيغ بصور أبطاله لأهداف عقدية، مسيحية تارة وماسونية تارة أخرى، في الوقت الذي استمرت فيه أعماله الروائية وكتبه التاريخية والأدبية واللغوية في الانتشار والتداول بوصفها رصيدا لثقافة التنوير ومناهضة الانعزال الديني والطائفي.

هوامش:

[1] - أنظر: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، (د.ت)، ص 23.

[2] - أنظر في هذا السياق:  – إبراهيم السعافين، تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980، ص 13، وما بعدها.

[3] - المؤلفات الروائية، دار الطليعة، بيروت، 1979، ص 45.

[4] - “وضع الرواية العربية في حقل ثقافي غير روائي”، مجلة فصول، المجلد 16، العدد 3، شتاء 1997، ص 28.

[5] - تاريخ آداب اللغة العربية، الجزء 4، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013، ص 1481.

[6] - تاريخ التمدن الإسلامي، الجزء 1، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012، ص7.

[7] - دار الجيل، بيروت، 1988، ص4.

[8] - محمد عبدالغني حسن، جورجي زيدان، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970، ص 100.

[9] - أبومسلم الخرساني، ط. دار الهلال، القاهرة، 1984، ص 24.

[10] - ط دار الهدى الوطنية، بيروت، (د.ت)، ص 57.

[11] - جان إيف تادييه، الرواية في القرن العشرين، ترجمة وتقديم: محمد خير البقاعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 74.

[12] - طبعة دار الهلال، 1984، ص 20.

[13] - عبد المنعم تليمة، مقدمة رواية شارل وعبد الرحمن، دار الهلال، 1984، ص 7.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.