رحلة حلب

دفتر يوميات
الأحد 2025/06/01
جبران هداية

 (1)

أواخر كانون الأول 2012

مطار إسطنبول

أمس خرجتُ من حلب.

منذ ذلك الحين وأنا أعاني حزنًا صامتًا، شيئًا يشبه أعراض الحرب؛ ليست أعراضًا جسدية تمامًا، ولا نفسية محضة، بل شيء يطفو بين الجسد والروح، مثل غبار لا يُرى، لكنه يعلو فوق كل شيء.

في غازي عنتاب قابلت صدفة شيخ الحقوقيين السوريين هيثم المالح. لم أكد أدخل الفندق حتى رأيته يحادث سيدة، يبدو أنه كان يرتّب أمور دخوله إلى الأراضي السورية. توجهت نحوه وعرّفته على نفسي. أخبرته عمّا رأيت في الداخل. في الحقيقة لقد بدا الأمر وكأنني أصب جام غضبي وربما خوفي في وجه الشيخ المالح. كنت متعاطفا مع ضحايا الحرب. أنصت المحامي المالح بكل احترام، تحدث بمودة ولطف وراح يسألني ويستزيد في معرفة الأحوال. ثم حييته ومضيت.

في مطار إسطنبول تبدو وجوه المسافرين وكأنها لا تعني شيئًا. النداءات باللغة التركية، الضجيج المنظم، العربات التي تجرّ حقائب مترفة… كل شيء بدا لي زائفًا، كما لو أنني عدت من زمن قديم ووجدت هذا العالم ما يزال منشغلاً بتلميع زجاج النوافذ بينما الجدار ينهار.

جلستُ عند بوابة الانتظار كجندي مفقود عاد من الجبهة، بلا نياشين. كنت أفكر في العائلات التي تعيش في مخيمات بنيت على عجل، في طفل بلا أطراف رأيته في أعزاز. في بناية حطمها طيران الأسد في معرة النعمان وتحت ركامها طُمر نحو ثلاثين من سكان العمارة. فكرت برأس المعري في المدينة المنكوبة وقد خرم الرصاص وجهه وأنفه.

في الطريق من حلب إلى الحدود التركية، حاولت أن أبكي. لكن حتى البكاء صار ترفًا. في الحرب، لا أحد يملك وقتًا للحزن، لا أحد يملك مكانًا للدمعة. الآن أجلس هنا، في المطار، وأكتب كي لا أنهار. أكتب لأحتفظ بشيء من ذاكرتي قبل أن تبتلعه شاشات الأخبار وتحوله إلى “خبر عاجل”.

أكتب لأتذكر أن ما رأيته لم يكن حلمًا، بل كان سوريا.

جنة الله على الأرض
الوطن الثاني لأيّ غريب…

 

(2)

” أمرّ بالعواصم

ونيّتي حلب“

لطالما راودني حلم الوصول إلى حلب. كتبت عنها قصائد طويلة في ديواني الثاني”كما يخسر الأنبياء”، رأيتها في خيالي عبر الأزمنة، قديمة وحديثة، مدينة الذهب والنار، مدينة الأسواق العتيقة والمآذن العريقة، وأيضًا مدينة الحصار والموت. لكنني لم أدخلها في زمن السلم والهدوء، بل تسللت إليها مضطربًا خائفًا في زمن الحرب.

في عام 2012 كانت الثورة السورية في أوجها، وكانت حلب الشرقية تعيش بين الحصار والجوع. وحينها تمزقت خارطة سوريا بين قوات النظام وقوات المعارضة، وكنت أتحرك كصحافي في مناطق المعارضة السورية.

كان عليّ أن أسلك طريقًا محفوفًا بالمخاطر، التسلل عبر ريف إدلب، ثم ريف حلب الشمالي، ثم إلى حلب القلب، في وقت كان فيه جيش النظام السوري لا يزال في ذروة قوته. انطلقت مع السائق وأحد مقاتلي الجيش الحر عبر طريق يمر أمام كلية المدفعية العسكرية، التي كانت تحت سيطرة النظام. تلك اللحظة كانت أقرب إلى لعبة موت، حيث أن مجرد وجودك هناك يعني أنك صيد سهل للقناصة أو هدف لقذيفة مدفعية.

عليك أن تعبر الطريق أمام الكلية بكامل ما أوتيت من سرعة وإلا فإنك ستكون هدفا سهلا لقناصة جيش الأسد. لم يستشرني مقاتلو المعارضة، إنه الخيار الوحيد للذهاب إلى حلب. كانت السيارة تهتز بنا، فأرى الأرض تحت قدمي من فتحات السيارة القديمة، والسائق يضغط على دواسة الوقود إلى أقصى حد. كنا نعرف أن التوقف يعني الموت، وأن القيادة البطيئة تعني الاستهداف المؤكد. الريح كانت تعصف، والطريق موحل، والسماء رمادية لا تبشر بخير. مررنا بلحظة الموت بسرعة، بين طلقة لم تصبنا وأخرى كادت تفعل. لم نكن نعرف إن كانت قذيفة ستسقط فوقنا أو إن كنا سننقلب عند إحدى المنعطفات. لكنها كانت لحظة باردة، صامتة، ثقيلة ككابوس، ثم انتهت. عندما عبرنا، شعرت للحظة أنني ولدت من جديد.

أول ما رأيته من حلب

 

أول ما رأيته من المدينة كان طريق الباب، ذلك الامتداد الطويل الذي يقودك إلى عمقها الشرقي. كنت قد قرأت عن هذا الطريق في تقارير الصحافيين وفي شهادات الناجين، لكنه كان مختلفًا عندما رأيته بعيني. الجو شتائي، رمادي، الرطوبة تتغلغل في العظام. على جانبي الطريق كانت الحفر تملؤه، الطين يكسو الأرصفة، والمباني تحمل آثار الشظايا.

وصلت أطراف حلب قبيل المغرب، ودخلت المدينة مع أول الظلام. كانت المظاهر العسكرية طاغية على كل شيء، مقاتلون بأسلحتهم منتشرون في كل زاوية، بعضهم يركض بين الشوارع الجانبية، آخرون يختبئون خلف أكوام الركام. رايات الفصائل المسلحة ترفرف فوق المباني المحطمة، تتبدل ألوانها بين الأسود والأخضر والأبيض. لا وجود للمدنيين إلا كأشباح تسللوا لجلب الخبز، أو عائلات تحمل أمتعتها هربًا إلى مكان أكثر أمانًا، رغم أنه لا يوجد مكان آمن في هذه المدينة.

دخلت حلب من أحيائها الشرقية، تلك الأحياء التي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة عام 2012، والتي تحولت لاحقًا إلى خط النار الأول في معارك المدينة الكبرى. كان لكل حي منها قصته الخاصة، ولكل زقاق فيها بصمته على الحرب.

حي الشعار حين دخلناه، كانت أبنيته شبه مدمرة، الأبواب مخلعة، والنوافذ فارغة كعيون الموتى. هنا كان معقل للمدنيين قبل أن يصبح نقطة اشتباك، شوارعه الضيقة كانت تزدحم بالحياة ذات يوم، لكنها الآن تتحول إلى متاريس حرب.

أما حي الصاخور فكان أشبه بمتاهة من الدمار. أبنية نصفها واقف ونصفها الآخر متهدم، وأكوام من الحجارة تتوسط الطرقات. رائحة البارود ما زالت معلقة في الهواء، وعلى الجدران شعارات كتبت على عجل، بعضها يلعن النظام، وبعضها يحيّي المقاتلين.

وفي حي كرم الجبل كانت الحياة تشبه عاصفة غبار، كل شيء متحرك، لا ثبات لأي شيء، وكأن المدينة تعيد تشكيل نفسها وسط الحرب.

وفي العموم كانت الشوارع في الأحياء الشرقية لحلب مكسوة بالموت، القصف لا يتوقف، وقذائف المدفعية تمزق الجدران والأرواح معًا. وكان الحصول على رغيف خبز يعني الوقوف في الطوابير لساعات طويلة.

في كل هذه الأحياء، كنت أبحث عن المدينة التي حلمت بها، عن حلب التي قرأت عنها في الكتب، عن أسواقها العريقة، عن قلعتها، عن أزقتها التي كانت تنبض بالحياة. لكن ما رأيته كان مدينة أخرى، حلبًا جديدة لا تشبه ما تخيلته أبدًا.

عندما دخلت المدينة، كنت أبحث عن معنى، عن إجابة لحلم راودني طويلًا. لكن في شوارعها المدمرة، بين أنقاض بيوتها، وفي وجوه من تبقى من سكانها، وجدت شيئًا آخر: وجدت حقيقة الحرب. لم تكن قصة بطولية، بل كانت مأساة. لم تكن مجرد معركة، بل كانت حياة بأكملها تنهار أمامي.

وقفت هناك، على أطلال حي الشعار، ونظرت إلى المدينة الممتدة أمامي. كنت قد دخلت حلب التي حلمت بها، لكنني لم أكن أعلم أنني سأخرج منها إنسانًا آخر.

(3)

أكثر ما يفطر القلب في ظلال الحروب، أن المدارس تشطب، وتصبح مأوى للنازحين. في كل مدرسة كنت أدخل صفوفها أجد عائلات بأكملها تتزاحم في الغرف الصفية، وقد قسمت المساحات بتعليق أغطية النوم أو خرق قماشية. هنا لا خصوصية. الجميع يسمع الجميع.

بمجرد أن أدخل، ينهض الجميع، وتشرئب أنظارهم إليّ. هم يتوقعون أنك من منظمة إنسانية ما، ويأملون أن مساعدة قد تنالهم أو منحة قد تواسيهم.

في إحدى المدارس في محيط بلدة جرجناز بريف إدلب، لقيتُ امرأةً تجلس عند باب الصف، تدعى أم خليل. كانت تغلي الماء على موقد من الحجارة، قالت لي: “كنا نعيش فوق، صرنا نعيش تحت.”
ثم أشارت إلى الخيمة المعلقة فوق الباب: “هنا المطبخ، وهناك غرفة النوم، والحمام مشترك خلف الساحة.”
أومأت برأسي. لم أسأل أكثر.
كان يكفي أن ترى خليل، ابنها، وهو ينام على طاولة خشبية كانت في السابق منبر المعلمة.

في غرفة أخرى، قابلت فتى في الثانية عشرة اسمه عمّار. كان يكتب على الحائط جدول الضرب بطباشير مكسورة.
قلت له: “تشتاق للمدرسة؟”
قال: “هي المدرسة، بس ما فيها صفوف.”
ثم سألني إن كنت أحمل أقلامًا. أخرجت له قلماً وحيدًا في جيبي، ففرح كمن استعاد شيئًا سُرق منه منذ زمن.

في الطابق العلوي، كان هناك رجل ضرير اسمه الحاج محمود. قال لي إنه جاء من معرة النعمان على قدميه مع حفيده. حين سألته كيف عرف الطريق، قال: “كنت أتبع صوت الطفل… والحرب من خلفي كانت تعلّمني ألا أعود.”

الغريب أن الحياة رغم ضيقها كانت تتحايل على الفقد. أحد الصفوف تحوّلت زاويته الغربية إلى ما يشبه صالون حلاقة للرجال. وفي الجهة المقابلة مساحة صارت متجرًا صغيرًا للخبز والعدس. وفي الساحة، كان الأطفال يلعبون بكرة من القماش المعقود.

لا أحد هنا يسأل عن الغد. كل شيء مرهون باليوم:
هل هناك ماء؟
هل سيأتي الخبز؟
هل ستسكت السماء؟

وحين أغادر، تبقت في أذني عبارة سمعتها من أم خليل، وهي تهمّ بطيّ البطانية:
– “نحن لا نطلب شيئًا… فقط نريد ألاّ يطول هذا الشتاء.”

(4)

في الطريق إلى مخيم الريحانية قرب الحدود التركية، لم تكن هناك لافتة تقول إننا نقترب من مأساة. فقط أرضٌ منبسطة، مفروشة بالحجارة البيضاء، وخيام بيضاء كأنها جزء من السماء سقط على الأرض. عند المدخل، جنود أتراك صامتون. لا يسألون، لا يجيبون، يكتفون بنظرات متعبة.

دخلت المخيم برفقة ناشط سوري اسمه نورالدين. كان أستاذ فلسفة قبل الحرب، والآن يعمل وسيطًا بين اللاجئين والمنظمات الإنسانية. قال لي وهو يفتح دفترًا صغيرًا في يده:
– “هنا، ما يزيد على عشرة آلاف لاجئ. الأسماء تتغير يوميًا. بعضهم يعود، بعضهم يُنقل، بعضهم يختفي.” ثم أغلق الدفتر وقال: “لكن الوجع ثابت.”

في الزاوية الشمالية من المخيم، خيمة كبيرة تحولت إلى مدرسة مؤقتة. أطفال حفاة يجلسون على الأرض، المعلمة تشرح الحروف العربية على لوح خشبي. قربهم، صبي يرسم دبابة وعليها علم المعارضة.
سألته عن اسمه. قال: ضياء
ثم سألني:
“هل يوجد في الأردن طائرات؟”
قلت له نعم.
قال: “إذاً لماذا لم تقصف بشار؟”

في خيمة أخرى، جلستُ مع عائلة من معرة النعمان. الأب، أبوحسام، كان صاحب فرن، والآن لاجئ بلا عمل، يمضي يومه في طابور الماء. حكى لي عن قصف استهدف مخبزه، عن ابنه الذي فُقد أثناء الفرار، عن جاره الذي أُعدم ميدانيًا لأنه خبّأ متظاهرين.
ثم سألني: “ماذا يقولون عنا في العالم؟ ما زالوا يصفوننا بالإرهابيين؟”

في المساء، تجولت في الأزقة الضيقة بين الخيام. الأرض مغبرة، والهواء ثقيل. رائحة الطحين، وعرق الأطفال، وبقايا وجبات الأرز المطهو على عجل. رأيت شابة تجفف شعرها بمنديل، ورجلًا يضحك في الهاتف مع قريب عبر الحدود، وطفلًا يطارد كرة مثقوبة.
هؤلاء ليسوا أرقامًا. هم بشر يسرقون لحظات حياة من موتٍ مؤجل.

في المركز الطبي، التقيت بممرضة اسمها زينب. قالت لي:
– “كل يوم نرى حالات نفسية. أطفال يتبولون ليلًا، نساء يصحن في نومهن، رجال يحدّقون في الفراغ.”
ثم أضافت:
– “أكثر ما يفطر القلب الرضّع الذين وُلدوا في هذا المخيم، ولم يروا من سوريا إلا صورًا على جدران الخيام.”

الليل في المخيم قاتم. لا كهرباء، لا دفء، لا وطن. فقط نجوم بعيدة، تلمع فوق خيامٍ بيضاء، تُذكّرك أن ثمة شعبًا يعيش تحت ورق، ولا ينتظر سوى سؤال بسيط: متى نعود؟

صوت سلمى

عندما دخلتُ خيمتهم، كانت سلمى تجلس عند الزاوية، تلفّ خيطًا قديمًا حول قطعة قماش رمادية، كأنها تحيك شيئًا لا يكتمل. عمرها عشر سنوات. لم تكن تنظر في العين، ولم تنطق بكلمة واحدة.
قالت أمها:

“من يوم ما وقعت القذيفة، ما عاد تحكي.”

ثم همست وكأنها تعتذر:
– “كانت بنت اجتماعية، تحفظ الأغاني، وتقلد المعلمات. بس راحت بنتي مع أخوها.”
أخوها قُتل أمامها، على عتبة البيت. القذيفة مزّقته، وسقطت عليه وهي تصرخ. ومنذ ذلك اليوم، سكتت. قال الطبيب النفسي في المخيم: “صدمة حادة. الصمت صار قوقعتها.”
في المساء، رأيت سلمى تكتب شيئًا على طرف قطعة كرتون. اقتربت منها. كانت تكتب:
“أنا اسمي سلمى. أنا عندي صوت.”

 (5)

حي الشعار، حلب – 11 تشرين الأول/أكتوبر 2012

مستشفى دار الشفاء لم يكن يشبه أي شيء.
بعد القصف، تحول المبنى إلى حفرة في ذاكرة مدينة محطمة. جدران متهاوية، أسرّة محترقة، دماء جافة على أرضيات مقلوبة، أنينٌ عالق في الهواء بلا صاحب. الناس يركضون بلا اتجاه، أحدهم يبحث عن أمه، وآخر يسحب طفلاً من تحت الأنقاض، وعامل إنقاذ يجهش بالبكاء وهو يردد:

“ما قدرت أطلّعهم… ما قدرت.”

هنا، عند مدخل المستشفى المهدّم، التقيت بـ”أبوزكي” قائد ميداني من كتائب الجيش السوري الحر، حذاؤه مغبر، شاربه كث، وعيناه محمرّتان كأنهما في جنازة دائمة. اقترب مني وهو يشير إلى كومة الركام قائلاً:
– “8من جنودي تحت هذا الحطام… دفنهم الأسد بالطيران.”
ثم أضاف وهو ينظر بعيدًا:
– “بينهم ابن عمي… مقاتل شرس، حررته من الأسر قبل شهرين.”

سألته: كيف؟

ابتسم بتحدٍّ وقال: “عملنا صفقة… قبضنا على طيّار، واحد من جماعة بشار، نزل بطائرته شرقي عندان… تفاوضنا عليه وحررنا فيه 17 أسير من شبابنا.”
صمت قليلًا، ثم بصوت أكثر خشونة، قال:

“لم أصدق أنهم أفرجوا عن ابن عمي من فرع الأمن، وكان جسمه كله آثار تعذيب. الآن رجع شهيد وتحت الركام.”

ثم التفت فجأة، رفع صوته، كأن أحدًا ناداه من الذاكرة:

“أبي كمان قتل بحماة… 1982. كنت صغير وقتها… بس ما نسيت.”

اقترب أكثر، وقال لي وكأن الكاميرا تُسجّل الآن لحظة اعتراف تاريخي:
– “نحن لا نريد الانتصار فقط… بل نريد الخلاص من حكم الأسد إلى الأبد.” ثم أضاف: “نريد أن ندخل قصر الشعب… ونعلّق بشار بحبل في ساحة المرجة. أمام العالم كله.”

أردت أن أسأله: “وماذا بعد ذلك؟”
لكنني سكت.
في الحرب، لا مكان لأسئلة الغد. كل شيء محكوم بلحظة الدم.

 

وشوشة القلب

 

(1)

 

8 أبريل/ نيسان 2019

بيروت ظهرا.

عدت الآن من زيارة طبيب القلب في مستشفى الجامعة الأميركية. كشف رويتني معتاد، أبلغني الطبيب بعد الكشف أن الأمور مطمئنة، لكنه أوصى لي ببعض الفحوصات للتأكد من سلامة الأوردة الدموية لأنني مدخن منذ زمن طويل. غدا أعود إلى المختبرات الطبية لإجراء الفحص.

نظرت من نافذة الفندق، وقلت أنتظر صديقي ريثما يعود من مشاويره. طالعت بيروت بحياد. لطالما زرت هذه المدينة من أجل القلب، ولكن بشغف وحب، وليس من أجل أسرّة المستشفيات.

لم يكن حبا ما بيني وبين بيروت، لكنه شغف الحكاية، ألق البدايات، دوخة الرؤوس المجللة بمجد آلهة الأولمب. الأساطير التي ستأكل عمري، ثم أعود وحيدا إلى طريق لا يوصل إلى البيت.

بيروت وهم الحب.

إنها حبيبة آبائنا التي كنا نتعشق أن نتعرّف عليها، لنعرف أيّ أمٍ جميلة حُرمنا منها لو تزوّجت الحبيبةُ أبانا. كنا نحمل صورتها المطوية في كتبنا، كأنها جُزء من درسٍ لم يُشرح جيدًا، أو قصيدة ضاعت من دفتر الإنشاء.

عرفنا بيروت في الصغر عن بعد، في الكاسيتات والكتب المهربة. في كوفيات الفدائيين وحكايات الصمود، في جمهورية الفاكهاني وجيش “الردع” الذي يبتلع الأخ والعدو. عرفناها في المدينة الفاضلة للمقاومة الوطنية اللبنانية، وفي دواوين درويش وأنسي الحاج وكريم أبي شقرا ورصاصة خليل حاوي، وفي قفز أمجد ناصر عن أسوار القبيلة، وضياع نوري “الصبي” في طريق دمشق.

سحبني من شرودي طرق على باب الغرفة. نهضت. أحضر لي عامل خدمة الغرف قهوة تركية وماء باردا. تفحصت هاتفي ولم أجد ما يفيد أن صديقي قد أنهى مشاويره أو أنه سيعود قريبا.

أمس وصلنا سويا إلى بيروت. صديقي خبير دولي في شؤون الأمراض وهو أكاديمي في واحدة من أعرق الجامعات الأميركية، وكان منذ سنوات قد أقنعني أن نجري كل عام فحصا شاملا في المستشفى الأميركي في العاصمة اللبنانية. “هرمنا” قال لي حينها. هو يجيد تحفيز الناس على العناية بصحتهم، وأنا عموما أثق بآرائه فهو صديقي الأقرب منذ أيام الثانوية، وقد تفرقت بنا السبل في الجامعة فذهب إلى الولايات المتحدة، ثم عدنا والتقينا في حياتنا العملية وعشنا في مدينة الدوحة على شاطئ الخليج العربي.

وصلنا مطار الحريري أمس عصرا تقريبا. وقفنا في صالة الجوازات لنحو ساعتين. عانينا من بطء حركة الطابور وزحمة المسافرين والبرودة المعتادة لرجال الأمن. بعد ختم الجوازات أخيرا بدأنا رحلة البحث عن الحقائب، ربما استغرق خروجنا من المطار نحو ثلاث ساعات.

عادة قد يدفعني هذا الغباء البشري إلى النزق والنرفزة، لكنني كنت أهدأ مما ينبغي. ونحن نغادر المطار وندخل هذه المدينة الكابية قلت فجأة لصديقي “هذه آخر مرة أزور هذه المدينة.”

لم تكن دهشته أقل من دهشتي أنا نفسي وأنا أسمع هذه الجملة تخرج من فمي. لم أدر لم قلت ذلك، لكننا اكتفينا بالصمت وقدّر صديقي أنني متبرم بسبب “حبسة” الطابور ونحن ننتظر ختم الجوازات، وراهن أنني سوف أغير رأيي بمجرد أن أحتسي القهوة وأدخن في الفندق.

لكن في داخلي كانت خلية ما تتسع. بالفعل، لن أعود مجددا إلى مدينة كل ما فيها يلح عليّ بالخروج. هذه الألفة الموهومة هي بقية أصباغ المكياج لعجوز في آخر الليل. ونحن نعبر زحمة الشوارع راودني إحساس أن هذه المدينة بلا عاطفة، وأنها آخر مكان يمكن أن يطمئن فيه القلب.

///////////////////////////

جبران هداية
جبران هداية

(2)

 

9 أبريل/ نيسان 2019

بيروت عصرا.

إنه القلب مرة أخرى إذن.

هذه الكرة النارية التي ظلت تتقافز أمامي طوال عمري، ترسم قدري، وأنا أركض خلفها.

أتذكر الآن قصيدة القلب الصغير، أيقونة جيل بأكمله، ممن عاش أجواء التسعينات في جامعة اليرموك.

قلبي الذي قفز خلف محبوبته، ولم يدركها، كانت ابنة شيخ من الإخوان المسلمين، وحبيبة شاعر يساري من قيادات الشيوعيين الشباب. ومثل جميع المستحيلات، ركض القلب خلفها ولم يلحق بها، وظلّ الحنين عصيّا إلى أبد الآبدين.

اليوم كان موعدي مع الفحص الدوري للشرايين. الواحدة ظهرا. نهار معتاد، بيروقراطية المستشفيات، وثقافة المال اللامعة. أخذوني إلى غرفة الكشف الباردة. كان عليّ أن أعرّي جذعي بالكامل. معظم من في الغرفة ممرضات، وأنا حيّي الطّبع. تلكأت ونظرت حولي، الغرفة باردة وشبه معتمة، كما لو أنها إضاءة صالة السينما في أول تشغيل الفيلم.

يبدو أن حيرتي طالت، فنهرتني سيدة بدت أنها كبيرة الممرضات “تفضل مسيو لو سمحت..” لا بدّ لك أن تخضع لأوامر هذه السيدة التي تأمرك بلهجة باردة جافة. ولا يعني لها شيء حياؤك أو ترددك أو استياؤك من برودة الغرفة. تسألها: كل شيء؟

فترد بذات البرود: نعم اخلع كل شيء من فوق.

تستلقي على كرسي علاجي يشبه السرير. تتناوب عليك عدة ممرضات فيربطنك ويوصلنك بأسلاك ووصلات كهربائية لا حصر لها، جزء كبير منها ينتهي باللصق في صدرك.

تظلم الغرفة بشكل شبه كامل، وتدخل فتيات أخريات، أربع أو خمس. هناك فتاة جديدة محجبة، تبدو أنها المايسترو، وهي من ستقود الحفل. تبدأ بوضع المراهم على صدرك، ويبدأ الدعك، وفي الأثناء تتعالى أصوات الأجهزة. أشياء لم تسمعها من قبل إلا في سونار الحوامل. هذه النبضات المتلاحقة التي تثير حذرك وخشيتك، كأن ثمة احتكاك ما داخل صدرك.

” هل هذا صوت الجنين؟”

هممتَ أن تسألها ساخرا، لكنك أحجمتَ عن ذلك حين راح الهرج واللّغط يتعالى بين الممرضات المحيطات بك. كانت الممرضة المايسترو تهمس لهنّ بالعربية والإنجليزية معا، بدأت أنت تشعر أن شيئا ما في داخلك ليس على ما يرام. صوتهن بدأ يتعالى أكثر من المعتاد. ومن بين الهمس والأصوات المتلاطمة بين هذه النسوة وقائدة الحفل المحجبة، تسمع كلاما متقطعا:

” لا يمكن أن أجري له فحص الجهد. لن يتحمل.. لن يتحمل..”

صوت آخر إلى جانبها يسألها: ” لماذا لا يمكن؟”

تجيب الممرضة المحجبة: هناك ثقب!

وأنت ممدّد على يسارك، والدعك الكهربائي يتواصل بين أضلاعك.

أخيرا نادت الممرضة المحجبة بصوت صريح وعال بما يكفي ليسمعه من خارج الغرفة:

أرجو أن تنادوا الدكتور.. بسرعة.

خلال ثوان ظهر رئيس وحدة التصوير الطبي، أطلّ من نافذة في زاوية الغرفة، كنت أسمع صوته يتحدث مع الممرضات، ولم أكن قادرا على رؤيته بسبب وضعيتي في الفحص. ما إن علم الرئيس بملخص الاكتشاف حتى عدا من مكانه ودخل الغرفة. ازداد الهرج وتعالت الأصوات باللغتين العربية والإنجليزية.

وضع رئيس وحدة التصوير يده على كتفي وطلب مني أن أستدير جهته. واصل حديثه مع الممرضات:

علينا أن نلغي فحص الجهد ونعمل فحوصات الإيكو.

ثم يهجم الرئيس على جهاز الكمبيوتر وتتحلق حوله الممرضات، يلغون الفحص ويطلبون فحوصات جديدة، يتحدثون عن ضرورة إبلاغ طبيب القلب الذي يتابعني، ثم يتحدثون عن المال وكلفة الفحوصات الجديدة. يفترض أنهم أخذوا موافقتي وأنا شبه مرتجف. كنت أفضّل لو أغفو قليلا لأن الجو أصبح باردا جدا لطول ما تعرّى جذعي.

مسيو حسين!

قال رئيس وحدة التصوير الطبي، ثم تابع وكأنه يعلن عن الفائز بجوائز الأوسكار:

لديك ثقب في القلب! والجهة اليمنى متضخمة.

“ما سبب هذا الثقب؟ من أين يأتي؟” سألته بهدوء وأنا أرتدي قميصي.

“خلقان معك هذا الثقب. معك منذ الولادة ” قال لي. وأضاف بنبرة تأنيب ”غريب! ألم تعرف عنه شيئا من قبل؟ ألم تجر فحوصات سابقة؟”

لا يعرف إله الطب هذا ساكن المدينة البحرية، أنني مثل أجدادي البدو ولدت في خيمة، وأن مهدي الأول كان “سحّارة” تفاح فارغة وضعوني فيها كي لا تقرصني الأفاعي والحشرات. ويجهل أيضا أن عمي الأوسط اسمه “حصيدة” لأن جدتي ولدته وهي تحصد الزرع، والذي سيموت لاحقا مطلع شبابه بعد أن قرصته أفعى ولم يصل في الوقت المناسب إلى مستشفى المدينة البعيدة.

//////////////////////////

جهاد هديب

 

الدوحة 7 فبراير/ شباط 2025

 

 

مرحبا جوج!

في أحلامي، كما في أيامنا معًا، أنا دائمًا ألعلع، وأنت تبتسم، أو تضحك ضحكتك الخافتة تلك. تبدأ بهمهمة، ثم تتصاعد تدريجيًا وتنتهي مثل “فرقعة البوشار”، كأنك تختنق لا تضحك.

أنت ميال إلى التحليل الدائري، وحين أصر عليك أن “تصيب كبد الحقيقة” بطريقة مباشرة، كنت تقهقه وتشيح بوجهك: “كل هوا”…

لك طريقة فريدة في إنهاء الحوارات.

بعد رحيلك، كتبت عنك قصائد، وأرسلت لك عشرات الرسائل.

لكن مؤخرًا، وأنا أغربل محتويات كتابي الأخير “شرفة آدم”، تذكرت أنني لم أكتب عنك يومًا مقالا، لم أراجع لك كتابًا، ولم أجرِ معك حوارًا صحفياً.

في أيامنا، كان ذلك أمرًا تفصيليًا، أنت لا تنتظره مني، وأنا لا أفعله.

كانت صداقتنا أعظم من التفاصيل، ومرصعة بالمحبة والثقة، كنت أراك تنسج مشروعك الشعري دون ضجيج، وكنت أشهد تحولاتك الشعرية بدون تنظير، كأنك نحات صامت.

انخلعتَ باكرًا وعن قصد عن الغنائية، ذهبتَ بعمق في خيار نثرية القصيدة.

كنتُ أناكفكَ حين أشعر بتخفيك في كتابة قصيدة جديدة، وأقول لك “شو! تكتب حجاب جديد؟”

وكنت أقول لنفسي: “سأكتب عن مشروعه الشعري بعد قليل”

لكنني لم أفعل. كنا نركض طوال الوقت.

لم أكتب عنك في حياتك، باستثناء أنك كنت بطلًا، أنت وزياد العناني، في مشهد روائي نشرته في مجلة “أوراق” أو موقع كيكا.

بعد عمّان، تناهبتنا عواصم الخليج، كلا في بلد.

أصبح الحديث متباعدًا، وغالبًا متركزًا في العمل الصحفي.

واللقاءات القليلة نقضيها في الضحك والنميمة، مثل أولاد المدارس المتهربين من وظائف الدرس.

إلا لقاءنا الأخير في أبوظبي، فقد ألححت عليك أن تعود إلى بيت فاطمة.

والآن ماذا؟

كلما مررتُ جانب المحطات تذكرتكَ

مع أننا لم نركب القطارات سويًا،

بل قضينا العمر نركض.

كنتَ فصيحًا في الكلام الخفيض والضحكات المكتومة،

لكنك تركتني للصمت،

جالسًا

عند صهد الخليج.

/////////////////////

محمد ظاظا
محمد ظاظا

شيوعي قديم

 

مكة المكرمة

 

11 يناير/ كانون الثاني 2011

دخلتُ المسجد الحرام من باب الملك فهد، عند الغروب تماما. كنتُ أسير بخطى مستهمة، وعيوني معلّقة بما سيظهر أمامي. سمعتُ كثيرًا عمّن زاروا الكعبة ورأوها للمرة الأولى:

منهم من بكى،

منهم من خارت قواه، ولم يقو على إكمال المسير، ومنهم من سجد قبل أن يصل.

أما أنا، فما أن رأيتُ الأسود الفاخر يكسو الكعبة، حتى رنّ شيء حولي، لعلي سمعتُ رنينًا داخليًا غريبًا، أو كأنّ شيئًا في المحيط اهتزّ.

لمحت نفسي بملابس الإحرام البيضاء. كنت أسمع صوت القماش يحتك بجسدي كلما خطوتُ. تختفي الكعبة أمامي وتظهر مجددا كلما واصلت السير.

تذكّرت الممثل اللبناني أنطوان كرباج، حين تنكّر في مسرحية “بترا“ ودخل المدينة الوردية. تسلل إليّ الإحساس ذاته: كأنني قائد روماني متنكر دخل مدينة سيُدمّرها بعد قليل. اقشعر بدني وعرفت أنني مقبل على اختبار مفصليّ. الدبيب ذاته الذي يعتريك حين توشك أن تكسب كل شيء أو تخسره دفعة واحدة.

عبرت أروقة المسجد الخارجية، دلفتُ إلى صحن الطّواف، وأخيرا صرت وجها لوجه أمام الكعبة. في اللحظة الأولى، رأيتُ ما يشبه البياض يغشى السواد، ربما غباش أو وميض في عتمة الليل.

هبطت الدرجات ومشيت على بلاط أبيض أملس. كانت آخر مساحة تفصلني عن لمس أستار الكعبة. ثمة أمواج تتدافعني.

ورَنَّ في أفق الكعبة سؤالٌ حادّ:

ماذا يفعل شيوعيٌ قديمٌ عند البيت العتيق؟

 

شاعر من الأردن مقيم في الدوحة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.