رشيد بوجدرة.. بورتريه للخراب

الأحد 2022/05/01

يعدّ رشيد بوجدرة من روّاد الرواية الجزائرية الحديثة بالفرنسية والعربية، لأنه يكتب باللغتين، وهذا منذ روايته الأولى “التطليق” (1969)، تلاها أكثر من ثلاثين نصا بين رواية ومقالة، أهمها “طوبوغرافيا مثالية لاعتداء موصوف” (1975) و”الحلزون العنيد” (1977) و”التفكّك” (1982). حاز على عدة جوائز من ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. كما شارك في كتابة سيناريوهات لأفلام سينمائية شهيرة. وإلى جانب ذلك شارك بقلمه السيّال في مواجهة الزحف الأصولي في التسعينات ووُضع اسمه بسبب ذلك في قائمة المحكوم عليهم بالموت، ولم تستثن سهامه، في آخر كتاب له، دعاة الردة والتغريب. في كل أعماله يحمل رؤية ثاقبة للعالم المتقلب وقراءة متحرية غير مهادنة وإنسانية في الوقت ذاته للأحداث التاريخية التي ترسم آفاق الغد. لم يفقد شيئاً من قوته الجسدية ولا من جذوته الروحية، ولم يسأم من الحياة، بالرغم من تجاوزه سن الثمانين. وهو دائم الفضول بأدق الأشياء المحيطة به وبأمهات القضايا التي تشغل بلده والعالم حواليه، مثلما يؤكده لنا في هذا الحوار الحصري الذي أجراه مع مجلة “الجديد”، بعد فترة توارى خلالها عن الأضواء. فترة كرّسها للتأمل والكتابة والسفر. بعد روايته (La dépossession) “التجرّيد من الذات” وكتابه السجالي “زناة التاريخ” (2017)، يعكف حاليا على وضع اللمسات الأخيرة لكتاب جديد.

“الجديد” التقته عشية افتتاح معرض الجزائر الدولي للكتاب العائد بعد عامين من الإغلاق الاضطراري بسبب الجائحة التي حلّت على العالم. وكانت المناسبة التي قرر فيها بوجدرة العودة إلى الظهور أمام الجمهور، خلال ندوة نظمت يوم الثامن والعشرين من مارس حول الأدب الأفريقي. وكان عائداً من بجاية ـ معقل الحراك الشعبي ـ حيث نشط ندوة التقى فيها بقرائه بعد طول غياب.

                                                                                       قلم التحرير

الجديد: تشهد الجزائر تحوّلات سياسية واجتماعية وثقافية كبيرة. كيف ترى مستقبل هذا البلد الذي واكبت كل مراحل تطوره منذ الاستقلال. كيف تفك رموز أحواله وتحولاته من خلال رواياتك؟

رشيد بوجدرة: تصنع الأمم مستقبلها بطريقة أو بأخرى لكن يستحيل أن تفعل ذلك بتجاهل ماضيها. كانت ثورة التحرير نموذجية وقاسية جداً. لذلك من الطبيعي أن تكون الإدارة السياسية شاقة ومعقدة. والتحولات التي تتحدث عنها هي دليل على ذلك. الجيل الذي خاض الحرب هو على وشك الانقراض وهناك أجيال جديدة دخلت عالم السياسة.

ثم هناك دخول الجزائر في دوامة العولمة الجهنمية التي أضرّت كثيراً باقتصادها. انتقلنا من نوع ما من الاشتراكية “المحتشمة” مع هواري بومدين إلى نوع من الرأسمالية “الهجينة” بل الهستيرية التي سلمت الاقتصاد الجزائري إلى مجموعة من اللصوص الجهلة. هم كل هؤلاء الذين نراهم يتعاقبون حاليًا أمام المحاكم التي تحقق في قضايا الفساد الذي حوّل بعض هؤلاء اللصوص إلى أباطرة مخدرات. وعلى الأجيال الجديدة أن تحترس جيداً وتبقى يقظة لأن الطيور الكاسرة ما زالت تحوم على البلد.

الإسلاميون والانتهازيون

الجديد: ماذا تعني لك انتفاضة 22 فبراير 2019؟

رشيد بوجدرة: كان لانتفاضة 22 فبراير دافع أساسي، ألا وهو قرار بوتفليقة الترشح لولاية خامسة. والشارع قال لا. وكان على حق. كانت هبّة عفوية وثورية. لكن سرعان ما تم اختراق هذه الحركة الشعبية العميقة وتم احتواؤها من قبل حركتين متربصتين وتملكان تنظيماً جيداً: الإسلاميون والانتهازيون من رجال الأعمال. أصبح الإسلاميون هكذا “سادة الموقف”، وكانت المظاهرات تنطلق عند انتهاء صلاة الجمعة. في إحدى التغطيات الصحفية، كتب الصحفي بن فضيل في جريدة “الوطن” آنذاك “إنها الساعة 1:11 بعد الظهر، انتهت الصلاة، وفتحت أبواب مسجد ‘الرحمة’ لتسمح بانطلاق المسيرة!”، يومها ماتت الثورة الشعبية بعدما استولى عليها الإسلاميون والانتهازيون الجشعون والطفيليون. ومن يومها بدأت فئات من الشعب المقهور والمظلوم والمهمش تغادر الساحات، معلنة عن موت الحراك.

زناة التاريخ

لوحة: كيفورك مراد
لوحة: كيفورك مراد

الجديد: يعيب البعض على المثقفين العرب صمتهم، وأحياناً تخاذلهم وتواطأهم، أمام ما يدور حولهم. كيف تتصور مكانة المثقف في المجتمع العربي المعاصر، مع كل الانقسامات والتجاذبات الموجودة بين الإسلامية والحداثة والعولمة وقلق الهويات…؟

رشيد بوجدرة: صمت المثقفين يعود إلى خيبة أملهم. أصبح الفكر الفلسفي والفني غارقًا في الشعبوية و”موضة الشبابية”. وأصبح الجميع يكتب والجميع ينشر، ارتقى الشباب، مع أن أغلب ما يكتبون رديء، في سلّم المجد بفضل السلطة السياسية وسيادة الرداءة.

في السبعينات، كانت الجزائر تنتج، على سبيل المثال، حوالي ستين فيلماً في السنة. اليوم: صفر! لا أحد استطاع أن يحل محل رسامين مثل خدة وإيسياخم ومسلي وغيرهم من الذين كانوا يحيون أروقة العرض وينشّطونها. من حل محل علولة في المسرح؟ هل كان لدينا كاتب ياسين جديد منذ رحيله؟ لا! دور السينما التي تم تجديدها تحوّلت من جديد إلى أنقاض، ومتحف “ماما” الجميل الموجود في شارع بن مهيدي مغلق. أمام هذا الكم من الخراب، تقوقع المثقفون الحقيقيون على أنفسهم وركنوا إلى الصمت مما سمح لبعض الانتهازيين بالذهاب إلى فرنسا وتشويه سمعة الجزائر إرضاء للمستعمر القديم، بدافع الانتهازية الخالصة. لم أسكت عن هذا فقمت بنشر “زناة التاريخ” للتنديد ببعض التجاوزات النيوكولونيالية. هذا هو صمت المثقفين!

كل هذه الانحرافات سببها الإفلاس السياسي ونحن في طريق مسدود بسبب فشل المدرسة والانحراف الديني وكل الآفات التي يعاني منها المجتمع الجزائري، وأخطرها انهيار الأخلاق. فلم تعد هناك قيم ولا أيّ قواعد انضباط وهذه الانحرافات هي نتيجة اليأس، ومن أوجهها الأكثر شيوعاً الانطواء على الذات وعودة الجهوية.

الجديد في حينه

الجديد: بعد صدور روايتك“La Dépossession”  عام 2017، هل لديك مشاريع جديدة؟

رشيد بوجدرة: بعد  “La Dépossession”نعم لديّ مشاريع، سيتعرف عليها القارئ في حينه.

مقتل عبان رمضان

الجديد: في رواية “Les Figuiers de barbarie“ التي نشرت عام 2010، ركزت على شخصية أحد رموز الثورة التحريرية، عبان رمضان وعلى ظروف اغتياله. لماذا هذا الاختيار؟ هل تعتقد أن الأدب يمكن أن يلقي الضوء بشكل أفضل على النقاط المظلمة من التاريخ؟

رشيد بوجدرة: في هذه الرواية رويت مقتل عبان رمضان على يد إخوانه. ففي مؤتمر الصومام الذي خطط له عبان، تم الفصل بين الاتجاه التقدمي والاتجاه المحافظ. ولقد تم تأديب عبان على انتصاره في هذا المؤتمر، الذي كان الأكثر ديمقراطية والأكثر حنكة. ولا يزال الموضوع من الطابوهات إلى حد اليوم، بعد مرور ستين عامًا! حان الوقت لطرح السيرة الحقيقية لحرب التحرير على الطاولة ومناقشتها بهدوء. كل ثورات العالم مرّت بمثل هذه الصراعات الداخلية وهذه الجرائم “الأخوية”. ولهذا لا بد من استعادة تاريخ الجزائر ابتداء من المدرسة الابتدائية، وحان الوقت لذلك.

الجديد: في أعمالك كثيراً ما تستشهد ـ وبشغف حقيقي ـ بكبار علماء التصوف وبنصوصهم. هل في رأيك بإمكان هذا الفكر، الحامل للتسامح والعقلانية، أن يكون علاجًا شافيًا لعلل العصر الذي يطغى عليه العنف والبغضاء وروح الانتقام؟

رشيد بوجدرة: هذا الحضور الدائم والمتعدد للصوفية في رواياتي يرجع إلى لقائي مع ابن عربي، معلّم الأمير عبدالقادر. والتصوف هو قبل كل شيء توغّل وتعمّق في أغوار الإسلام وشغف بالنص. والنص الصوفي يعتبر شاعرية سامية وعوالم تسمو بالنفس. دخلت فيها وانضممت إليها في سنّ مبكرة جدًا، وأنا في السابعة عشرة. هي فلسفة في حب الله والآخر، وشوق إلى السلام والصفاء بين جميع الأديان وجميع الفلسفات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.