ريني دي سيكّاتي

الشعراء والدّكتاتوريات
الجمعة 2022/04/01

وُلِدَ الكاتب والروائي رينيه دي سيكّاتي في تونس عام 1952، وهو مؤلف للعديد من الرّوايات من بينها “الذّهب والرّماد” (1986)، “بابل البحار” (1987)، “المُصَاحَبَةُ” (1994)، “أن تحبّ” (1996)، “الابتعاد” (2000)، “الضّيف إلاّ المرئي” (2006)، “طفولة، الفصل الأخير” (2017)، وكلها منشورة عند دار غاليمار. كما نشر عند دار سُويْ “خيال ناعم” (2002) و”نهاية” (2004)، كما أصدر عند دار فلامّاريون: “موضوع الحبّ” (2015)، وعند منشورات كَانُوِي “الجندي الهندي” (2022).

إلى جانب أعماله الروائية اهتم سيكّاتي بالترجمة عن اليابانيّة والإيطاليّة، وكرّس عدة أعمال نقديّة للأدب الإيطالي (سيبيلاّ أليرامو، بترارك، ألبرتو مورافيا، إلزا مورانتي). ونشر أيضًا مجموعة من المقابلات مع أدريانا أستي، تحت عنوان “تذكّر ونسيان” سنة 2011. كما كتب مصنّفا تحت عنوان “أصحابي الأرجنتينيّين الباريسيّين” (2014)، وقام بتأليف مسرحيّات ونصوص موسيقية غنائيّة. في سلسلة “فوليو/السّير”، نشر كتاباً عن حياة أسطورة الأوبرا العالميّة “ماريّا كالاس” سنة 2009.

ويعتبر ريني دي سيكّاتي المترجم الفرنسي الرّئيسي لبازوليني، الذي كرّس له أيضًا كتابا تحليليّا: “مع بيار باولو بازوليني” (منشورات روشي، 2022)، وسيرة له نُشرت مرّتين في 2006 و2022.

الحوار معه هنا أجري خصيصا لـ”الجديد” وحمل عنوان “لا يقتل الشعراء إلا في الدكتاتوريات”، وذلك في مناسبة مئوية ميلاد بازوليني.

                                                                                   قلم التحرير

الجديد: لنبدأ ببازوليني، الذي نحتفل بعيد ميلاده المائة في 5 مارس/آذار 2022. في هذه المناسبة، السّيرة التي كرّستها له عند منشورات غاليمار، بالإضافة إلى “أوصاف الأوصاف” (منشورات مانيفاست!)، المترجمة والمقدّمة من قبلك، وكتاب “بازوليني بقلم بازوليني”، الحوارات التي جمعها الأيرلندي جان هاليداي، ومجموعة محاضراتك عن الشّاعر والسّينمائي التي تصدر من جديد في مجلد ضخم عند منشورات الرّوشي، دون أن ننسى ترجماتك السّابقة لـ”السّوناتات” (“سلسلة شعر”/ منشورات غاليمار، 2012)، ورواية “بترول” (سلسلة “من جميع أنحاء العالم”، 1995)، وكتاب “المسيح حسب بازوليني” (منشورات بايار، 2018). هل يمكن أن تُخبرنا عن شغفك ببازوليني؟ ما الذي يبرّر هذه الشّعلة التي تتواصلُ منذ نصف قرن؟

ريني دي سيكّاتي: لا شكّ أن السنّ الصّغير الذي اكتشفتُ فيه بازوليني وأردتُ أن أُراسلهُ (كنتُ في السّابعة عشرة) يُفسّرُ جزئيّا تماسك هذا الشّغف الأدبي طوال حياتي. الطّبع عزّز نشاطي كمترجم ومحرّر وناقد الرّوابط ومنحها شكلاً دائمًا وعميقًا. كثيرا ما تحدّثتُ عن دهشتي عندما شاهدتُ فيلم (Théorème) “نظريّة” عام 1969 وعندما قرأتُ الرّواية التي تحمل نفس العنوان، لأنّني وجدتُ هناك مواضيع وحتّى شكلًا شعريّا انضمّ إلى كتاب كنتُ أكتبه حينها وأرسلتُ مخطوطته إلى بازوليني.

لم نلتقِ قطُّ، لكن عندما ردّ بإعطائي عنوانه في الضّواحي الثّريّة لروما، حاولتُ، وأنا طالب في بيروجيا، أن أزوره، وطرق بابه. كان غائبًا وكان تحديدا بصدد الاشتغال على فيلم جديد. اتّصل بي لاحقًا، لكنّني كنتُ قد غادرتُ إيطاليا. ومع ذلك، بصرف النّظر عن تفاصيل هذه السّيرة، التي كتبتُ عليها كثيرًا، ما يهمّ هو قوّة شخصيّة هذا الفنّان البروميثي الذي يمثّل بالنّسبة إليّ عودة ظهور نوع من المبدعين الذي كان موجودًا في نهاية العصور الوسطى وأوائل عصر النّهضة (مثل دانتي، مايكل أنجلو، ليوناردو دافينشي). بازوليني هو تجسيد للشّاعر الكامل الذي استوعب ضخامة التقاليد الفنّية والرّوحية الإيطاليّة وأعطى ابتكاراته شكلاً ثوريّا، سواء في قصائده أو في نصوصه السّرديّة أو في مقالاته النّقديّة والنظريّة وفي السّينما. إنّه فنّان للكلمات والصّور، تتشابك جماليّاته ورؤياه السّياسيّة. الالتقاء بمثل هذه الشّخصيّة ليس بالأمر الهيّن. في الحقيقة، أردت مقابلته ولم يتمّ ذلك “لَحْمًا وَدَمًا”، ولكن من خلال الرّسائل المتبادلة معه ومن خلال عملي ومعاشرتي لأعماله تمّ الحوار، حواري معها ومعه. طبعا، لم يكن من السّهل ترجمتها، في وقت لم يعد فيه اسم بازوليني لامعا أو بالتّحديد لم يُمنح بعد اللمعان الكامل حتّى يصل إلى أن يكون شيئا مثل ضرورة واضحة. كان النّاشرون متردّدين. لكن من دواعي سروري أن نرى أنّ مكانته استمرّت في النّمو وأنّ الذين يشكّكون في عبقريّته وشجاعته وطبيعته كفنان كبير متعدّد الأشكال فات عصره هم قلة لا تكاد تذكر.

الجديد: “حكم الله”، نصّ كتبته في تشرين الثّاني/ نوفمبر 2021، يُلقي الضّوء على اغتيال بازوليني، مع العلم أنّه صدر في عام 2017 كتاب آخر لِكارلا بينيديتي وجوفاني جيوفانيتي هو “مثليّ، هذا كل شيء. النّفط أو الجانب السّفلي المخفي لمقتل بازوليني”، (منشورات ميميسيس، 2017)، والذي يكشف عن مؤامرة حقيقيّة لاغتيال الشّاعر المخرج. ما رأيك في المسألة؟

ريني دي سيكّاتي: في هذا الفصل الإضافيّ الذي يلخّصُ العديد من المداخلات التي قمتُ بها على مدار العشرين عامًا الماضية حول هذا الموضوع، دون أن أتمكّن من تقديم أيّ دليل بنفسي، أصرّحُ بوضوح عن اقتناعي بأن المؤشّرات (من أوّل تحقيق أجرته أوريانا فالاتشي والذي نشر في مجلة “أوروبيو” بعد أسبوعين من الاغتيال، إلى آخر بحث منهجيّ قام به مخرجو الأفلام الوثائقيّة، وصولا إلى تحقيقات المحامين والقضاة) تكفي لاستبعاد أطروحة جريمة جنسيّة بسيطة أو جريمة شنيعة، ووضع الفكرة أوّلاً أنّ بازوليني قتل على يد عاهر مراهق عرضيّ، بعد موقف فاسد دام ليلة واحدة يُزعم أنّ ما حدث خطأ. في البدايةّ، اتّهم بينو بيلوزي نفسه بأنّه القاتل الوحيد، ثمّ تراجع (بمجرّد الإفراج عنه) بإعطاء رواية مختلفة تمامًا، والتي كانت، في الواقع، تلك المؤيّدة لمؤامرة سياسيّة: أي أنّه تم تكليفه بإغراء بازوليني (الذي كان يعرفه منذ بضعة أشهر فقط) في فخّ (بحجة إعادة أشرطة “سالو” المسروقة منه، وهو فيلم قد انتهى من إخراجه، لكنّ بعض المشاهد التي تمّ تصويرها سُرقت بالفعل). وتدخّل المتواطئون الذين حوّلوا ما كان يفترض أن يكون تخويفا إلى مذبحة كاملة. يأتي تعقيد الموقف من حقيقة أنّ الأتباع والجهات الرّاعية منفصلة من قبل عدّة وسطاء لا يعرفون بعضهم البعض ولا يعرفون المشاركين الآخرين فيما يجبُ أن نُطلقَ عليه اسم مؤامرة، وأنّ أسباب هذا الاغتيال كانت متعدّدة، مرتبطة بمقالات بازوليني وربّما بروايته “بترول”. كان البحث الذي أجراه بازوليني في قلب الدّوافع بلا شكّ حول ثلاثة مواضيع حسّاسة للغاية من النّاحية السّياسيّة: مقتل إنريكو ماتي، رئيس شركة النفط والغاز الوطنية، في عام 1962، وهجوم 12 ديسمبر 1969 (على ساحة فونتانا) ومحاولة بورغيزي للانقلاب عام 1970. كل الكتب التي تناولت هذا الاغتيال طيلة السّنوات العشر الماضية طوّرت هذه النّقاط، بشكل صريح أو مقنع إلى حدّ ما. لقد قاومتُ هذه الأطروحة لفترة طويلة (لعدم وجود أدلة مقنعة) لأنّني أعتقد أنّه لا يقع قتل الشّعراء إلا في الدّكتاتوريّات. لكنّ إيطاليا لم تكن دكتاتوريّة في عام 1975. ولكن، كما أثبت كتاب روزيتا لوي، “إيطاليا بين الكلب والذئب”، كانت سنوات الرّصاص (1970 – 1980) مليئة بالارتباك الكارثيّ، حيثُ كان من الصّعب للغاية فصل إرهاب الدّولة عن إرهاب مجموعات اليمين المتطرّف واليسار المتطرّف. وهكذا كان المناخ مواتيا للقضاء على المفكّرين المفرطين في الفضوليّة، الذين شجبوا التّلاعب بالمعلومات من جانب السّلطة التّنفيذيّة أو الشّرطة. وبهذه الطّريقة تمّ إقصاء العديد من القضاة الشجعان وحتّى بعض المفوّضين. اضطر ألبيرتو مورافيا نفسه إلى الفرار من روما واللجوء إلى البندقيّة، لأنّ التّهديدات أصبحت محدّدة للغاية وشعر أنّ حياته في خطر. وكان مورافيا أقل التزامًا في مقالاته وكتبه من بازوليني. ولاسيما أقلّ كُرْهًا من قبل الجهات السّياسيّة.

الجديد: أيّ مستقبل لأعمال بازوليني؟ بعد مائة عام من ولادته و47 سنة بعد اغتياله، هل تعتقد أنّه حصل على التّقدير والاعتراف الذي يستحقّ؟

ريني دي سيكّاتي يعتبر المترجم الفرنسي الرّئيسي لبازوليني
ريني دي سيكّاتي يعتبر المترجم الفرنسي الرّئيسي لبازوليني

ريني دي سيكّاتي: لم يتوقّف مجده والاهتمام الذي يثيره بين الأكاديميّين والطّلبة ومحبّي الأفلام وقرّاء الشّعر في إيطاليا وفي بقيّة العالم. ودون شكّ وخاصة في فرنسا. لفترة طويلة طمس المخرج الشّاعر. ثم طغى الكاتب المشاكس والمجادل على المخرج والشّاعر، لكنّنا نقرأ باستمرار “الرّسائل اللوثريّة” وخاصّة “كتابات القرصان”. أمّا الآن، فهو الشّاعر الذي يظهر بشكل كامل ويُعطي معنى لجميع أعماله. لكن ما تبقّى ليُقَيَّمَ بشكل كامل، في رأيي، هو روايته “بترول”، وهي تحفة فنية (على جميع المستويات: روائيّا، شعريّا، تحليليّا ووثائقيّا) مثلها مثل القليل من الأعمال في تاريخ الأدب الإيطالي. “نفط” عمل فذّ أقارن به غالبًا بـ”أسير عاشق” لجان جينيه، و”إغراء سان أنطوان” بقلم غوستاف فلوبير. وبالطّبع “الكوميديا الإلهيّة” التي تعتبر مرجعاً معلنا. ألقى الموت الغامض والأضحويّ لبازوليني (مقارنة بموت جان سيناك أو كارافاجيو ووينكيلمان) بظلاله الخاصّة على مجمل حياته وأعماله. إنّه خطر على صفاء التّحليلات، لكنّه فرصة للأسطورة، كما يمكن للمرء أن يقول، بحيث يصبح بازوليني نوعًا من الأيقونة الشّعريّة، مثل آرثر رامبو أو إميلي ديكنسون. أصبحت مثليّته الجنسيّة، التي كانت غالبًا سببًا للإهانات والاضطهاد والازدراء خلال حياته، على العكس من ذلك، مع تطوّر الأعراف في إيطاليا، ولكن قبل كل شيء في بقيّة العالم، ومع معارك كل الأجيال الجديدة من أجل حريّة التّوجه الجنسيّ، علامة على الشّجاعة وعنصرا فاعلا لصالحها، بحيثُ يظهرُ بازوليني كمحاور أساسيّ قبل زمانه للعديد من القرّاء الشبّان.

الجديد: روني دي سيكّاتي، أنت كاتب ومترجم ومحرّر أدبيّ، هل يمكنك إخبارنا كيف تعمل؟ هل سبق لك أن أحسست بتداخل هذه الأنشطة الثّلاثة؟

ريني دي سيكّاتي: بالنّسبة إليّ، هذه الأنشطة الثّلاثة مرتبطة ارتباطًا جوهريّا. أَضَعُ نفس الشّغف فيها، وحتّى إذا كان احترامي لذاتي كمؤلف يُعَانِي قليلاً في بعض الأحيان لأنّ الجزء الأكثر “شخصيّة” من عملي طغت عليه ترجماتي ونشاطي النّقدي أو التّحريريّ، فأنا لا أعير كتاباتي الشّخصيّة أهمّية أقل من ترجماتي من اللغة الإيطاليّة واليابانيّة. وأنا فخور جدًا بالتّعريف ببعض الكتّاب العظماء وذلك بعملي إمّا كمترجمٍ أو كمحرّرٍ. اعتمادًا على إلحاح اللحظة، تكون لأحد هذه الأجزاء من عملي الأسبقيّة على الأجزاء الأخرى، لكنّني لا أشعر بالإحباط. إنّها مسألة تنظيم، أي في الواقع عدم التّنظيم. عليك أن تكون مَرِنًا ومُتَاحًا، ولا تصبح أبدًا أسير الجدول الزّمني. يجب ألا يكون الانضباط والانتظام (رغم ضرورة ذلك) قيودًا أو شبكة شديدة الصّلابة. أقرأ بسرعة المخطوطات المقدّمة إليّ، فأنا لا أعطي بالضّرورة حكمًا أدبيّا، لأنّي أعلمُ أنّ التّحرير والنّقد ليسا علمًا، بل هما ذاتيّان بعمق ويعتمدان على حدود من يمارسهما، فأنا لا أتردّدُ كثيرًا لمعرفة ما إذا كان بإمكاني أن يكون لي دور في نشرها وإذا كنتُ أعتقد أنّ هذه نصوص تظهر لي ضروريّة ويمكن أن يشاركُها القرّاء الآخرون. لكن في الكثير من الأحيان لا تكونُ يديّ حرّتان تمامًا ولا يستمع الناس دائمًا إلى رأيي. أنا في الكثير من الأحيان في صراع مع القرّاء الآخرين في دار النّشر والتسلسل الهرميّ التّحريريّ. لا أريد أن أضيع الوقت مع أولئك الذين لا يفهمونني، سواء كانوا مؤلفين أو ناشرين آخرين. لكنّني أعلمُ، في بعض الحالات، أن أصرّ على مساعدة المؤلفين الذين أؤمنُ بهم والذين أعتقد أنّني أستطيع أن أكون وسيطًا فعّالاً بالنّسبة إليهم.

قمت مؤخّرًا بترجمة إديث بروك، وهي شاعرة مجريّة ناطقة باللغة الإيطاليّة، كانت قد نجت من معتقلات الموت خلال الحرب العالميّة الثّانية. لقد آمنتُ على الفور بهذا الصّوت العظيم، وتبع ذلك نجاحٌ باهر. هذه أوقات مهمّة. لا يعني ذلك أنّني استخلصتُ الغرور الغبيّ منه، بل هذا ما يعطي معنًى عميقًا لعملي. تتطلب ترجمة الشّعر أو نصوص لكتّاب ذوي أساليب مميّزة، الكثير من التّواضع. وكذلك الأمر في عمل المحرّر لأنّه محكوم عليه بالنّسيان مع الوقت. أمقتُ شخصيّا النّاشرين الذين يزعمون أنّ مشاركتهم ضروريّة لنتائج إصدار كتاب. إنّه مجرّد خدعة. الدّور الوحيد للنّاشر هو أن يكون، في أفضل الأحوال، في المكان المناسب في الوقت المناسب، مع القوّة المناسبة، ليكون بمثابة نقطة انطلاق. وأقول ذلك طواعية لأنّني لعبتُ هذا الدّور، وهو بلا شكّ دور حاسم، للعديد من المؤلفين. وقد لعب بعض النّاشرين هذا الدّور بالنّسبة إليّ (هيكتور بيانشيوتّي، إليزابيث جيل، على سبيل المثال لا الحصر). كمؤلف، لا أنسى أنّني ناشر. وهذا هو السّبب في أنّ كتابي الأخير، الذي رفضه ناشري المعتاد (مجموعة غاليمار التي ملّت من انخفاض مبيعاتي)، لم أرغب في عرضه على الدّار التي أعمل فيها كناشر سُويْ. لأنّه، نظرًا لعملي التّحريري، كنتُ سأستفيدُ من معاملة تفضيليّة مقارنة بالمؤلفين الذين أُجْبَرُ أحيانًا على رفض كتبهم لأسباب اقتصادّية. كيف كنت سأشرح لهم أنّني أُفَضِّلُ “نشر نفسي” بدلاً من نشرهم هم؟ بهذه الطّريقة، يمكن القول أنّ عملي كمحرّر كان له عواقب (سلبيّة إلى حدّ ما) على وضعي كمؤلف.

الجديد: أنت تتعاون مع مجلة “الآداب الفرنسيّة”، وهي مؤسّسة فكريّة تاريخيّة مرتبطة بالمقاومة ضدّ النّازيّة وباليسار الملتزم. هل يمكن أن نتحدّث في حالتك عن خيار سياسي متعمّد؟

ريني دي سيكّاتي: لقد كان إصرارًا ودّيًا من جان ريستا وفرانك ديلوريو، وبذلك صرتُ منذ أكثر من عشر سنوات مساهمًا منتظمًا في هذه المجلة التي نُشرت، عندما بدأت في الكتابة فيها، كملحق لجريدة “الإنسانيّة” التّابعة للحزب الشّيوعي الفرنسي. لقد كنتُ محرّرا ملتزمًا جدًا في جريدة “لوموند”، تحديدا في الصّفحات الأدبيّة. كان فرانسوا بوت ونيكول زاند وهيكتور بيانشيوتّي وخاصة جوزيان سافينيو من شجّعوني على الانضمام إليهم. كتبتُ هناك كثيرًا، لمدّة ثلاثة وعشرين عامًا، بحريّة تامّة. عندما غادرت جوسيان الصّحيفة، طردني الفريق الجديد ليس دون إذلال. كنت محبطًا، فكّرتُ في إيقاف كتابة المقالات النّقديّة، عندما فتح جان ريستا (الذي كنت أعرفه منذ فترة طويلة والذي تجدّدت العلاقات معه بفضل صديقتنا المشتركة سيلفيا بارون سوبرفييل) الذي دعاني بالفعل للتّعاون من حين إلى آخر. وكان ذلك ولا يزال فرحة كبيرة. نحن ندفعُ ثمناً باهظاً، إذا جاز التعبير، لأنّنا جميعاً متطوّعون والصّحف قليلة البيع وهي تكاد تكون غير موزّعة في الأكشاك. لم تعد “الآداب الفرنسيّة” تظهر على الإنترنت. فقط المشتركون يقرؤونها. البيئة السّياسيّة هي بالتّأكيد ذات نزعة إنسانيّة يساريّة، لكن ليس لدينا شعور بوجود معركة أيديولوجيّة. يمنحنا رئيس التحرير، جان بيير هان، حريّة التّعبير الكاملة، دون رقابة أو ضغط، وهو ما لم أجده في أيّ مكان آخر. لقد تمّ التّرحيب بي للتّو كمتعاون خارجي في صحيفة “La Repubblica” (الجمهوريّة) الإيطاليّة، لكن انطلاقا من مقالتي الرابعة، شعرتُ بالرّفض. وهذا ما يجعلني أنفر. كتبتُ أيضًا بحرية تامّة في التّسعينيّات في “Il Messaggero” (المراسل)، الصّحيفة الرّومانية اليوميّة. لكنّ هذه الحريّة مرتبطة فقط بالثّقة الشّخصيّة. من أجل ذلك، أنت في حاجة إلى محاور يتمتّع بمكانة فكريّة عظيمة، وروح حرّة ترحّب بالأرواح الحرّة، وصداقة فكريّة حقيقيّة. وهذا نادر جدّا. ليست “الصّداقة” ولا “الفكر” مصطلحين مناسبين للحديث عن معظم الملاحق الأدبيّة، والتي هي بشكل عامّ انتهازيّة ومليئة بالمحرّرين المتواضعين والمبتدئين، وغالبا ما يكونون كتّابا فاشلين. وبالتّالي، فإنّ خياري ليس سياسيّا، باستثناء أنّ كل شيء سياسيّ… خياري هو التّقارب العميق، وبالتّأكيد لا يوجد تقارب عميق غير متجذّر في أرضيّة سياسيّة مشتركة. لكن دعنا نقول إنّه لم يتمّ التّفكير في الأمر على أنّه خيار أيديولوجيّ ولا حتّى خيارا طائفيا.

الجديد: إذا كان عليك أن تبدأ من جديد، فما هي الخيارات التي ستتّخذها؟ إذا كان عليك أن تتجسّد في كلمة، في شجرة، في حيوان، فماذا ستكون في كل مرّة؟ أخيرًا، إذا كان لا بدّ من ترجمة نص واحد لك إلى لغات أخرى، إلى العربيّة على سبيل المثال، فما سيكون ولماذا؟

ريني دي سيكّاتي: أوه، هذه أسئلة متعدّدة. لديّ ندم واحد، هو عدم معرفة اللغة الموسيقيّة بشكل أفضل. التّأليف الموسيقي بالنّسبة إليّ هو نموذج أطمح إلى جعل كتبي شبيهة به، وهذا أمر مؤكّد. قلت ذلك، كان جدّي الأبويّ موسيقيّا، وأبي أيضا، وجدّتي الأبويّة كذلك (لقد علمتُ ذلك متأخّرًا، لقد درست الموسيقى في معهد بوردو الموسيقي لتكون مغنّية أوبرا)، أخي محبّ للموسيقى جدًا، كان صديقي الياباني عازف بيانو وغالبًا ما رافقني في الأغاني التي كنتُ أؤدّيها بشكل سيّء للغاية مثل رولان بارت؛ كان جدّي التّونسي حْمِيدَة يحلم بتكوين فرقة موسيقية مع بناته. وكان لاعب كلارينت. كتبتُ الكثير من الأغاني والمسرحيّات الموسيقيّة والأوبرا. العمل مع الملحّنين والمغنّين متعة حقيقيّة بالنّسبة إليّ. لذلك إذا اضطررتُ إلى التّناسخ في كلمة واحدة، فستكون بالتّأكيد موسيقى. بخصوص الشّجرة، فستكون شجرة الحكمة. يجب أن يكون للحيوان وعي بشريّ، لأنّني لا أستطيع تخيل الحياة دون وعي. ولذا لن يكون حيوانًا تمامًا. ولكن أشبه بوحش: أي نصف حيوان ونصف إنسان، شيء مثل حورية البحر. إذا كان لا بدّ من ترجمة نصّ واحد إلى العربيّة، فسيكون “المُصَاحَبَةُ”، وهو نصّ سرديّ موجز نشرته عام 1994، يدور حول وفاة صديق محرّر وكاتب ومترجم، جيل باربيديت، بسبب مرض السّيدا. إنّه تفكير في الموت في المستشفى، وتفكير في تجريد الإنسان من إنسانيّته، وبالطّبع تفكير في وباء أكثر فظاعة من وباء الفايروس الذي عشناه للتوّ والذي كانت له عواقب اقتصاديّة ويوميّة هائلة، ولكنّه لا علاقة له بالمأساة التي كشفت عن السّيدا وفايروس نقص المناعة البشريّة، والتي غيّرت بشكل عميق نظرة الإنسانيّة إلى الحياة الجنسيّة. تمّت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغتين الإسبانيّة والبرتغاليّة واليوم هو بصدد التّرجمة إلى الإيطاليّة والعبريّة. لقد كان موضوع العديد من الدّراسات. هذا هو الكتاب الذي أردتُ محو نفسي فيه لأترك المريض الذي كنتُ أرسمُ صورته يظهرُ. هذا الكتاب واحد ممّا أعبّرُ فيه بوضوح، كما يبدو لي، عما أنتظره من الأدب. أعتقدُ أنّه ليس من الضّروري معرفتي شخصيّا للتعرّف على الجوانب المختلفة من حياتي كما تظهرُ في هذه المقابلة لفهمها. في حين أنّ كتبي الأخرى، في نظري، تطلبُ، من أجل الولوج إليها، أن يكون لدى القارئ فضول وتحيّز إيجابيّ (كما هو الحال مع معظم الكتّاب، بغضّ النّظر عن قيمتها).

لوحة: محمد شبيني

                                                                           المُصَاحَبَةُ

                                                             مقطع من رواية (1994)

                                                                 ريني دي سيكّاتي

ما أيقظني في اليوم التّالي كان حلما. كان بجانبي في السّيارة. كان يقول لي: “أتتركني أموت. أنا أموت ولا تفعل شيئًا!”

اتّصلتُ بمكتب الممرّضات. أجابتني سيّدة من الأنتيل. لم تكن تلك الصّاخبة. أخبرتني أنّه قضّى ليلة مثل أيّ ليلة أخرى. لكن عندما وصلتُ، أخبرتني بنفسها أنّ الأمور لا تسير على ما يرام. كان يختنق.

لم يعد هناك أيّ غشاء يفصل بين الحلم والواقع. جلستُ بجانبه. لم يأخذ دواءه بعد. كان ينتظر الطّبيب الذي كان قد رآه في وقت مبكّر جدّا من صباح ذلك اليوم. قال جملة لم أفهمها على الفور: “متى ستتوقّفون جميعًا عن اللّعب معي؟”. أراد أن يقول إنّ الطبّ لم يف بوعوده، ليس لعلاجه، ولكن للتّخفيف من معاناته، وأنّنا نحن أصدقاؤه، والممرّضات والطّبيب، متواطئون في هذا العجز غير المعلن بالرّغم من وضوحه.

ربّما كان سيخضع للعلاج الكيميائيّ دون انتظار انتهاء العلاج بالمضادّات الحيويّة. شرع الأطبّاء المتربّصون في القيام بجولتهم: كانوا أطفالا يفتحون أعينهم المذعورة أمامه. كانوا يأخذون نبضه ويجدون حالته طبيعيّة. كانت شفاهه زرقاء ولم يكن يستطيع فتح عينيه.

خضع إلى عمليّة نقل دمّ، لكن لم تكتسب خدوده أيّ لون. وصلت الطّبيبة النّفسيّة. تركتهما وحدهما. انتظرتُ في الرّواق. كانت زائرة كاثوليكيّة بصدد التقدّم، ورأسها منحن إلى الجانب، تعلو وجهها ابتسامة ثابتة. كانت تختلس النّظر، يمينًا ويسارًا، من خلال الأبواب نصف المفتوحة، إلى المرضى المستلقين. كانت امرأة عجوزا رماديّة اللّون تمشي على رؤوس أصابعها بخطوات راقصة. واستقبلتها ضحيّةٌ راضيةٌ.

أصبحت عاملات التّنظيف منتبهات للغاية لي. كنّ يعرفن ما كان يحدث عندما كان الأطبّاء المتربّصون يجدون طبيعيّا نبض رجل محتضر ذي شفاه زرقاء.

كانت الطّبيبة النّفسيّة تروق له وكان قد أثنى عليها عدّة مرّات. عندما شرعت في المغادرة، استوقفتها قبل الدّخول. “إنّه بحاجة إلى بعض…” لم أفهم، اعتقدتُ أنّها كانت تصف اسم مسكّن للألم. كَرَّرَتْ: “الموسيقى”. كانت تبتسم بعصبيّة وتتحدّث بطريقة متقطّعة. هل من الصّعب إذن معرفة أنّ المرء يرى الموت عندما يكون الموت هنا؟

صرخ باسمي. هرعتُ إلى غرفته. “لا تتركني وحدي هكذا لفترة طويلة”. أخبرته أنّني كنت أتحدّث مع الطّبيبة النّفسيّة. “إنّها لا تفهم أيّ شيء.”

جلستُ مرّة أخرى بجانبه. سألني عن صديقه الكاتب الآخر: “هل يَعْتَقِدُ أنّهم سيتمكّنون من إنقاذي؟”.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.