سلطة الصورة وسلطان ما يشاهد

الثلاثاء 2022/11/01

لقد أصبحت الحداثة الإنسانية المعاصرة حداثة للصورة، فالصورة في الزمن الراهن وبكل تمفصلاتها وتجلياتها تطارد الإنسان الحديث أينما حل وارتحل، فهي تفتح عليه باب منزله دون استئذان عن طريق التلفاز والإنترنت وغيرهما من وسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت ثورة في المفاهيم، وقلبا للقيم المتداولة وتدويلا لها في ظل ما بات يعرف بالمد العولمي (Mondialisation) الذي اخترق كل المجالات الحياتية للإنسان المعاصر. مما نجم عنه رواج مجموعة من المفاهيم كالمجتمع الرقمي، ومجتمع الصورة، والمجتمع المشهدي، والمجتمع الفرجوي، وما إلى ذلك من المصطلحات المرتبطة بالثقافة البصرية في الخطاب العالمي المعاصر، وهو ما حدا بالبعض إلى وصف الصورة باعتبارها مدار هذا التحول المفاهيمي بكونها خطابا أيقونيا يميز لغة العصر؛ عصر يمجد الصورة مقابل المحتوى، والشكل بدل المضمون، والظاهر بدل الباطن، والسطح بدل العمق([1]) ، الأمر الذي يعني هيمنة الصورة وسيادتها لتكون إحدى أهم أدوات عالمنا المعرفية والثقافية والاقتصادية والإعلامية، فالصورة ليست أمرا مستجدا في التاريخ الإنساني وإنما تحولت من الهامش إلى المركز، ومن الحضور الجزئي إلى موقع الهيمنة والسيادة على غيرها من العناصر والأدوات الثقافية والإعلامية.

إذا اعتبرنا أن ثمة هنالك سباقا بين الكلمة والصورة في العصر الحديث، فمن المؤكد أن الصورة فازت بالسباق وأصبحت رهان المجتمعات الحديثة. وإذا كانت الصحافة المكتوبة ودور النشر قد استرجعت ازدهارها في الألفية الثالثة، فإن التلفزيون أيضا زاد انتشاره مع بروز المئات من المحطات التلفزيونية في أرجاء العالم كافة. كذلك تشهد الصورة المتحركة ثورة جديدة من خلال ثورات التلفزة. ويبقى أن سيول الصور المتدفقة في شبكة الإنترنت تؤكد هوس هذا العالم بالصورة ([2]).

أصبح للصورة الآن سلطتها التي تستمدها من طغيان ثقافة بصرية/مرئية تتسيد العالم عبر تكنولوجيا الإعلام والاتصال بالشكل الذي يضاعف من قيمتها وحجم تدفقها حيث أغرق عالم اليوم في وفرة وزخم هائل من الصور، ففي سنة 2003 مثلا بلغ عدد الصور التي تم التقاطها في العالم حوالي 120 مليار صورة، ليصل سنة 2007 إلى 630 مليار صورة ([3]). إننا نعيش يوميا اصطدام الصور بالحياة وما نلحظه هاهنا إعلاء للثقافة البصرية وتكريس لهيمنة الصورة على مختلف أوجه النشاط الإنساني([4]) . لقد أصبح العالم لقطة في آلة تصويرنا الرقمية حيث صارت الصورة كلغة مرئية في الحاضر تجتاح جميع المجالات، لقد كان لوسائل الإعلام والاتصال دور بارز ومؤثر في ذلك، من خلال نقل الأحداث والمشاهد الحية لحظة وقوعها، مختصرة بذلك الزمان والمكان، فارتبط إدراك الإنسان المعاصر للحياة وأحداثها بما تنقله أو تقوله الصورة حيث حلت الصورة محل الإدراك المباشر للذات أو لنقل بعبارة أخرى لقد حلت الصورة محل الواقع([5]) . ومن هنا يمكن أن نفهم أيضا ما أحدثته الصورة من انقلابات على مستوى المعلومة ونوعها ومصدرها منذ نهاية الألفية الثانية بحيث أصبحت الصورة سلطة تخترق أنسجة المجتمع العالمي. فالصورة موجودة حيثما كنا وهي لا تكف عن التدفق والحضور في كل لحظة من اللحظات، وبالتالي بات من الصعب جدا تصور العالم من دون صور، بل إن التفكير مستحيل من دون صور على حد تعبير أرسطو([6]).

مهدت الصورة للطاقة البصرية لاختراق المخيال العام، وبالتالي الانشغال الذهني، وصولا إلى هيمنة المخبوء على الوعي، أي عبور الرسالة في الصورة إلى مربع اللاوعي، بما جعل الصورة مهمة تتجاوز البصر إلى البصيرة. فانحلال حدود الصورة يحيلها إلى مضخة معرفية مكتظة بحزمة دلالات وإيحاءات وتعبيرات لا تنتمي إلى مجرد البعد الجمالي أو التقني، فثمة رسالة غير مرئية تتسرب خارج الحدود الرسمية للصورة، تسهم في إنجاب كوكبة مفهومية تعكسها معظم المجالات الثقافية والمعرفية المسؤولة عن صنع الوعي. فالمخزون الدلالي للصورة يجعلها أداة اتصالية عالية التأثير العاطفي والمعرفي، بل تحيلها إلى وسيط حواري ممتد، محدثة غزارة في المعاني والدلالات وحضورا كثيفا في المشهد الثقافي والمعرفي اليومي.

تناغم كبير

تحمل الصورة سلطة خاصة في كل العصور، كما أن لكل عصر صوره أي سلطته وهي في ظاهرها مجرد وسيط، وفي جوهرها قوة تتجاوز الوسيط لتتملك المشاهد، ومن هنا قد يأتي خطرها ([7]). إنها أشبه بالعصا التي تتحول إلى أفعى في صيغة إعجازية مهما تعددت أشكالها ومادة صوغها وطرق عرضها. فالصورة تلاعب الإنسان، تهبه وهم تملكها بقدر ما تسلبه هذا الوهم حين تبلغ به طور التورط. فمن الصنع اليدوي إلى الاستنساخ الآلي حافظت الصورة على آلياتها في المراودة والإيهام بالحقيقة والواقع، بينما قوي ضارب إيهامها وتملكها لجميع جوانب حياة الإنسان ([8]).

ولا تقف سلطة الصورة عند هذا الحد، بل إن قوتها تكمن أيضا في قدرتها على تأليب الرأي العام وقلب موازين القوى من طرف إلى آخر، وما إلى ذلك من المجالات التي تتدخل فيها فتحدث شرخا في المتواصل، أو تعميقا له نظرا لقدرتها العجيبة على تنميط العلاقات، وكذا تكسير النمطية السائدة. فقد يحدث بث صورة مثلا على فضائية ما لا يحدثه نشر كتاب بأكمله وهو ما دفع بالبعض إلى القول بعصر الصورة وبحضارة الصورة ([9])، حيث غدت الصورة في مجتمعاتنا الحديثة مصدرا لصناعة وإنتاج القيم والرموز وتشكيل الوعي والوجدان والسلوك وإدارة الأزمات المتعددة كما أنها لم تعد مجرد شكل، إنها أكثر من ذلك مادة مكتنزة بالخطابات والرسائل والدلالات وهي تلعب نفس الدور الذي لعبته الكلمة في الخطاب التقليدي، مع فارق يكمن في قدرتها على تعميم مضمونها.

إن قوة الصورة وسلطتها تكمن أيضا في كونها بمثابة نص مرئي منفتح على اللغات قاطبة، بل إنها تلغي اللغة وتصنع لنفسها لغتها الخاصة، وهذا جزء من خطورتها ([10]). فالصورة يمكن أن توظف في وعي المتلقي فكرة غير مطابقة تماما لواقع الحال، بل إنها قد تساهم أحيانا في خلق عوالم وهمية جديدة قد تستخدمها مؤسسات أو إدارات أو أفراد لتركيبها بما يحقق أيديولوجية أو مصلحة، وبشكل قد يصل إلى حد التناقض، مثل تصوير الإدارة الأميركية لاحتلال العراق بأنه عملية تحرير أو وصف الفدائيين الفلسطينيين بالإرهابيين أو غيرها من المتناقضات الأمر الذي يتطلب نوعا من الحيطة والحذر ووضع مسافة من شأنها أن تمنحنا القدرة على فهم الصورة وإدراك آليات اشتغالها.

ولأن الصورة كيان مربك، بل ومخيف أحيانا، فإن كثرة الصور جعلت المشاهد يعيش المشاهد في حاضر أبدي وفقدان للتاريخ؛ نظرا لتسارع التاريخ([11])، لقد أسقطت الصورة الدور المحايد للمتلقي، وأملت عليه مهمة أخرى ليصبح متفاعلا، إذ لم تعد الصورة تسجيلا للحظة مرئية في مكان ما، إذ تجاوزت وظيفتها التقنية ودخلت في عملية الصياغة الذهنية وفي لعبة الحقيقة والتزييف ولعبة التنميط والقولبة والنمذجة وفي مختلف أبعادها الإعلامية والثقافية والترفيهية والسياسية.

وبقدر ما تساهم الصورة في تصوير الحدث الواقعي فإنها تعمل أيضا على خلق الحدث ([12])، بل إن الصورة يمكن أن تصير نفسها هي الحدث ونلفت الانتباه هنا إلى أن الصورة كسلطة بصرية قد أصبحت تستغل لأجندات معينة وخاصة أثناء إدارة الأزمات السياسية والعسكرية والصراعات الأيديولوجية. ويعبر ريجيس دوبري عن هذه الفكرة بما يعرف “بحرب الأيقونات” أو ما عرف عند الفرنسيين أيضا “بحرب الأعصاب” ([13])، وفي هذا السياق اعتبر ريجيس دوبري بأن حرب الخليج مثلا كانت حرب رؤية بصرية بامتياز([14]).

ومن خصائص الصورة أيضا ما تؤديه بوصفها نصا متحركا؛ فالخبر المصور يحول المشاهد إلى شاهد عيان، نظرا لتدخل عناصر إضافية هامة، هنا يمكن إبراز العناصر التالية: إلغاء السياق الذهني للحدث، السرعة اللحظية، التلوين التقني، تفعيل النجومية وتحويل الحدث إلى نجومية ملونة، القابلية السريعة للنسيان أو إلغاء الذاكرة.

تبدو الصورة أحيانا مزعجة، وتُمنح إمكانيات وسلطا خارقة تجعل من يمتلك الصورة يمتلك الشعور، ذلك أن الانتقال من الرمز تجاه العلامة، أو من النص صوب الصورة، أدى إلى ظهور الدولة الجذابة، دولة الزر الذي يستطيع أن يتحكم ويتسلل إلينا على صورة أو جسد أو روح، ليضغط على نفسيتنا ويجعلنا منهزمين ومصدقين لما نراه. ذلك أن الصورة وحسب تعبير ريجيس دوبري هي التي تصنع أسطورة العصر الحديث ([15]).

 

الهوامش: ([1])- عبدالسلام بن عبدالعالي: ثقافة الأذن وثقافة العين، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2000، ص: 62.
(2) –Marie Héron, Les métiers de l’image, Paris, Ed. Carnot, 2000, p.35. (3)- جمال الزرن: “قراءة في ذاكرة الغد: وسائطية الصورة وتوثيقها“، مقال على الخط: http://doc.aljazeera.net/magazine/2011/01/20111574415810830.html تاريخ الدخول إلى الموقع 20/05/2013.
(4)-إسماعيل الأمين: الكتابة للصورة، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2010، ص: 68.
(5)- منير مهادي: “سيمياء الصورة البصرية من حال التواصل إلى فعل التأويل“، مقال على الخط: http://www.arrafid.ae/arrafid/p20_9-2012.html تاريخ الدخول إلى الموقع 20/05/2013.
(6)- شاكر عبدالحميد: عصر الصورة السلبيات والايجابيات، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 311، يناير 2005، ص: 7.
(7) –Ralph Deconinck, «Le pouvoir des images. De l’histoire des mentalités à l’histoire des cultures visuelles», in Clio, 125, avril-sptembre2006. Revue de l’Association des historiens et du Département d’histoire de l’UCL. En ligne : http://www.uclouvain.be/cps/ucl/doc/ucl/documents/clio125.pdf consulté le
11/06/2013.
(8)- نزار شقرون: معاداة الصورة في المنظورين الغربي والشرقي، تونس، دار محمد علي للنشر، 2009، ص: 7.
(9)- عصر الصورة هي مقولة آبل جونز سنة 1926 وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارت في مقالته المشهورة “بلاغة الصورة” في مجلة “تواصلات” العدد 4 سنة 1964، بأننا نعيش حضارة الصورة ، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارت بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، ما دامت الصورة عينها نسقا سيميائيا لا يمكن كما يرى بارت أن يدل أو يخلق تدلالا تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني. فالصورة عاجزة أن تقول كل شيء في غياب العلامات اللسانية لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من السديم. راجع : عبدالمجيد العابد: السيميائيات البصرية قضايا العلامة والرسالة البصرية، الشركة الجزائرية السورية للنشر والتوزيع، 2013، ص: 43. انظر أيضا : p.5. Joly Martine, Introduction à l’analyse de l’image, Paris, Nathan, 1994, –
(10)- مخلوف حميدة: سلطة الصورة، بحث في أيديولوجيا الصورة وصورة الأيدولوجيا، تونس، دار سحر للنشر،2004 ، ص: 59.
(11)- مصطفى حجازي: حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوات الأصولية، الدار البيضاء–بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000، ص: 51.
(12)-زيدان الجبوري: “مفهوم الصورة الذهنية في العلاقات العامة“، مجلة الباحث الإعلامي، العدد 9-10، حزيران- أيلول، 2010، ص: 171.
(13) –Régis Debray, Vie et mort de l’image, une histoire du regard en Occident, Paris, Gallimard, 1992, p.370.
(14) –Ibid., p.326-327. (15)-سعاد عالمي: مفهوم الصورة عند ريجيس دوبري، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2004، ص: 77.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.