في كيمياء الإحساس

الخميس 2020/10/01
خالد تكريتي

ليس للأحاسيس نفس الصّفات، فمنها ما يعرّف بلونه الدّاكن الحزين أو الفاتح الزّاهي ومنها ما يعرّف بارتباطه بالأصوات والألحان، ومنها ما هو متّصل بالأمكنة والجهات.

فلو شبّهنا الأحاسيس بالأجساد وألّفنا لأجلها سنفونيّة لكي ترقص، فكيف ستكون أشكالها؟

خيوط طويلة أو قصيرة، عريضة أو نحيلة، قادرة على التحليق والسفر أو ربما متقطّعة أو مسترسلة، ترنو إلى النّور والشّمس، نابعة من قلوبنا مكمن جلّ المعارف الحسيّة.

ولمعرفة أصنافها، لا بدّ لنا من التّوغل في الذاكرة واكتشاف نشأتها، في تلك اللّحظة الّتي تقبلّت فيها حواسنا لونا أو صوتا أو رائحة ما، كانت قادمة إليها من العالم الخارجي، وأثناء مرورها، علقت بعض آثارها بأنفسنا، فشرعنا في قراءة علاماتها ومؤشراتها نؤوّل الحدث أو اللّقاء أو المكان الّذي انبثقت منه لنسدي عليه معنى من المعاني.

الإحساس إذن، هو ذلك المسار الطويل النّابع من حواسنا عند تفاعلها مع الألوان والأشكال والأصوات والأمكنة حين تنفذ إلى القلب فتجعله منفتحا أو منقبضا للمصدر الذي أرسلها.

على امتداد التجارب، تتحوّل الأحاسيس المتراكمة في مقام العلوم والمعارف التي يدركها القلب أثناء تأثّره بكيمياء العالم متجاوزا قفص الجسد نحو ما هو أرحب.

ويمكن القول، على سبيل الاستعارة مثلا، إنّ من بين خيوط “الإحساس” ما هو سميك أو نحيل أو ممتدّ أو قصير أو منقطع أو مسترسل، ذات الألوان المتقلّبة، أرجوانيّة، ورديّة، بنفسجيّة، رماديّة، سوداء قاتمة، ضبابيّة أو نورانيّة، يمنحها القلب القدرة على التحليق حسب موجاته واندفاعاته بالانفصال الجزئيّ أو الكليّ عن الجسد ثمّ الرجوع إليه في حركة مدّ وجزر.

فالإحساس هو ذلك التّدفق النّابع منّا، العائد إلينا المحملّ برسائل عديدة ذات صلة بالعالم الخارجيّ أو المنقطعة عنه، فإذا نحن تارة منشغلون بما يدور داخلنا وطورا بما يدور حولنا، نعيش تلك الجدليّة المستمرة، فلا نتوقف عن القراءة والتأويل أبدا.

ومهمّة العقل في كلّ ذلك هو شدّ عقال الأحاسيس حتّى لا تنفلت تماما، فيصيبنا الجنون ذلك الاعتكاف داخل أنفسنا الشبيه بتعلّق الجنين ببطن أمّه، فقد تكون عبارتا الجنون والجنين من أصل واحد لتشابه ما يحصل للمجنون والجنين من قطعية مع الواقع.

ما الذي يزّج بالقلب ثمّ بالنّفس لخوض مغامرة الانسياب خارج ما هو معقول وممكن؟ أهي علامة يحملها وجه ما، أم انتظار لحدث ما، أم الرّغبة في السّفر إلى مكان ما، أم التّوق لتحقيق حلم ما؟

بل، لعلّه سعيهما لإدراك جوهرهما ومعرفة ما أتيح لهما من الإمكانيات لخوض مغامرة الحسّ واكتشاف أسرار المادة، ما ظهر منها وما بطن والمروق على كلّ الأنظمة.

فالإحساس ليس مقتصرا على جنس معيّن أنثويّا كان أم ذكوريّا، وهو لا ينّم لا عن قوّة ولا عن وهن، لأنّه الحياة بصفتها توازنا هشّا ومستمرّا في الآن نفسه.

مركزه القلب النّابض، لاتّصاله بالزّمن وتتالي اللّيل والنهار ولرغبته في التحليق بفضاء هوائيّ مجهول.

أما لغته، فهي موسيقيّة تتألّف من رجع الصّدى، نبرات الصّوت وخصوصياتها، الغناء، الألحان المتغيّرة صعودا هبوطا، المركّبة منها والبسيطة، القديمة والحديثة، كتلك التي تذكّر بالمطر والماء بالنّار والرّيح، بالعاصفة وتقلباتها، أو الأصوات التي تعيد تأليف ما تتغنّى به الطيور أو تلك الّتي تذكّرنا بالغياب والزّوال والانهيار.

جميع القصائد نابعة من الإحساس وكذلك الرسوم بألوانها وهندسة الأمكنة، جميع ما هو فرح وانتشاء أو حزن هو من جوهر الإحساس، وكلّ ما نرغب فيه وننتظره.

حين تأملّت أحاسيسي وشرعت أرقبها داخلي أثناء مضيها وتجددّها، انتابتني الرّغبة في البكاء الشديد، ثم في الرّقص تحت حبات المطر المتهاطلة وعادت إليّ ألحان الأغاني القديمة لتذكرني بألوان العالم بالجهات والأمكنة وبالروائح القديمة، فإذا بها مذاق الدنيا وألوان صورها المتعددة ومواقعها في الوجود.

لقد تنكرت القيم التي تنظّم علاقاتنا لأحاسيسنا خشية أن تتجاوز المحظور واعتبرتها من ضروب العمى والجهل والاندفاع ومجّدت السلطة والنظام فقتلت معنى الحياة للبحث عنه من جديد.

أتكون تلك هي إحدى مظاهر العدميّة، قتل الإحساس بعد استفزازه ثمّ استنزافه بواسطة البضاعة الّتي تعرضها التّجارة الحديديّة البلاستيكيّة المصنّعة، وجلبه إلى حلبة البورصة و”الموضة”؟

هل ما نشعر به من أحاسيس متصلّ بالأشياء من حولنا، أم بالأشخاص والأوضاع والزمان والمكان والموجودات الأخرى كالطبيعة والحيوانات، أي بما هو حياة ووجود؟

أرى أحاسيسنا مثل الرّماد الذي يخبو بعد اشتعال النار، فيتحول إلى ركام تخفيه القبعات والأقنعة والبدلات والمكاتب والجدران والسيارات والأبواب والأقفال والأسوجة والبنيان فتغيب من ورائها جلّ مظاهر الحياة لتتحول إلى حكايات نحكيها حتى توقظ فينا السعي وراء المتعة والبهجة والسعادة والمحبة وغيرها من المشاعر الأخرى.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.