قصيدةُ الشاعر ولصوصُ الأثر

هواجس شاعر يتمشى في غابة محترقة
الأحد 2022/05/01
لوحة: شادي أبو ريدة

عندما سيطويهم النسيان ستجد نفسك تمشي أيضاً. تواصل ذلك المشي الذي بدأته، بلا هدف آخر سوى أنك تريد أن تمشي. ذلك هو قدر الشاعر. لكنّ الآخرين يرون في هذا المشي صعوداً. بعضهم يصفق لك بحب، وبعضهم يصفق لك لأنك قادر، وبعضهم ينظر إليك بحسد ويتمنى لك أن تسقط وتدق رقبتك. أما أنت، فأنت لا تصعد، أنت فقط تمشي. تغذّ السير الذي هو قدرك، لا ترى فكرة الصعود من أساسها. إنك تشعر فقط أنك تتحرك، تشعر بقوتك وتشعر باندفاعتك، ولا تملك لهما دفعاً. تلك هي محنة الشاعر وجمال قدره أيضاً. ولكن من تخاطب.. لمن تقول مثل هذه الكلمات. يجب أن يكون هناك محاورون جميلون وإلا تحوّل العالم إلى مستنقع كبير، وستجد على الدوام آخر يصغي هو الذات الفخمة العاطلة والمعطوبة.

لذلك قلت إنك تنظر إلى نفسك من باب موارب، عادة ما نسميه بالمرآة، فترى شخصاً وتهتف: من هو؟

أأنا هو؟

***

بأيّ عين يمكن للشاعر أن يرى عالماً تساق فيه الضحية إلى مصرعها وتطالب بأن تعتذر لقاتلها على ملأ مخدَّر؟ عالم يسوق قتلته الأنيقون الإنسانية المعذبة إلى كاميرا التلفزيون وينحرونها هناك بكل أدوات القتل، ملطخين بدمها وصرخاتها مساءات البيوت هي وأطفالها وضيوفها وعشاءاتها، من دون أمل في رفة شعور تبعث على الرحمة؟ بأي حواس تُستقبل الخسة بينما هي تتوج أميرة على القلوب؟ وبأي فكر يقلب الشاعر في الشهور والسنوات بحثاً عن الحقيقة!

***

لقد تحول المسيح إلى شعوب لا تحصى، والعالم صليب كبير. وإذا كان عيسى بن مريم قد وجد مجدليته، فإن المصلوبين الجدد في الألفية الثالثة لم تترك لهم روما الحديثة من نصير.

أوليس عالم الشاعر بعد هذا التوصيف حديقة لا تشبهها إلا المقبرة؟

قصيدتي هي بصيرتي الدامية في عالم كل ما فيه بات ينتمي أكثر فأكثر إلى دنيا الجريمة.

***

عندما تتجلى القصائد في خيالات أقرب إلى الكوابيس والهواجس منها إلى بستان الألوان الضاحكة في وجود ضاحك. إذّاك نحن ننفذ من قشرة الوجود إلى لبّه نحو الأعمق من الكينونة.

والشعر الذي يطلع من الأعمق هو شعر جارح ويائس وحزين بالضرورة. وما قصائد الشعراء، التي يمكن للمستقبل أن يعتدّ بها، إلا نداءات يائسة، صرخات أناس في عالم يغرق. الشعر هو الصوت الحقيقة الذي اغتيل في الإنسان، في عالم مُرهق من ألم الخيانة والجريمة، فهل بقي له إلا أن يُضاء بالكوابيس؟

***

لوحة: شادي أبو ريدة
لوحة: شادي أبو ريدة

كل قصيدة يكتبها الشاعر هي جملة في رسالة تودّع العالم بينما هي تستقبله، وإذا كان عمل الشاعر مع الكلمات هو عمل في المستقبل، ومع المستقبل، فإن فكرة الوداع نفسها تصبح التباساً كبيراً. ومهما كانت قصيدة الشاعرة موارَبة في قصدها، وفي زينتها ولعبها، فطاقة الحدس والخبرات الشعورية العميقة التي تبني الرؤى الشعرية أورثت شاعرها منذ أقدم الأزمان الحس الفادح بالفقد، بالهارب من الزمن، والهارب من الجمالات، وإذا كان الشاعر هو ذلك الطفل المغترب أبداً في مرايا العالم، فإنّ أساه الحقيقي يبدأ عندما يكتشف أن شغفه الذي لم يتوقف في البحث عن خيالات طفولته يواجه بنصال الزمن والمواضعات اليومية المعادية لكل ما هو طفولي في مجتمعات لا تدين للسجية الإنسانية، ولا للعفوي، بمقدار ما تدين للقناع الاجتماعي وأعماله الشريرة.

الشاعر هو طريد القلب. هل للقلب مكان وعنوان دائمان ومعترف بهما في العالم؟ كل لقاء يحضر فيه الشاعر هو لقاء أخير، هكذا يشعر مع كل قصيدة، كل رفة فرح هي عبور هارب. وبالتالي فإن كل قصيدة هي، بطريقة أو أخرى مرثاة.

***

أول قبلة طبعت على شفتي امرأة في كهف أو في جوار شجرة في عراء الوجود هي أول قصيدة حب، وكلماتها سرّ ضائع. مذّاك ونحن نكتب القصائد لنعثر على الكلمات.

***

هل يحق للشَّاعِر أن يَتَكَلَّم عن شعره؟ كم يحق للشَّاعِر أن يَتَكَلَّم عن تجربته الشِّعْرِيَّة؛ أعْنِي أن يخرج من نفسه وينظر إليها من مَيل آخر، ومن ثم يقدم لنا شهادة؛ أن يخرج من نفسه ليقولها بلغة أخرى غيرَ لغة الشِّعْر؟ وهل لِهَذا الخُروجِ مِنَ النَّفْس أنْ يعني أن قَصِيْدَة الشَّاعِر لم تكن كافية، لأنها ليست كُلَّ صوته؟

أيّ شك يعتريني، الآن، وأنا أخرج من الشَّاعِر لأتخذ لنفسي موقع المتلصص على نفسه. لطالما اعتبرتُ الفنان شخصاً متطرفاً.. إنَّهُ رؤيوي بصوت إنساني. مخيف، بِالنِّسْبَةِ إليَّ، أنْ يكونَ المرءُ نَبَوِيَّاً كما اقترح بعض شُعَراء الْعَرَبِيَّة الذين سبقونا إلى كِتَابَة شعر جديد.

والآن، أتساءل بين متسائلين آخرين قاربوا أسئلة مشابهة، إلى أيّ مدى نحن شُعَراء حداثة؟ وما الحَدَاثَة، وقد حوّلتها ممارسات قولية سقيمة إلى عُقْدَة؟

وإذا كان الشِّعْر قد تغيّر، فلماذا لم تتغيّر الرؤى العميقة المحرّكة للشَّاعِر، والباعثة على الشِّعْر، لماذا لا يكفّ الشَّاعِر الْعَرَبِيّ عن توقع إمكان لعب دور البطل المتفوق على الزَّمَن، بدلاً من أن يكون شخصاً في قرية أو مدينة؟

هذه أمور طالما شغلني التَّفْكِيْر فيها، وحضّني انشغالي بها على عدم الاكتفاء بقصيدتي، فقصيدتي اقتراح جَمَالِيّ خاص رغم أنه يبلغ عندي درجةَ الضَّرورة.

هل أستطيع أن أتكلَّم عن نفسي دون أن أسقط في فخ الانتماء إليها بصورة صارخة، دون أن أتشرنق وأتوارى حيث يبدأ الْوُجُود وينتهي في شخص واحد؟

فلأجرّب إذن طريقة أخرى، ولتكن رحلة بين مجهول النَّفْس وشمس الورق.

***

كيف يولد الشعر؟

يا له من سؤال، إنما في حركة الكلمات يتحول الزمن بكليته الى حجر. ليكن ألماساً، لكنه حجر يطوّح به الشاعر نحو الأقصى من الوجود، ونلمحه في الشعر كشهاب يندفع، ونسمّيه، من ثم، انخطاف القصيدة نحو جاذبية قوية. لكن الحجر ما يني يرتد عائداً الى المدار كفلك مضيء مغر.

هنا مشابهة ليس في أصلها اختلاف جذري مع حالة الصخرة التي يحملها سيزيف من الهاوية ويرتقي بها الجبل الى القمة، حيث ما أن يضعها حتى تفلت وتعود فتستقر في القاع، وليعاود إلى ما لا نهاية النزول إلى الهاوية والصعود إلى القمة.

طغيان الجاذبية، وعناد الأشياء يصنعان قدر الإنسان المضاد لحريته، وانفتاح الحرية على الموت.

***

إذن، من تحول المرئي عن عاديته إلى غموض ينادينا لنكشف سره يتلغَّز الجمال، ومن هبوب الفراغ، من مغادرته شيئيته ليعبر الحواس ويتحقق كخلاء حيٍّ ينذرنا بولادة ما يولد الشعر مفاجئاً ومدهشاً، ومخيفاً في طاقته، وغموضِ خروجه من عماء الحواسّ إلى نور الكلمات.

***

هناك شعراء يملكون مشاعر مركّبة ومتناقضة بإزاء قصائدهم، مشاعر تدخل فيها عاطفتا الحب والكره، وكذلك الخوف، وربما أحاسيس هي أثر من غبطات جسدية هاربة. ولا غرابة في الأمر. أولم يشبّه شعراء ومعهم نقاد لحظة ولادة القصيدة بذروة النشوة، يكسر برقها الصُّلبِ.

أو تكون القصيدة حقاً أثراً مما هو خاطف في لقاء جسدين عاشقين؟

والسؤال الآن: من كان الطرف الثاني في لحظة الشاعر عند ذروة الخلق؟ أهي امرأة؟

ذات أخرى؟

أم هي اللغة؛ كائنها السري؟

***

أيها الشاعر، إذا ما ابتأست لأنك اكتشفت أمراً غريباً، أمراً يشبه مطاردة عبثية، خالف مزاجك، وابتهج لأنك السهم والقوس واللاعب والمرمى. لا تترك للذين يعيدون تدوير كلماتك وطرائقك في الشعر ان يتمتعوا طويلا بما عبثوا به. غادر سريعاً إلى موقع آخر، وإلى أن يكتشف قصاصو الأثر موقع خطوتك الأخيرة، وقبل أن تنهض إلى أرض أخرى، قبل أن يكون لك جناحان جديدان، قبل أن تحلّق وتتوارى، انشر من حول نهضتك ضباباً تضف عقبةً مفاجئة تؤخر لصوص الأثر في الوصول إلى قصيدتك الجديدة.

لا حياة للشعر من دون مقلدين ينغصون على الشاعر حياته القصيرة.

 

لندن في 1 أيار/مايو 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.