قلق البوح وسؤال القصيدة

قراءة جديدة في يوميات الشابي
الأحد 2025/06/01
بريشة بهرام حاجو

قلق البوح وسؤال القصيدة

قراءة في يوميّات الشّابي

– لماذا حدث الأمر بهذه الطريقة دون أيّ طريقة أخرى؟

– لأنّه هكذا حدث، والصّدفة تخلق الموقف

“تولستوي”

تعود نشأة اليوميات إلى زمنٍ بعيدٍ، لكنّها نشأة جِبِة وفِطرة، لا نشأة تأصيل ودراية.

فحين بدا إنسان العصور الأولى يفهم وجوده ويقنع بيومه يُراكمه يوم آخر يضيف إلى ذاته طبقة شعور تبني النّفس وتحفر في الوقت تأصيلا لمعنى وتكثيفا لغاية، تجاهلها هذا الإنسان أوّل الأمر، وحين تواضع عليها وطبّع معها، صار يبحث عنها، ثمّ صار يسعى لتخزينها تخليدا لوجودٍ ومغالبة للفناء وإنشاء لصور منحوتة في الصّخر والجدار يراها إنسان آخر في غد بعيد، يفهم بها ماضيه ويدرك نسغه الأوّل في جسد الحياة.

بعد ذلك مرّ الزّمن، وتواصل فعل الإنسان حتّى بلغ العصور الوسطى فطغى الدّين عليه وسيّج الإيتيقيّ يومه، وأضحى يبحث عن خلاص روحيّ من دنس المادّة والدّنيا، فإذا به يسجّل تجاربه الرّوحيّة ومعتقداته الدّينيّة، ويوثّق آثام يومه طمعا في شهقة نفسٍ ومحو خطيئةٍ وذهاب ندمٍ

لقد  كانت اليوميّات طريقه لتطهير روحه من دنس غرائزه وسبيلا ساميا لجلد الذّات وأملا عظيما في غفران الرّب وتجلي الذّات في الغيبي المطلق.

ثمّ توالى الزّمن أو طوى الدّهر أحقابه الأولى حتّى بلغ بدايات القرن الرّابع عشر حيث عاشت أوروبا نهضة ثقافيّة وفكريّة، وتخص الإنسان من هيمنة الجماعة وسلطة المجموعة وأضحت للفرد قيمة في ذاته منعزلا عن أيّ آخر أو آخرين.

وحين تحرّر هذا الفرد أخيرا وأضحى ليومه قيمة أكبر وصار أكثر ارتباطا بجوهره الفرديّ الموغل في الفردانيّة، طفق يسجّل يوميّاته الخاصّة ويبئّر على ذاته وما ينتج فيها من عواطف وهواجس وطموحات وما يخدشها من آثام وذكريات وحنين.

أخذ هذا الفرد يسجّل يوميّاته ويتفاعل مع ذاته رغبة في محاصرة الوقت الذي يعنيه وحده وكأنّه يريد وضعه في كرة بوريّة يشاهده وقد أراح قلبه من فقدانه.

شيئا فشيئا تراكم فعل كتابة اليوميّات، ونال بفعل المراكمة هذا، مشروعيّة إنتاج ثمّ مشروعيّة أدبيّة زادها الخطاب النّقدي ترسيخا وثبوتا، فتحوّل وجودها من الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوّة.ومع تطوّر الممارسة ونضج التّجربة صِرنا نجد أدب يوميّات أكثر عمقا وأشدّ دراية بضوابط أدب الذّات وشروطه ونواميسه، بل، وأكثر تطوّرا وانفتاحا على أجناس الأدب الأخرى.

بناء على ما تقدّم، سنقف على يوميّات أبي القاسم الشّابي، باعتبارها نموذجا لأدب اليوميّات الذي أطلق جناحيه وطار في كبد الجديد.                                                         

ليس ما يكتبه الشّابي أدبا فحسب، بل هو فلسفة وجود وأسلوب حياة..

متح من ذاته القلقة ملحا لجرح لم يندمل وحوّل العالم إلى قصيدة مريضة بالغربة والجمال، إذا اشتدّ وميضها زاد ظلام روحه وإذا اتسع مجالها ضاقت به سبل الخلاص.

شاعر، مسكون بالشعر حدّ النخاع، فإذا بكل ما كتبه من أدب يتحوّل لحظة التقبّل إلى قصيدة، وكذا الأمر بالنسبة إلى يومياته، وهي من النثر جنسا في القول، ما فيها من شعريّ يطفو بها من أعماق النثر إلى علياء الشّعر..

في وجدانيّة اليوميات: قلق البوح

تتنزّل اليوميات ضمن أدب الذات، وهو جنس أدبي راسخ في الواقعيّة والتوثيق الأمر الذي يجعل من النثر نمط الكتابة المثالي له لما تتيحه طبيعته البنيوية وأنساقه الإبداعية من سرد زمني ودرجة كتابة تقترب من الصفر. ولذلك أكّد فيليب لوجون منذ كتابيه المؤسسين لجنس السيرة الذاتية وما اشتق منها من أدب الذات “السيرة الذاتية في فرنسا” 1971 و”الميثاق السيرذاتي” 1975 على الشكل النثري للكتابة الذاتية..

ومع أن الممارسة والزمن رسّخا هذا الإطار النظري حتّى أضحى من البديهيات إلا أنّه من التجارب ما شذّت عن ذلك وحادت عن النثر نمطا لكتابة أدب الذات فاتخذت من الشعر نمطا بديلا على غرار “حالات الطريق” للصغير أولاد أحمد أو “أما أنا فلأي فردوس” لعادل المعيزي أو يوميات أبي القاسم الشابي التي حافظت على شكل النثر لكنها عجنته بعجينة الشعر حتّى تخمّرت عناصرها وذابت بنياتها الأولى في شعرية الشابي الخالدة..

امتدّت يوميات أبي القاسم الشابي من الأربعاء 1 جانفي 1930 إلى 6 فيفري 1930، وهي فترة زمنية حادّة على البلاد التونسية وعلى ذات الشابي في آن واحد، ففيها ظهرت حركات سياسية ونقابية وبرزت نخبة مثقفة أقدمت على إصلاحات اجتماعية و سياسية وتجديد أدبي كان الشابي من روّاده.

زد على ذلك المرض الذي اشتدّ به ووفاة والده 1929 والقلق الروحي الذي داهمه ومافتئ يعبّر عنه في كل ما كتبه تلك الفترة. ذلك كله، جعل من الشابي ذاتا قلقة تحمل همّ مجتمعها وتشعر بمسؤولية المساهمة في تطوير الثقافة، ذاتا، ينهشها المرض والخوف والتيه النفسي والتمزّق الوجودي..

وعلى ذلك، جاءت اليوميات موغلة في الذاتية تنهل من الوجع وترسّخ للمحتمل.. فلم تركّز إلا على معاناة الأنا الكاتبة في يومها ولم تلتفت إلى غيرها إلا عرضا وهو سلوك إبداعي رومنطيقي يجعل من الذات الموضوع الكامل والوحيد لأي عمل إبداعي.

فالشابي كتب يومياته بمنطق الشعر وعبّر عن المعاني الرومنطيقية التي عبّر عنها في شعره على غرار معنى الغربة والاغتراب، يقول في يوم الثلاثاء 7 جانفي 1930:

“أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هاته الغربة الأليمة” (أبوالقاسم الشابي، اليوميات، نقوش عربية، 2009، ص 38) أو معنى الوحدة والهروب من الواقع إلى الماضي البعيد أو المستقبل المستحيل يقول في يوم الأربعاء 1 جانفي 1930: “أنا جالس وحدي في سكون الليل، أستعرض رسوم الحياة، وأفتكر بأيامي الجميلة الضائعة، وأستثير أرواح الموتى من رموس الدهور.. ها أنا أنظر إلى غيابات الماضي، أحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب” (المصدر نفسه، ص9).

من الجليّ إذن، أن الشابي استحضر في كتابة يومياته المعاني الشعرية التي بثها في ديوانه أغاني الحياة ونهل من وجدانه، فقط، مواضيع أيامه التي كتبها ولم تكن يومياته توثيقا لزمن محدّد فيه تفاعل الأنا مع الآخر بقدر ما كانت تثبيتا لصراع داخلي عميق بين الأنا ونفسها، فكانت اليوميات فعل إبداعي علاجي وتأملات أدبية نثريّة ارتقت بها وجدانيّة القول إلى التأملات الأدبيّة الشعرية.

يوميّات أبي الشّابي: تجاوز أدبيّات الجنس الأدبي وسؤال القصيدة

أقرّت بياتريس ديدييه في كتابها “اليوميّات الخاصّة” مجموعة من الأدبيات التي تحدّد خصائص جنس اليوميات وتميزها عن غيرها من أجناس الذات الأخرى، غير أنّ الشابي في يومياته وإن تقيّد بالكثير من هذه الأدبيات على غرار مبدأ التأريخ فإنه حاد عن بعض الأدبيات الأخرى كمبدأ التراكم ومبدأ التوثيق والواقعية، الأمر الذي يفتح المجال للشعري في بنية يومياته.

من أهم سمات اليوميات هو صفة التراكم والسيلان، إذ على الكاتب أن يكتب بصفة منتظمة ومتلاحقة لا تكاد تتوقف إلا بتوقف حياة صاحبها لأنها كتابة تنسج من إيقاع التلاحق اليومي، فهي كتابة منفتحة تتسم بالسيلان، لكن يوميات الشابي انتهت بعد شهر ويومين فقط، فضربت بقوة إحدى أهم خصائص هذا الجنس الأدبي.

ولعل هذا التجاوز لا يفتح الباب أمام الشعري لولوج اليوميات، لكن، في المقابل، يمثل تجاوز مبدأ التوثيق والواقعية جسر عبور للشعر..

إذ على كتابة الذات أن تتقيّد قدر الإمكان بالصدق والواقعية حتى يحافظ هذا الجنس الأدبي على طابعه المرجعي، ويتطلب هذا الأمر الاعتماد على لغة تقريرية بسيطة تهدف إلى توثيق أهم لحظات اليوم بكل صدق وأمانة، لكن لغة يوميات الشابي تنزع إلى التخييل والمجاز وتلتحف بشعرية مرهفة تحجب في الكثير من الأحيان صفة التوثيق وتصبح واقعية الكتابة رهينة قدرة القارئ على التأويل فتخفت بذلك الوظيفة الإبلاغية وتتعاظم الوظيفة البلاغية.. وهنا، تماما، يولد الشعر.

اللغة الشعريّة في يوميّات الشابي

 

بريشة بهرام حاجو
بريشة بهرام حاجو

نستطيع أن ندرس يوميّات الشابي، وهي نثريّة، بأدوات الشعر، وذلك للشعريّة الكبيرة الموجودة فيها، وهي شعريّة سمت بالكتابة إلى مرقى جمالي مميّز، يمتزج فيه جسد النثر بروح الشعر في جوّ رومنطيقي خاصّ.. وسنقف بالخصوص في هذا المستوى على دراسة المعجم الشعري والصورة الشعرية.

المعجم الشعري

تمثّل دراسة المعجم الشعري أداة فنيّة هامة تساعد الباحث على استجلاء معاني النّص الشعري وتبيّن طبيعته الدلاليّة. ويتمثّل المعجم في “قائمة من الكلمات المنعزلة التي تتردّد بنسب مختلفة أثناء نص معيّن، وكلما ترددت بعض الكلمات بنفسها أو بمرادفها أو بتركيب يؤدي معناها كونت حقلا أو حقولا دلاليّة. وهكذا، فإذا ما وجدنا نصا بين أيدينا ولم نستطع تحديد هويّته بادئ الأمر فإن مرشدنا إلى تلك الهويّة هو المعجم” (محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 4، 2005، ص58) وعلى هذا الأساس نستطيع من خلال دراسة المعجم في يوميات الشابي أن نتبيّن روح الشاعر التي وشّحت جل قصائد ديوانه أغاني الحياة، خاصّة، استحضار الطبيعة ومعاني الحزن والأسى.

معجم الطبيعة

يحضر معجم الطبيعة  في يوميات الشابي بصفة لافتة، حتى عدّ مجال قول نواة يستدعيه الشابي كما يستدعي الشاعر الرومنطيقي الطبيعة، يفرّ إليها من غربة الواقع ويرى فيها الجمال الأبديّ والخلود المطلق الذي يجابه به نهايته المحتملة القريبة، وهو، إلى ذلك، الخلاص من كل تِيه والمرهم لكل داء. إذ يقول مثلا في يوم 1 جانفي 1930: “ها أنا أنظر، فأرى صورا كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحركت حواليّ كأنسام الصباح، وتعانقت حول قلبي كأوراق الجبل” ( اليوميّات، ص 9).

تبدو جلية كثافة معجم الطبيعة في هذا المقطع الوجيز (غيوم الربيع، أنسام الصباح، أوراق الجبل) فهي تتراءى له في خيالاته وتتجلى واضحة ناطقة في كل لحظة صفاء وتأمل الأمر الذي يبيّن مكانة الطبيعة عند الشابي ونزعته الرومنطيقية التي لم يتركها حين ذهب إلى النثر مجالا جديدا للإبداع.

معجم الحزن و الغربة والأسى

ممّا يميّز يوميات الشابي أنّها تعبّر عن معاناته التي استفحلت في فترة كتابته لليوميّات فجاءت محاكية لما يختلج في ذاته من معاني الضيق والتمزّق الروحي. إذ يقول في يوم 1 جانفي 1930: “أفكّر بأيامي الماضية التي كفنتها الدموع والأحزان” (اليوميات،ص9) أو قوله في يوم 7 جانفي 1930: “أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هاته الغربة الأليمة” (اليوميات، ص 38).

إنّ كل من العبارات التالية (الدموع، الأحزان، غريب، غربة، أليمة) تعزّز، دلاليا معاني الحزن والأسى في يومياته، وهي، لا تكاد تخلو منها يوميّة من يومياته المحدودة في الكمّ والزمان.

يعتبر المعجم الشعري، إذن، في يوميات الشابي، سبيلا لتبيّن شعريّة يومياته التي كانت المعادل النثري لديوان أغاني الحياة، وهو، إلى ذلك كله، حصيلة تجربة الشابي في الكون، قد اكتسبه بكدّ القريحة ووكْد الخاطر.

الصورة الشعريّة

 تذهب دراسة الصورة في يوميات الشابي بالإقرار بشعريتها، إلى أبعد مدى حتى تكاد تمّحي كل الحدود بين ما هو شعري وما هو نثري، فهي، إذن، كتابة تتموضع في اللاممكن واللانهائي، نقطة الجمال الأبديّة.

ومع أن يوميات الشابي مترعة بالصور الشعريّة إلا أنّها تقتصر أو تكاد على الصورة القائمة على التشبيه والصورة القائمة على الاستعارة، وهي أبسط الصور تكوينا وأيسرها تفكيكا من القارئ، ولعل الغاية من ذلك أن يشرك الشابي قارئه في محنته دون أن يوكل إليه محنة التأويل أو يضعه في أحراش الطريق، فتصل الرسالة أكثر ويكون التقبّل أكبر.

الصورة التشبيهيّة

 تكثر الصور القائمة على التشبيه في يوميات الشابي، وتصوّر، وجها، حركة نفسيّته مشبها لها بالطبيعة في هدوئها واضطرابها، يقول في يوم1 جانفي 1930: “أرى صورا كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحركت حواليّ كأنسام الصباح، وتعانقت حول قلبي كأوراق الجبل ثمّ أنظر فإذا رسوم غامضة مضطربة متقلبة كأمواج البحار” (اليوميات ص 9).

يصوّر الشابي، إذن، نفسيّته المزاجية التي تراوح بين الهدوء والقلق بالطبيعة في حالتي الهدوء والاضطراب وهي آليّة أسلوبيّة شعريّة تعزّز شعريّة يومياته.

الصورة الاستعاريّة

 تنوّع الصورة الاستعاريّة، رغم ندرتها، في يوميات الشابي من الفسيفساء التصويريّة لكتابته وتعمّق من شعريّتها أكثر فأكثر، وهي، مثل الصورة التشبيهية تجيء لتصوّر حالات الاضطراب الروحي والتمزّق النفسي والشعور بالوحدة والغربة. إذ يقول في يوم 7 جانفي 1930: “أما الآن فقد يئست، إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسه الجميلة” (اليوميات، ص38).

يستعير الشابي لنفسه صورة الطائر الذي يجوب دنيا العالم دون أن يجد موطنه، فهو الغريب في وطنه، الوحيد رغم الصحبة والأهل إلا أن استحالة التواصل بينه وبين الجماعة وعدم قدرتهم على الولوج إلى معاني روحه العذبة وتفهم أحلامه ومشاعره تجعل من اليأس مآلا وحيدا ومن الغربة قدرا لا مفرّ منه.

بنت لغة الشعر في يوميات الشابي، إذن، جسر عبور لامرئي وطافح بالجمال بين النثر والشعر.

الإيقاع في يوميّات الشابي: الشّعري في بنياته الأولى

 لعل أكثر ما يسبغ على يوميّات أبي القاسم الشابي شعريّة هو إيقاعها، وفي كتابة نثريّة، يتطلب دراسة هذا الإيقاع أن يعمل الدّارس في كل نص “إزميل الأركيولوجي الصبور المتأني ينزل من طبقة علوية في النص إلى طبقة أسفل منها وصولا إلى أغواره و بنياته الأولية الأساسيّة” (محمد آيت ميهوب، تقديم كتاب النزوع الدرامي في شعر نوري الجرّاح لأيمن باي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2018، ص17) حتى يقف على العناصر التي تتفاعل في ما بينها لتكوّن النسيج الجمالي الذي يحقّق إيقاع النّص ونغمه الخاص، الذي به، يصبح نص اليوميات نصا نثريا وشعريا في آن واحد.

واللافت في يوميات الشابي هو أن دراسة هذه البنيات الأولية للنّص لا يثبت  شعريّة الكتابة النثرية فحسب، بل يبرز عمق الصلة بين الأسلوب والدلالة، الأمر الذي يعزّز تفرّد يوميّاته وعلى هذا الأساس سنقف على دراسة إيقاع الحروف وإيقاع التراكيب باعتبارهما ضربا من ضروب إيقاع الخطاب الذي اختصّت به، أو تكاد، قصيدة النثر.

إيقاع الحروف

لا يحبك الشّابي يومياته باعتباط أو عفويّة، بل يذهب بكل نص إلى مخبره الخاص فيشرّح الكلام حتى يرى النسغ الأوّل فيضيف إلى كيمياء اللفظ عقّار الشعور ويكسو طبقة الخيال والمعنى بما يناسبهما من دقّة الحرف وصدق العبارة، يختارهما، بعد عمل مجهريّ مضنٍ لا يتسنى إلا لصاحب موهبة عظيمة ودراية لغويّة كبيرة.

إذ يختار الشابي الحروف التي ينسج بها الكلام بما يناسب معناه ويوافق شعوره ويحقّق بتآلفه ذلك شعريّة خاصّة فإذا بمعاني اللطف والراحة تحبك بحروف الهمس والرخاوة أما معاني الضيق والغضب فتحبك بحروف الشدّة والجهر.

ومن ذلك قوله في معنى السكون والوحدة في يوم الأربعاء 1 جانفي 1930: “أنا جالس وحدي في سكون الليل، أستعرض رسوم الحياة وأفتكر بأيامي الجميلة الضائعة، وأستثير أرواح الموتى من رموس الدهور” (اليوميات،ص 9).

يطغى على هذا المقطع حرف (السين) وهو حرف رخو ومهموس ينسجم مع سكون الليل وهدوء الوحدة ورخاوة التفكير..

ومن ذلك أيضا ما جاء في يوم السبت 4 جانفي 1930: “النهار صحو جميل كأيام الربيع، والشمس مشرقة سافرة، السماء مجلوة صقيلة تغمرها أشعة الشمس، فتنعش النفس وتستهوي المشاعر” (اليوميات،ص 22).

يغلب على هذا المقطع حرفي (السين) و(الشين) وهما، حرفان رخويان مهموسان، يحاكيان الهمس الذي يوفّره جمال الطقس والرخاوة التي تشعر بها ذات الشابي في انفعالها مع هذا الجوّ الجميل.

أما في يوم الثلاثاء 14 جانفي 1930 يقول، وقد تحوّل المعني إلى ضيق وقلق “أحسّ  بكآبة عميقة تستحوذ على مشاعري وتقبض على قلبي وتجعلني أكره الكتب والأسفار والمحابر والأقلام” (اليوميات، ص 60).

يغلب على هذا المقطع حرف (القاف) وهو حرف شديد من جهة درجة الانفتاح، وهي شدّة تحاكي شعور الشابي بالضيق والقلق.

من الواضح، إذن، أنّ الشابي واعٍ بتأليف الكلام بما يناسبه من صفات الحروف حسب مقتضيات الدلالة، إضافة إلى أنّه، يركّز على الحروف “التي تلفت الانتباه بهمسها أو بجهرها فتجعل اللغة قريبة من الشعر وتتآزر مع الصور والإيقاعات لتجعل النثر أقرب إلى الشعر ” (الهادي العيّادي، خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران، دار سحر للنشر، تونس، 2007، ص 131).

إيقاع التراكيب

 لم يغفل الشّابي عن العناية بالتراكيب، فقد حرص كل الحرص، في الكثير من المواضع، على أن تكون أبنية الجمل متوازية قصد إحداثها إيقاعا ونغما، ومن ذلك، يوم الأربعاء 1 جانفي 1930.

“أرى صورا كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحرّكت حواليّ كأنسام الصباح وتعانقت حول قلبي كأوراد الجبل” (اليوميات،ص 9).

تتواتر في المقطع المركّبات الإضافية في موقع المشبّه به، على نحو يحدث إيقاعا يزيد من شعريّة النّص ويقرّبه أكثر إلى الشّعر.. موطن الشّابي الخالد ومدينته الفاضلة المستحيلة.

إنّ استثمار الطاقات الصوتيّة الكامنة في اللغة وتوظيفها في اليوميات النثرية بروح الشّاعر الثائر القادم من غياهب الآتي والأبد.. تجعل من هذه اليوميّات، نموذجا فريدا لأدب خالد تغذّى من جماليّة التجاوز.

خاتمة لشيء لا ينتهي..

جميلة هذه اليوميّات، حدّ الوجع، وقاسية، كالبرد يضرب العظام، تأخذك إلى فترة موجزة من حياة شاعر عظيم فيدميك ضيقه ويحزنك تيهه في الطريق إلى الخلاص البعيد وتأسرك شعريّة القول وسحر العبارة وألق الصورة.. رغم نثريّة جنس الكتابة.

شاعر في الشّعر وشاعر في النّثر.. وشاعر في الحياة كلما درست أدبه انضافت إلى الحيرة حيرة أخرى، وحفرْتَ اسمه، مرّة أخرى، بماء الذّهب، في ذاكرة الثقافة العربيّة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.