كاليداس الذي مضى جهة البحر

فصل روائي
الأحد 2018/07/01
لوحة: محمد خياطة

حكى لنا أبي أن شجرة الرمان غرسها جدي هوانيس حين كان عمري أربعة أشهر. جلب شتلتها من بستان أحد الأغوات جنوب سيفان، وفي السنة الثالثة بدأت تثمر. كانت أمي تعتني بالشجرة كثيرا، وتلقمنا كمية من حبات ثمرتها عندما نُصاب بالإسهال، أو نعاني من مغص معوي، قائلة إنها تقتل الديدان الشريطية. وأحيانا كنت أراها تغلي مسحوق قشر الرمان المجفف مع أعشاب النعناع والزنجبيل والكمون، وتضيف إلى الخلطة ملعقة عسل صغيرةً لتحصل على مشروب قوي تستخدمه علاجا لبعض مشكلاتها الصحية.

لم تكن عندنا أَسرّة خشبية أو حديدية، كما عند أغلب الناس الآن، ننام على أفرشة نمدها على الأرض في الليل، ونلفها في الصباح ونركنها في إحدى زوايا الغرفة.

أحيانا كانت تتسرب إلينا، لا أدري من أين، حشرات قارصة، وتلسع أطرافنا، فيصرخ أحدنا أو ثلاثتنا معا، وتهبّ أمي من نومها وتأتي مسرعة لتهدئتنا بحكايات مسلية، تُفتننا بطريقة سردها، لكن بعد مدة صرنا نسأم من تكرارها، وأخذنا نطلب منها أن تقصّ علينا حكايات جديدة، فتضطر إلى الاستعانة بمخيلتها لخداعنا بحكايات مختلقة، إلاّ أننا كنا نقهقه بسبب ما يتخللها من هفوات، حيث كانت أمي تعجز عن حبك أحداثها، وتنسى بعض أسماء شخصياتها، أو تغيرها من دون أن تنتبه.

كانت قهقهاتنا بالطبع تثير غضبها، وتجعلها تفتح عينيها على وسعهما وتنعتنا بالشياطين، ثم ترغمنا على الخمود، وتعود إلى حضن أبي.

دخلت المدرسة الحكومية في سن الثامنة، وكنت أرغب في التعلم بمدرسة البنات، التي أنشأها المبشرون الأميركان مع مدرسة ثانية للبنين في بلدتنا سيفان، غير أن بُعدها عن بيتنا حال دون تحقيق رغبتي.

ليتني دخلت تلك المدرسة لأتعلم اللغة الإنكليزية، رغم أن الجيش العثماني صادر بنايتيهما في ما بعد، وحولهما إلى ثكنتين عسكريتين عندما أعلنت السلطنة النفير العام  وشاركت في الحرب.

كان التعليم مختلطا يجمع البنات المسلمات والمسيحيات واليهوديات، واللغة المستخدمة هي العثمانية طبعا، والكتابة بالأحرف العربية. في البدء استعصت عليّ كتابتها، حتى أن أمي، التي لم تكن نغفر لي أي هفوة، يئست مني، وصارت تقول لي “لن تفلحي، خير لك أن تتركي المدرسة وتساعديني في شغل البيت”. كان كلامها يؤلمني كثيرا، إلاّ أنه زادني إصرارا على التعلم، فنجحت أخيرا في السنة الثانية من المرحلة الرشدية (المتوسطة)، وشعرت بالسعادة كأني تخلصت من حمل يثقل كاهلي، وتماهيت مع دروسي، رغم رداءة خطي الذي لم يتحسن حتى السنة الثالثة، وبقائه مدعاةً لسخرية بعض زميلاتي.

عندما انتقلت إلى المدرسة الرشدية، في السنة الخامسة، كان درس التاريخ العام، إلى جانب الرسم، أقرب الدروس إلى نفسي، لأن معلمتنا الست زابيل لم تكن تلتزم بالمنهج الذي وضعته وزارة المعارف، وأغلبه مكرّس لتاريخ بني عثمان وأمجاد سلاطينهم، بل كانت تخرج عنه بين حين وآخر.

كانت تحدثنا عن تاريخنا الأرمني، وتعرُّض أمتنا إلى القمع والتهجير والإبادات، تقول إننا شعب هندو أوروبي عرقا ولغة، وإن اسم الأرمن مشتق من أرمينوس أحد زعماء مدينة أرمينوف في تساليا، وكان أجدادنا قد أسسوا قديما أربع ممالك عظيمة، وآخر مملكتين أسقطهما الغزاة السلاجقة والمماليك، الأولى في أرمينيا الكبرى والثانية في أرمينيا الصغرى، التي عُرفت بكيليكيا، وغيّر العثمانيون اسمها إلى ولاية أضنة. وكانت التجارة والصناعة في جميع موانئها ومدنها في أيدي الأرمن تقريبا.

لا أدري ماذا حلّ بمعلمتي المفضّلة زابيل، ربما اغتصبوها وعلقوها عارية على مشنقة كما فعلوا مع الكثير من النساء. كانت شابة عزباء جميلة ذات قلب نقي، وعينين واسعتين تظللهما أهداب طويلة، وكان جميع شبّان سيفان يخطبون ودها، لكنها ظلت تغض الطرف عنهم؛ عازفة عن الزواج، ناذرة نفسها لخدمة أبيها المقعد بعد موت أمها.

أتذكر أنها زارتنا مرتين، الأولى حين أخبرتها بأن أمي تلحّ علي أن أترك المدرسة. جاءت لتقول لها إن ما تفكّر به خطأ كبير، فلست وحدي مَن يعاني من صعوبة التعلم، وإنما هناك بنات كثيرات مثلي، ولن يطول الأمر حتى أتغلب على المشكلة. والثانية لما تعثرتْ أمي بالثلج في باحة البيت ووقعت على بطنها، وفقدت جنينها. يومها كانت حاملا في شهرها الثالث، فخسرنا فردا كان سيضاف إلى الأسرة.

عرفتْ معلمتي بالحادث في اليوم الثاني بسبب تخلفي عن الذهاب إلى المدرسة يومين متتاليين، فأتت صحبة معلمة الحساب وشدّت على يد أمي، وحثتها على اجتياز المحنة بالجلد والتحمّل، وأكّدت لها أن بطن المرأة مثل البستان تؤتي ثمرها على الدوام، والبركة في ما أنجبت.

يا يسوع كم كنت أحب معلمتي زابيل. كانت إنسانة نادرة في لطفها وعلمها وخصالها.

أولعت بالرسم في الصف الثالث الابتدائي، وكنت أرسم الأشياء التي تجذبني، أو التي تراها عيناي جميلة في الطبيعة كالأشجار والطيور والأنهر والجبال المكسوة بالثلوج، أخططها أولا على الورق بقلم الرصاص، ثم ألوّنها بأقلام الباستيل. لا أدعي أنني كنت رسامة ماهرة، لكن معلمة الرسم الست بهيجة كانت تقول إنني أرسم أفضل من زميلاتي في الصف، وغرست في ذهني فكرة إكمال تعليمي في مدرسة الفنون بالأستانة.

ظلت الفكرة تدور في رأسي، رغم أنها مغشية بالضباب، ولم أُطلِع أهلي عليها لأن أبي كان يريدني أن أخدم في الكنيسة، وأساعد الكاهن في الأمور التي تخص النساء، وأوزع الإحسان على الأرامل، ولا يني يذكّرني بـالقديسة “فيبي” شمّاسة كنيسة كنخريا في اليونان، التي تحدث عنها القديس بولس في رسالته إلى أهل روما، لكن ما آل إليه مصيرنا حال دون دراستي للرسم، كما حال دون أن أصبح شمّاسة.

يومَ نفينا إلى “دير الزور” كنت في الصف الأخير من المدرسة الرشدية، وفي غضون شطر من حياتي قضيته في كنف أسرة عربية بالموصل لم أجد صعوبة في قراءة ما يُعرض عليّ من كتابات بالعربية الفصيحة، إلا أنني كنت أعجز عن فهم معنى الكثير منها، رغم أني تعلمت اللغة التي يتكلم بها العرب، وكدت أنسى لغتي الأرمنية لولا حرص البدوية الشمّرية، التي تبنتني وأصبحت أمي الثانية، على اختلاطي بالأرمن الناجين من الهلاك.

لم تكن مدرستي تبعد عن بيتنا أكثر من نصف ميل أو أقل. كل صباح كانت تأتي صديقاتي في الحي ويصطحبنني معهن. في الطريق القصير كنا نغني أغاني أرمنية شعبية تتحدث عن القهر، لا لشيء إلاّ لنعزز شعورنا القومي، ونتحدى الأوباش الذين يحاولون إلغاء وجودنا.

لن أنسى ما حييت الصوت العذب لصديقتي مريم، التي كنا نناديها مريميك تحببا. كانت أكبر مني بسنتين، تزيّن شعرها بشريطين أحمرين يتدليان فوق أذنيها ويتراقصان مع الريح. شجّعها أبوها عازف “الدّدوك” الماهر على الغناء حين اكتشف جمال صوتها، وصار يعزف لها في حفلات أعراس أهل البلدة والمناسبات الدينية، وحبّب إليها ألحان الكاهن الشاعر كوميداس، الذي جال، متخفّيا، أكثر من عشرين عاما في العديد من القرى، وجمع المئات من الأغاني الشعبية من أفواه القرويين وصاغها وقدمها بشكلها النهائي. كان يسجّل بقلمه تلك الأغاني من حوله، لذا أطلقوا عليه تسمية الـ”نوتجي”. ويُقال إنه كان يبقى وحيدا في غرفته الفارغة، ويعيش حالة من الحلم بين تدفق الأنغام وعذوبة الأصوات.

لوحة: محمد خياطة
لوحة: محمد خياطة

رأيت كاليداس مرة واحدة في بيت مريميك، قبل نفيِنا بسنة، حينما جاء بدعوة من أبيها ليسجّل بعض الأغاني التي يحفظها مغنٍ شعبي من بلدتنا. وكم أفجعني نبأ أصابته بالجنون إثر إبادة بعض أفراد أسرته في مسقط رأسه كوتاهيا غرب الأناضول.

سمعت ذلك من سيدة أرمنية، على صلة قرابة به، في كنيسة اللاتين، بحي الساعة الموصلي. تذكّرتْه تلك السيدة حين عزف “أورغانست” أرمني على أرغن ضخم بالكنيسة لحنا شهيرا من ألحانه في الأحد الأول من الصوم الكبير، فابتلّت عيناها بالدموع، وحدثتها عن تشرفي بلقائه ذات يوم وأنا في الثالثة عشرة من عمري، فاستغربت قائلة:

- هل أنتِ من مُهجَّري كوتاهيا؟

قلت:

- لا، أسرتي من سيفان في الشرق، لكني التقيته عندما زار بلدتنا.

- طوبى لكِ. هل تحدثتِ معه؟ هل صافحتِه؟

- لا لم أتحدث معه، صافحته فقط، وجلست على مقربة منه وهو يصغي إلى مغن من أهل البلدة، ويدوّن أغانيه على الورق.

- نعم هذا ما كان يفعله في تجواله بين القرى والبلدات الأرمنية.

- إنه يذكرني بصديقة عزيزة كانت تغني بعض أغانيه، ولا أدري ماذا جرى لها ولأسرتها، اسمها مريم، وهبها الله حنجرة كأنها قُدّت من بلور نقي.

- لا تحزني، ما دام قد وهبها تلك الحنجرة فهو كفيل بإبقائها حية.

- أتمنى ذلك، رغم أن ما شاهدته من أهوال في قافلة المنفيين يجعلني أشك في بقائها حية.

- لا تتشاءمي، ها أنت حية، وربما تكون هي أيضا حية مثلك.

- أنا أنقذتني الصدفة، وليت مصيري لم ينفصل عن مصير أهلي.

- يا أمنا العذراء! هل قضى جميع أهلك نحبهم؟

- لا أدري، قصتي طويلة سأرويها لك ذات يوم، وتروين لي قصة نجاتك.

ظلّت مصيبة جنون كاليداس عالقة في رأسي لا تتزحزح طوال ذلك اليوم، ومن شدة تأثري بها لاحظت أمي البدوية علامات الحزن بادية على وجهي، فظنت أنني واجهت مشكلة ما في الكنيسة، أو أن أحدهم تحرّش بي في الطريق، رغم أن شبّان حي الساعة كانوا، في ذلك الوقت، يعاملون جميع المسيحيات واليهوديات واليزيديات في الطرقات والأسواق مثلما يعاملون أخواتهم، لكنني حينما أطلعتها على النبأ الذي نقلته لي السيدة شاركتني حزني.

ما أروعها من أم عوّضتني عن حنان أمي تامار.

في ذلك اليوم حلمت حلما مؤلما، وحال صحوتي من النوم دوّنته على ورقة كي لا أنساه. كانت مريميك رفقتي على ساحل بحر شاسع، نغني ونحدق إلى غروب الشمس، وفجأة سمعنا صوتا يأتي من خلفنا، وحين أدرنا رأسينا رأينا كاليداس يسير صوبنا حافي القدمين، مشعث الشعر، ينفخ في بوق يصدر صوتا أشبه بالنحيب، يتبعه جمع من الجندرمة يرفعون في الهواء بنادق ذات حراب مشرعة تحمل جماجم. ابتعدنا عن المكان قليلا وصرنا نراقب المشهد.

عندما بلغ كاليداس البحر توغل في الماء، واستسلم لأول موجة تغمر جسده، وشرع الجندرمة ينتزعون الجماجم من حرابهم ويلقون بها في الماء، فأخذت تطفو على سطحه مثل كرات مطاطية، وسرعان ما أحاطت بها أكاليل زهور مضاءة بقناديل ملونة انبثقت من أعماق البحر. عجبت من ذلك الحلم، وعزوته إلى انشغال ذهني بالمصير المفجع الذي انتهى إليه كاليداس العظيم.

لم أرَ السيدة التي التقيتها في الكنيسة مرةً أخرى لأحكي لها الحلم، فقد غادرتُ الموصل إلى بغداد بعد ثلاثة أيام لإتمام مراسيم زواجي، وعندما رجعت بعد بضع سنوات لحضور عزاء أمي البدوية في حي الساعة صعُب عليّ أن أسأل عنها، وأنا أجهل اسمها، ولا أتذكر ملامح وجهها. فضلا عن ذلك كنت قد استبعدت بقاءها في الموصل، قلت في سريرتي ربما رحلت إلى بغداد، أيضا، بهدف الحصول على المساعدات السخية التي كانت تقدمها الثرية الأرمنية سارة خاتون للمنفيين الأرمن، تلك المساعدات التي شملت توزيع أراضيها عليهم لقاء مبالغ مالية زهيدة. وعلمت حينها أن العديد من الفقراء الأرمن في الموصل قصدوا بغداد لهذا الهدف.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.