كلام في الجريمة والعقاب

رمزية القتل في الأسطورة والأدب والتاريخ
الاثنين 2019/04/01
لوحة محمد الوهيبي

I

هل تنتمي فكرة قتل الأب بالمعنى الرمزي إلى دنيا الجريمة التي يعاقب عليها المجتمع وتعاقب عليها ثقافة المجتمع، عقابا فعليا أو رمزيا، تنزله بالشاب صاحب الجريمة الذي قام بعملية قتل رمزي للأب؟ أم هي فكرة غير مستنكرة من جانب الثقافات الحية، ولا هي أصلا بالجريمة.

 أطرح السؤال في مناخ الملف الذي كرسته “الجديد” في هذا العدد للرواية البوليسية، وتضمن مقالات وموضوعات تحيط بالموضوع وتطرح السؤال عما إذا كانت شمس الرواية البوليسية العربية قد أشرقت، بينما شمس الرواية البوليسية الكلاسيكية في الغرب على أبواب الغروب، وعما إذا كان سؤال الرواية البوليسية العربية يختلف من حيث المبدأ عن سؤال الرواية البوليسية في الغرب، وعما إذا كان ما أنجز من روايات في اللغة العربية على مدار قرن من الزمان يسمح بالحديث عن ظاهرة أدب بوليسي عربي يمكن تقسيم تاريخه إلى مراحل، والوقوف على سماته العامة، وخصوصياته الفنية. ومن بين الأسئلة الكثيرة المطروحة سؤال طريف عما إذا كان يمكن لمثل هذا الأدب أن يولد في مجتمعات عربية ذات طابع بوليسي؟ أو السؤال الآخر عما إذا كان عجيبا أن نسوق السؤال عن الرواية البوليسية بينما نحن لا نستطيع أن نقرن -ولو من باب المقارنة- بين الجريمة الفردية في مجتمعات يحكمها القانون، والجريمة الجماعية في مجتمعات يحكمها الطغاة، ولا مكان فيها للقانون.

***

ما الذي حمل النقد الأدبي العربي على اختيار مصطلح الرواية البوليسية من بين مصطلحاتها الأخرى في الغرب لتسمية رواية الجريمة؟ وهل يمكن لهذا المصطلح أن يستوعب كل أشكال الأعمال الأدبية التي تتمحور من حول جريمة ما، أو تلك التي تقع فيها جريمة؟

وهل إن كل الروايات العربية التي انتسبت إلى الرواية البوليسية تملك مقومات هذه الرواية؟

هنا يمكن أن نطرح جملة من الأسئلة التي تجيب عن نفسها؟ هل إن روايتي “الكرنك” و”القاهرة 30″ تنتميان إلى جنس الرواية البوليسية، وهناك من يعتقد أنهما روايتان سياسيتان تكشفان خصوصا أن الأحداث والمرامي تكشف عن سلطة الاستبداد وأساليبها؟

 وبالتالي، هل يمكن، مثلا، لرواية “الجريمة والعقاب” لدسيتويفسكي أن تصنف في باب الرواية البوليسية، وهي عمل يقوم في مجمله على جريمة قتل، ولكنه يغوص في أعماق النفس البشرية، وقد ألهمت هذه الرواية فرويد ومدرسة التحليل النفسي مفاهيم نظرية وأعطتهم مفاتيح لفض البنية النفسية، والكشف عن الهو، وعن علاقة المكبوت الفردي بالمكبوت الجمعي وأشكال ظهوره.

وإذا ما عدنا إلى القراءة التفكيكة العميقة والبارعة التي أنجزها الناقد والفيلسوف الروسي نيقولاي برديايف لأعمال ديستويفسكي، وتحديدا “الجريمة والعقاب”، لا بد أن نجد أنفسنا أمام عالم يصعب تخيّله.

والسؤال السالف يقودنا أيضا إلى منطقة من التفكير النقدي الذي يميز بين رواية بوليسية استهلاكية، ورواية بوليسية سايكولوجية وأدبية رفيعة المستوى كتلك التي إليها تنتمي رواية “الغريب” لألبير كامو.

II

وبالعودة إلى فكرة قتل الأب، فعندي أن ما من شيء يدعو إلى الأسف على الإطلاق، أو حتى إلى الإحساس بالذنب أن نتأمل في فكرة “قتل الأب”، أو حتى تبنّيها، في الثقافة العربية. فهذه جريمة خلاقة لا ينبغي أن يعاقب عليها القانون. رغم ما قد يلوح فيها من قسوة. فالطرق التي تفضي بالأفراد والمجتمعات إلى حماية الحياة وصناعة المستقبل تقتضي ارتكاب هذه الجريمة الرمزية.

بل إن من الواجب حض الأبناء على المضي قدما في هذه الفعلة العظيمة المسماة “قتل الأب”، فالبطريركية الأبوية العربية قادتنا طوال القرن العشرين، وعلى كل صعيد، إلى كوارث ومهازل وخسارات، وأوقعت فينا الهزائم المنكرة، وأورثتنا تلك الشيزوفرينيا الضاربة حتى الأعماق منا، وجعلت من كل فرد منا اثنين: شخص شجاع؛ يحلم ويتطلع ويحاول رؤية النور، والانتماء إليه لشدة توقه إلى الحرية، في ساعة، وفي ساعة أخرى، شخص جبان، رعديد، قعيد الشعور بالعجز، ولشدة نكوصه على الأعقاب تراه مستأنسا ظلام البيت، ممتدحا رنين الأغلال في المعصمين. وهذان الشخصان هما واحد، باطنه معذب بظاهره المعذب.

لننظر إلى الحكام الشموليين العرب كيف يتمحور من حولهم كل شيء، ويتحول أكثرهم استبدادا، بشخصه المعبود، إلى حقل مغناطيسي لطاغية لا يهز ضميره هلاك جماعي، ولا بؤس في عيش الكثرة، ولا تخلف عن ركب الحضارة، ولا ألم مقيم في البيوت.

مثل هذا الطاغية هو الشاعر عندما تكون قصيدته هي النموذج المحتذى، والصورة المثلى ويكون هو الطوطم لقبيلة الشعراء، وهو رب البيت المتسلط على الأسرة زوجا، وهي أنثى مستسلمة، وأبناء ضحايا فكرة الأب عن نفسه سرعان ما يصبحون أشباها له فلا يكونون أنفسهم ولا هم يهتدون، وحاكما نظر في المرآة فلم ير فيها سوى ظلّ الله على الأرض.

***

نعود إلى السؤال عن ماهية الجريمة، هل كل مظهر من مظاهر القتل في الأسطورة والأدب جريمة؟

فما الذي يربط بين جريمة قابيل وجريمة أوديب في الأسطورة، وبين جريمة راسكولينكوف وجريمة مارسو في الأدب، وفي التاريخ بين جريمة نيرون الذي أحرق روما وجريمة رماة براميل الهلاك في شرق المتوسط.

نحن أمام مشكلة، ولسنا أمام سؤال، لأن تفكيك هذه الإشكالية يحتاج أكثر من إجابة عن سؤال متعدد الأوجه والأبعاد.

نيسان/أبريل 2019

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.