كلما دخلتُ حديقةً أو عبرتُ أمامَ بيت

الخميس 2020/10/01
لوحة: أزاندا يعقوب

ثلج مدينة قطنا

ساعة أو ساعتان كل ما أحتاجه من الوقت كي أجلس ثم أحمل سماعة الهاتف وأهذي مع إخوتي البعيدين، وبعض أصدقائي وهنا لا شيء بإمكانك تخيله، تغمض عينيك كي تتذكر كل الخطوط ومفارق الطرق البعيدة، صوت أبي لم يعد كما كان: شجرة ضخمة شاحبة يحط عليها طائر أسود، وفم لا يكاد ينطق. أبي الذي لم أعد أسمع صوته، اختفى وبقيت صوره القديمة وشرايين يديه البارزة، يقف وسط البيت صارخاً مثل ظل أو ضباب مستور وراء حجارة البراري. لم أفهمه في حياتي، فقط عندما كبرت عرفت سبب غضبه وهو يرفع سترته نحو السماء واصفاً لي شكل الرياضيات بلغة بورخيسية وأن الحديد بإمكانه أن يذوب بين يديه، وأنه كان يغتسل ويستحم بثلج مدينة “قطنا” أيام الشباب، ولا أعرف شيئاَ عمّا يقوله ولا مقدور لي غير أن أصغي ثم أهرب إلى الحمّام كي أبكي. كان الحمّام محرابي الصغير. هناك كنت أحلم وأدخن وأطير في البراري مع عصافير لونها غريب. عصافير اصطدناها ولا زغب على لحمها الأزرق. أبي الذي أحمله معي هنا في نيوجرسي، مازال صديقي إلى الآن، صداقة متأخرة مع الملاك الشاحب الوجه و الذي منحني اسم أكرم الحوراني.

من نيوجيرسي أسأل عنه أمي، أسأل عنه هذا الذي لم يحتمل أن يرى كل شيء يحترق أمام عينيه ولا يستطيع فعل شيء. هذا الرجل المولع بالمشي والذي إذا رأيتُهُ آتياً من بعيد أقفز من فوق الجسر كي لا يراني أتسكع في الشوارع، سقط في البيت، سقط كما هو نحو أعماق الأرض، وفقد النطق. الذي كان ينذرني بأوخم العواقب حين يراني شارداً مثل مومياء. سقط مثل نافذة البيت التي يأتي منها هواء الصحراء. سقط قلبي أيضاً لأن أشجاراً كثيرة احترقت فيه. لا نكهة للحياة بعد اليوم وصرت أؤمن بالأشباح وأرسمها على ورق مقوى. أريد أن أنحت ضحكته الآن. ودموعه التي لم أرها في حياتي. أب لايبكي. يا إلهي أب لا يبكي. لم أعد أسمعه، فقط أسمع ذلك الحنان واضطراب اللسان وقلة  الحيلة، أبواب بأكملها صارت موصدة أمامه ولم يبق سوى الشلل الدماغي والصوت الذي يتهدم على مهل. أسأل عنه أمي، وأمي شاردة مثل من ينتظر القطار في صحراء، شمس قوية لا تحب الفراق، تشرح لي أن المدينة بلا كهرباء، لكن ضحكته تضيء البيت.

***

أحاول التخلص من كل ذلك الهراء الذي اسمه ” الحنين”، مع ذلك يقفز فجأة كالصرصار من تحت السرير.

===============

الماضي

يبدو الماضي مثل رجل هرب لتوّه

من السجن وغاب عن الأنظار:

هو المرآة التي تتصدّع فينا على مهل.

==========

المنزل

الشرفات وواجهة البيوت

والمنزل الذي يشبه رسماً تخطيطياً للوحشة، غادرتُهُ فتيّاً.

الآن أراه فقط في الكوابيس مع الشمس الحادة التي كنتُ أظنها معلقة في خزانة الملابس.

================

كتابُ العمى

 جسدكِ، خزانةُ كتبٍ مرصوفة بعناية شديدة،

ينتظرُ الطرواديين

أن يوقفوا هذه الحرب.

ألمسُهُ فيقع كتاب “العمى” لساراماغو عن الرف.

أتأمل ساقيكِ المرفوعتين

فتنزل طيورٌ جريحة من الصفحات،

ويعرقُ الكرسي،

ودفةُ الباب،

والرجلُ الوحيد الذي بقربكِ.

===============

سينما باراديسو

 

الحزن يأكل قلبي.

أرى أنّ محادثة الأبواب وحواف النوافذ،

معانقةَ شجرةٍ باقيةٍ لوحدها تحت عامود الكهرباء.

أكثر جدوى.

أتذكر الآن الخمس عشرة سنة الأولى من حياتي،

حين كنتُ أخرج من السينما

مثل نابليون

أو بروسلي

أو رشدي أباظة،

أصرخ بكل ما أوتيتُ من عزم:

أنا صائد الفراشات

أقع عن الشرفات والسطوح بسبب طابة أو نكتة

ولا يصيبني الأذى،

تناديني أمي

فأصيرُ تمثالاً.

=================

هناك

 

حين تغيب الشمس في نيوجيرسي

أنظرُ طويلاً إليها تنزل في الوديان

متيقناً أنها ترتفع فوق سطح بيتنا هناك.

=============

أصوات

 

أصوات تأتي من النافذة على مهل،

أصوات تأتي من خشب الباب،

من الماء،

من لحم الهواء،

من الساعة التي على الحائط،

مثل أفريقيا التي تزأر في الليل.

مثل الغزلان التي تتفسخ تحت عين النسر.

مثل العري الذي يتركه أنين الخشب.

مثل قفل الباب الذي يرى كل شيء.

مثل المفتاح الذي في يدكِ.

مثل الطوفان الذي يترك وراءه الوحل.

يغرق كل شيء فيك،

ويبقى البيت مثل عربات الغجر

على ظهر الجبل.

================

المنزل

 

المنزل كله في الحقيبة  والأشجار وعناوين الشوارع:

مثل رائحة النبيذ القديم،

المكان الذي أذهب إليه

وأنا مغمض العينين.

==============

هل سنلتقي ثانية

 

صوتكِ الضعيف والمتقطّع الذي يصدر من فمٍ حيّ،

صوت كهذا، ومن دون تردد، سيعيدني إلى تلك الشجرة

التي تركناها عارية بعد الغزو.

الطفل الذي تعرفينه صار كهلاً،

يصفكِ الآن بكلمات قليلة،

ويطلُّ برأسه من بكاء سابق.

هي فقط مسألةُ وقت،

ويذوي عند باب البيت،

مثل جريح توقف قلبه فجأةَ عن الخفقان.

أتذكر انتظاركِ لي على حافة المصطبة،

خوفكِ عليّ بينما الأيام المضنية تتسمّر أمام الباب،

ولا نزال نحتفظ منها بشيء.

الخبز الذي تقاسمناه وبقي على الأشجار:

هنا يبدأ العالم وهنا ينتهي.

رائحتكِ التي بقيت على ثيابي

ووجهكِ الذي في غاية البساطة يطلّ من النافذة،

حين آتي إلى البيت قبيل الفجر.

الحبل المتأرجحُ بيننا،

الأعذار التي أرميها أمامكِ،

الكذبُ الواضحُ الذي كان جزءاً من خديعة

لحياة هي أشبه بحادث سير،

ومثل الجندي الهارب في بداية

فيلم “وحيداً في برلين” إلى نهاية المطاف،

بكل أحقاده القديمة،

سأجد الشوارع خالية من الذين أعرفهم،

وسأكون شخصاً آخر في أرض غريبة.

***

في وجهه تلمح قاع الأنهار،

وغرقى من أيام الطفولة.

============

سنموت بشيء آخر

 

من يعيد إليّ تلك الأيام التي سبقتني إلى الوديان،

الرفوف التي تركتها غرب دمشق،

والشّعر الذي كنتُ أمشي إليه بعين معصوبة؟

كلّ شيء ممكنٌ أمام المرآة،

بعد أن كتبتُ هذه القصائد عن الحياة التي عشناها خلسة،

ثم أضرمتِ جسدكِ بجسدي تحت شجر باب شرقي،

لذلك أتحسّسُ رائحتكِ كلما دخلتُ حديقةً

أو عبرتُ أمامَ بيت.

منقاداً إلى بطنكِ،

أتلمّسُ بتلات سرّتكِ، وبين فخذيكِ بوسعي

أن ألمحَ حليبَ الندم،

ودربَ التبانة الممدد حتى منحنى الظهر.

اختبأتُ في خزانة ملابسكِ

لأنني لا أملكُ بيتاً.

يسمونني الرجل المسكين الذي ينامُ لوحده

وهو يتجرّع السمّ.

ولأنه يعرف ما الذي جرى فجأة

سيعتذر عن الماضي كلّه،

عن العمى في فهارس الكتب،

عن أوضح صورة ممكنة لفرجكِ المرسوم

في مخطوطات البحر الميت.

ومثلما يرمي الملوك مجلدات الأسى في النار،

تركتُ لكِ قلبي في غضون دقائق،

ثم وقعتُ من نافذة البيت الذي يطلّ على نهر.

يدُ الجريح ربما هي الفجر،

الشيء الذي نتعلّق به:

صورةُ الابن على الحائط

القشرة الوحيدة المتبقية بيننا.

أريد أن ألمسكِ

كي أعرف ما الذي يحدث في المجاز،

ونكتشف أن الحب عديم الفائدة،

والهواء الذي نتنفّسه تحملينه على كتفك طوال النهار.

كلَّ ليلة أستحضر الشوارع التي كنا نعود إليها دائماً.

أخاف من الحرب حتى وإن توقفت،

ستظلّ رائحتها تطلعُ من ثيابنا المعلقة على السطوح.

جسدكِ كله مدينة مطفأة في صحراء ليبيا،

يذكرني بالجبال التي تسلقتها أيام كنتُ طفلاً.

ومن حوضكِ تقفز كلاب الصيد.

نتنهّدُ وبيننا الندوب:

صرخة واضحة جداً في الليل.

مثل كرسي فارغ في مقهى.

مثل لطخة دم على طرف الوسادة.

خذيه

نامي عليه،

وخبئيه تحت ثيابكِ،

دعيه يهوي من فوق الجرف:

بهذه الجراح المفتوحة

سنفكّ وثاق الأسير.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.