لسان ديك أعمى

الأحد 2023/01/01
لوحة: رينال ركاب

تغيب الحكاية حين يتهشم اللغو

“البلاد هنا” ألتفتُ إلى الخارطة. قلت “عليّ أن أصحح نظري فأنا لا أرى بلادا” صار يضحك حتى دمعت عيناه. يا له من عالم فكاهي. في المرة القادمة سأكون حريصا على أن تكون أجوبتي أكثر جدية. هو لم ير الهضاب ولا السهول ولا الأنهر ولا الجبال بل رأى بشرا كانوا يدبّون كالنمل. ولأن عيني المصور تلمعان من خلف عدسة التصوير فقد ابتسمت لكي لا يخترق ذلك اللمعان صدري باحثا في قلبي عن الألغام التي زرعتها جيوش الألم بعد أن انسحبت من قتال، اجتهد المشاركون فيه على ألاّ يطلقوا رصاصة واحدة في الأرض الحرام. يا لفتنة ما تفعله الأصابع وهي تخط على الماء أسماء لا يراها المرء إلا بقوة عاطفته. “لقد رسمتُ خارطة لتلك البلاد على صفحة الماء” لم أخبره بأني رأيت حقولا تمتد بين غيمة وأخرى في سماء زرقتها ملأت روحي وفاضت لتنتشر في جسدي وتغطيني فأختفى عن النظر. عدت إلى خزانتي مثل يد كانت تلوّح بزهرة من نافذة قطار قبل أن يدخل القطار نفقا مظلما. ما أصعب العيش لو أن الفتى حجر. لا ضحك ولا بكاء. لا شعر ولا نثر. لا سماء ولا أرض. ألا تغيب الحكاية حين يتهشم اللغز؟ كانت البلاد فكرة نسفتها الصورة مثل لغم. سأكف عن البحث عن المعنى لو أني أمسكت بشكلي. لو أن ظلي لم يسبقني ملوحا بمنديل أبيض للوداع.

سنة تضع ساقا على ساق

 البلاد تقع بين إصبعين. خاتم الأميرة الضائع تحت العشب يتشبه بصفرته ويروق له أن يأكل من يديها. في صحنها ملعقة وما من حساء وبيدها شوكة وعلى الطاولة سكين. أيها النادل تلك المرأة بشبحها اليتيم هي أمي. لم أخبرها أنني حين وعدتها بسنة غياب فإن ذلك يعني العمر كله. عمرها وعمري. كانت أعمارنا قصيرة. هل قلت سنة؟ فهي عمري. سنة تضع ساقا على ساق وتدخّن مثل فاتنة تنظر إلى طريق تسلكه الأبقار والعجول من غير أيّ أثر للحليب. الخط الأبيض المرسوم بطبشور هو آخر ما رأيته من تلك البلاد التي لا يزال دخانها عالقا بثيابي. أشم رائحتكم أيها الغرباء وأنتم تمدون أيديكم في الظلمة بحثا عن أثر لصابونة نسيها أجدادكم تحت المخدة. أكانت أحلامهم مصوبنة؟ تلك البلاد تحلّق مرة مثل فقاعة وتسقط مرات مثل فأس على جذع نخلة، كانت إلى وقت قريب معبودة. كلها صور بالأسود والأبيض بعد أن خطف الغبار الأصباغ كلها. يا صوتي الساقط من أعلى شجرة تين مجردا من الألوان لن تجد يوسف في قاع البئر ولن تضع زليخة على لسانها وهي تشمت بالنساء اللواتي قطّعن أيديهن مخطوفات بمرأى الملاك. تعال لنقف معا بين السدير والخورنق. فالعمر قصير والسنة تطول ولا يملك النعمان أسلحة خفية. كل ما لديه سلة تفاح ولوح خشبي وما من بحر قريب. هل ستقول لليلى إن الذئب التهم جدتها؟

لوحة: رينال ركاب
لوحة: رينال ركاب

في انتظار الوصفة السحرية

“أيها النهر لا تسر/انتظرني لأتبعك/أنا أخبرت والدي أنني ذاهب معك”. أقل من كيلوغرام من العاطفة وأكثر من كيلومتر تفصلني عن محلة الصنم. لم يكن هناك صنم. حين جلست على الطين مثل كائن بحري أخرجت رأسي فرأيت أصناما. قلت سأدعوها على الغداء لتحدثني عن ذلك الصنم الذي أقمت في ضيافته سنوات عديدة في قلب بغداد بساحة الطيران قريبا من جدارية فائق حسن في الجانب الجنوبي من حديقة الأمة. يوم كانت هناك حديقة غازي أجلسني والدي على سياجها والتقطنا صورة بالأسود والأبيض. كنت أرتدي دشداشة مخططة قصيرة فيما كان والدي يرتدي بدلة استلمها قبل يومين من خياطه الباكستاني. كانت الصورة من أجل بدلته. في النصف الثاني من القرن العشرين كانت عفيفة إسكندر هي سيدة المزاج البغدادي. حتى حضيري أبوعزيز القادم من الناصرية صار بغداديا وذهب إلى بيروت ليغني هناك. “عمي يا بياع الورد” صارت على كل فم. حين اختفت حديقة غازي كان هناك “تانكي” للمياه ولم تكن هنا محلة الصنم. لقد اختفت وظلت هناك ثغرة بين كنيسة الأرمن ومقبرتهم. كانت المدرسة الأرمنية التي درست فيها هي الأثر الوحيد الذي يقف بين ثغرة جغرافية وثغرة تاريخية. حين اهتديت إلى مقبرة الإنكليز في الوزيرية وهربت بصديقتي إليها تذكرت أنني نسيت أحد دفاتري مفتوحا في انتظار الوصفة السحرية التي وعدتني بالمضي وراء النهر.

 يضيء قلبك مثل حشرة

 بلاد لا تغمض عينيها على الريش. أرتاد المسافة بين أمسي وغدي بجناحي طائر نائم. سينام الكاتب بين سطرين. ينام المعجم على حافات صفحاته. لكن الكلمات تسقط من أعلى لترتطم بالأرض وتتشظّى حروفها. أمد يدي لألتقط أشلاء حروف متفحمة وأضعها على الجدار فلا أتمكن من قراءتها. ألأنني لا أرها أم لأن المسافة بين يدي وعيني هي عينها المسافة بين أمسي وغدي؟ أعدك بالنهر حين تصعد إلى الجبل وتمسك بذيل الغيمة. أعدك بقارب حين تغرق وتلتهمك الأسماك ويضيء قلبك مثل حشرة. أعدك بالليل حين يضيق نهارك بالفوانيس التي نفد زيتها. أفكر في النهار الذي أغمض عينيه على ليل أضاع قنديله في قاع بئر لن تلمسها غيمة بظلها. ولأن الخارطة من ورق وقدميّ من حجر فإن الطريق التي مشيتها صارت شقا يقيم فيه النمل أعراسه. ما من أحد سيأخذ بيدي لأصل إلى بلادي مثل يتيم مشرد. أقيم في الصوت ولا أشم رائحة للضوء الذي يتسرب من أجنحة الفراشات. ليست بلادي بابا ضيقا لأفكر من أجلها بسلامة نظري. لذلك لم أر ساقين ناعمتين وهما تتسلقان السلم الموسيقي. سأعجنك بالعشب الذي وطأته غزالتي التي هربت من شباك بيتي الذي تركته مفتوحا من أجل أن أحتفل بالحشرات الريفية. لو أني فتحت فمي لامتلأ لساني آهات. يا بلادي لقد سقطت أغنياتك من فمي قبل وصولي. لست سوى لوح أصم.

لا عقارب في ساعتها

“البلاد هنا” “مَن قال إن البلاد هناك؟” “ولكنك تبحث في الرمل عنها” “لكي أتعرف على معدنها” “الذي هو من هواء” “ولا شيء إذاً مما حلمت” أطرد بعصاي الغزلان التي شقت طريقها في ضباب غزلي لتقف أمام مرآتي وترى امرأتي التي تذوب في الزئبق كلما سقطت عليها نظرة غريبة. ليس سري أرنبا بريا ليركض. لقد صنعت من الرمل آنية تشرب الماء قبل أن يلمسه إصبعي. تلك بلاد ليس لها جدار لتتكئ عليه ولا تلبس درعا يقيها الرصاص ولا تجر بقرة، تشرب من حليبها. إنها الجملة التي استخرجت صمتها من الصخب. هي الفتاة التي سلمتها عذريتها إلى الشهوة. كلما وضعت يدا على خدها ابتلّت اليد بدموعها. كلما ألقت خطوة بعدت عنها خطوتها التالية. ولا عقارب ساعتها تدور في الفراغ. مَن لديه الجرأة لكي يريق ماء الحواس على عتبتك فلا تكونين مرئية ولا يُسمع لك صوت ولا تطير رائحتك في الغبار ولا يُلمس باب معبدك. في الوتر المشدود تجرحك الأغنية وتحومين مثل شبهة على رأس ملاك هارب من عباءته البيضاء. يا البلاد أما آن لك أن ترتاحي وتريحي. تجلسين على لسان ديك أعمى وتفلتين صيحتك كل صباح.

جُمل

أيها الغد ذراعاك قصيرتان وفمك ضيق

مثل بلبل أعمى سال نشيدي على ذراعيك

الفكرة ليست حصاة والقصيدة ليست حصانا

أنام على أمس تضم مخدته الرطبة شهوتي

زهرة من ربيعك تخلق خريفا من الغابات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.