مأزق أنف ضال

الخميس 2023/06/01
لوجة للفنان قاسم عثمان

رأيته قادما على البعد،  حاملا منديله فى يده، مغطيا به أنفه.. بدا سريع الحركة، يسير كأنه يهرول قاصدا هدفا ما..  بينما بدت عيناه كأنهما كهفان في أغوار وجهه المثلث الأبعاد،  تبسم وجهه حينما وقع علّىّ.. عبس وجهى.. كان المغرب تشتعل ناره في الأفق احمرارا،  بينما السواد يزحف متربصا بالأرجاء، وأنا أجلس على باب المقهى أشد أنفاس الشيشة،  وأمامي كوب الشاي.. سحب مقعدا وجلس إلى جانبى.

سأل: مازلت ترفض ؟

فتحت فمى فانطلقت منه أبخرة رمادية اللون،  تحجز بينى وبينه قبل أن تنطلق الى أعلى .

قلت: مازلت لا أفهم غرضك .

رفع المنديل عن أنفه..  قال:

- العرض بسيط..  أستأجر جزءا من جسدك لمدة عام..  وهذا طبعا في حدود الشرف والدين

نحيت مبسم الشيشة عن فمى.. انطلق الدخان هادرا في وجهه..  قلت متربصا: أي جزء تقصد؟

قال بسرعة مخيفة: الأنف !

بدا الأمر مبهما على نحو ما.. ربما لأنه اختارني أنا ليطلب مني هذا الطلب، وأنا المعلم صاحب المقهى.. قلت لنفسي..  يبدو غافلا.. أستطيع أن أؤجر أنفا من الباطن.. أرضى صاحبه بمبلغ زهيد، وأكسب أنا فارق الأجر.. استدعيت عاملا يدعى ماهر، وأجلسته بجانبي.. قلت: أريد أن أستأجر أنفك لمدة عام بمبلغ معقول.

نظر بعدم فهم.. أدرت وجهى عنه مشيحا بيدى قائلا:

- إذا رفضت عد إلى عملك.

نظر إلى وجهى جيدا، مستطلعا أمارات الجد فيه.. فتح فمه بحرفي اللام والألف.. لم يطاوعه لسانه.. تحرك إلى الأمام وعاد الى الخلف.. أخيرا حسم أمره وأقترب منى بوجهه هامسا:

- ومن قال إنني أرفض؟ أنا فقط أستفسر.

ربت كتفه برفق .

بعدها جاء الرجل المثلث الوجه.. قلت:

- أتيتك بأنف حسب المواصفات.. وأي إجراء أو اتفاق أنا الضامن له .

عبست ملا محه وضاقت عيناه وقال مؤكدا:

- ليس هذا ما أريد.

أمسكت بمبسم الشيشة وسحبت نفسا قويا منه.. نفخته محملا بضيقي مما سمعت.. عادت الأفكار تهرول في فضاء رأسي هامسة.. مؤكد يريد أنفا يعتد به.. أنفا ذا حيثية.. يستطيع التقاط أي رائحة يريد.. واخترت الولد حازم لهذه المهمة.. تحدثت إليه.. لم يفهم شيئا كسابقه، ولكنه أعلنها مدوية أنه موافق على ما أريد.. ضحكت منه.. وما هو الذي أريد؟ أطلق ضحكة هزت أركان المقهى وهو يقول.. طلبات المعلم.. لها درجة المعلمة على كل الطلبات..  

أحنيت رأسي تأثرا ولم انبس بحرف.. جاء الرجل.. أنهيت إليه الأمر.. عبست ملامحه وتكدر وجهه، وأشار بإصبعه السبابة مؤكدا:

- أريد أنفك أنت.

أزحت أصابعه عن وجهى قائلا:

- أذكر المواصفات المطلوبة وأنا آتيك بها

عاد يكرر:

- أريد أنفك أنت .

ألقيت مبسم الشيشة بدخانه بعيدا واستدرت إليه:

- هذا لن يكون.

قاسم عثمان

وقمت إلى داخل المقهى.. هرول صوته خلفي.. عدت بوجهي إليه.. رأيته فاتحا حقيبته الصفراء والنقود واضعة ساقا على ساق في جوفها، تنظر إليّ من أعلى.. بادلتها النظر بذات الكبرياء وعدت إليه.. ماذا تريد؟

قال بذات رنين الصوت البطيء، الذى يصل الأذن غير عابئ بوقت أو ظروف:

- أريد أنفك أنت.. بالمبلغ الذى تريد .

اندفعت متسائلا:

- وماذا ستفعل به؟ ستأخذه بعيدا؟

تبسمت عيناه ربع ابتسامة وهز رأسه نفيا.. قلت لنفسي فورا..  إنه ربما رأى في أنفي ما لم يره غيره، ومادام الأنف سيبقى والنقود المغرورة ستجيء، وأكسر فيها حده الكبرياء سأقبل..  

جلسنا نكتب العقد الذى أصر على أن يكون بيننا.. كنت قد أكدت له أنه لا داعي للعقود، حيث أننا نلتزم بالكلمة.. هز رأسه وأصر على ما يريد.. جلست مواجها له في مكتب المحامي الذى طلب منّي قراءة بنود العقد جيدا قبل التوقيع..  بعد إلحاح مددت يدي وبدأت القراءة.. عقد ايجار بين طرفين.. يتعهد فيه الطرف الأول بتأجير أنفه للطرف الثاني نظير مبلغ مادى كبير.. على أن يتعهد صاحب الأنف أن يكون الضامن لأنفه في أي طلب يطلب منه.. بحيث يتم التنفيذ فورا، وإلا أصبح بالتضامن مع أنفه مسؤولا أمام القانون .

- هل لديك إضافات؟

انتبهت للمحامي يسألني.. هززت رأسي نفيا.. تم التوقيع وتسلم كل منا صورة منه.. بعدها انتقلت الحقيبة الصفراء بما فيها إليّ.. نظرت إلى النقود متحفزا.. مقسما ألا أدعها تهنأ براحتها في هذا المكان، وسأبدأ فورا ببعثرتها فيما كنت أحلم به… قمت واقفا.. أشار إليّ أن أستمع..  قلت هات ما تريد..  طلب من أنفى أن يتشمم الأخبار والأحاديث التي تدور في المقهى، وأن يسجلها في تقرير يومي يقدمه إليه..  قلت محتجا:

- أنفى لا يكتب.

رد فورا بذات كبرياء النقود التي كانت ما تزال في الحقيبة شامخة:

- أنت متضامن معه.. بدليل أنك قبضت النقود عنه لأنه لا يقبض نقودا.

اضطررت تحت قوة حجته للصمت.

عاد ثانية بطلب جديد.. أن يقوم أنفى بالاندساس هنا وهناك..  لا يترك شيئا في المقهى أو حولها وباتساع الناحية كلها..  قمت معترضا بصوت عال:

- أنفى لن يقوم بهذا.

قال بهدوء واثق:

- اقرأ العقد جيدا وبعدها تكلم.

اضطررت للرضوخ.

/////////////////

لا أعرف من الذى أخبرهم في المقهى بالمهام الموكولة إلى أنفى.. رأيتهم في البداية يعترضون بكلمات مبهمة ذات أطر رمادية تحتمل التأويل.. تطور الأمر إلى تذمر هادئ.. أعقبه ارتفع صيحاتهم وأيديهم.. بعدها بدأوا يتحركون ناحيتي.. تراجعت إلى داخل المقهى مضوا خلفى.. ناديت عمالي..  تخاذلوا عنى.. اندفعت إلى الردهة العليا.. احتضنت الهاتف باحثا عن صوت الرجل المثلث الوجه.. أغلق هاتفه دوني..  صرخت بكل ما أملك من ذعر:

- ماذا تريدون؟

قالوا:

- أنفك.

اضطررت إنقاذا للموقف إلى قطعه وتسليمه لهم.. غير أنني فوجئت بآخر جديد ينبت مكانه فورا.. امتلأت نفسى سعادة ما دمت لم أخسر شيئا..  لكن سعادتي لم تدم طويلا، رأيتهم يتنبهون له، ويصعدون إليّ، مصرين على قطع الرقبة حتى لا ينبت آخر جديد!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.